31/10/2010 - 11:02

في عيد ميلاد جمال عبد الناصر/ د.يوسف مكي

في عيد ميلاد جمال عبد الناصر/ د.يوسف مكي
في الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1918، وفي ضواحي باخوس، من ضواحي مدينة الإسكندرية فتح الزعيم الوطني الراحل، جمال عند الناصر عينيه لإول مرة على الدنيا، في مرحلة تاريخية عصيبة. كانت الأمة العربية قد حسمت أمرها مع الإستعمار التركي. وكانت مصر، قلب العروبة النابض، قد وجدت نفسها مكبلة في معاهدات واتفاقيات مع البريطانيين والفرنسيين، تحد من حريتها وإرادتها. وتكشفت نتائج الحرب العالمية الأولى عن وقوع الأمة العربية، رغم تضحياتها وعطاءاتها تحت سيطرة الإستعمار الغربي. وكانت اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور هما التجسيد العملي لمرحلة الهيمنة الإستعمارية الجديدة.

نما الطفل وترعرع، ومع تفتحه كانت الأشياء تتحرك من حوله بسرعة. كان وهو شاب يلحظ بقوة معارك سعد زغلول ومحاولات شعب مصر للتخلص من قيوده، ومن جهة أخرى، كان يلحظ عجز القوى السياسية التي اضطلعت بقيادة مشروع التغيير وفسادها.. لاحظ بأسى، وهو طالب في الكلية العسكرية، ومن ثم وهو يدرس مادة الإستراتيجية لطلابه، كيف اندفع الصهاينة في تحقيق مشروعهم في اكتساب أرض فلسطين وتشريد شعبها، وكيف كانت المجابهة العربية الرسمية لذلك المشروع. تعلم وهو يدرس، ومن ثم يدرس الإستراتيجية العسكرية أن عمق مصر يمتد إلى أضنة شمال سوريا، وإلى جنوب السودان..

اكتشف أن مصر المنكفئة على ذاتها مآلها الإندحار والفناء. كانت دراسة الطبوغرافيا والجغرافيا السياسية للمنطقة، وقراءته لتجربة محمد علي قد جذرت وعيه بفكرة الأمة العربية الواحدة... وكانت تجربة حرب 1948م وفشل الجيوش العربية في هزيمة المشروع الصهيوني والدفاع عن فلسطين وشعبها قد قادته إلى ادراك عجز الدولة القطرية عن تحقيق التنمية المستدامة وبناء جيش حقيقي قادر على الدفاع عن الوطن. وكان يؤمن في أعماقه أن بناء الإنسان هو الطريق الصحيح لبناء الأوطان ومن هنا أصبحت جدلية الترابط بين الوحدة والحرية والتنمية والعدل الإجتماعي من بديهيات التزامه النضالي.

شارك في حرب 1948، وشهد بأم عينيه حصار الفالوجه، وتكشفت لديه خيانات الحكام العرب، وآمن أن الطريق الصحيح هو أن تمسك الأمة العربية بمصائرها وأقدارها، وأن تضطلع النخب العربية، في كل ساحاتها بدور أساسي في صناعة القرار السياسي، ودحر عوامل التخاذل والعجز. وهكذا انتدب نفسه مع مجموعة من رفاقه لعملية التغيير.. وأسس جمعية الضباط الأحرار.

وكان الشعب في مصر يلحظ كيف نخر الفساد والعجز كافة أجهزة الدولة، وكيف هرمت هياكلها، وأصبح جزء كبير منها تابعاً لهذا السيد أو ذاك، خارج حدود مصر، وبعيدا عن تطلعات شعبها وآماله في الحرية. وكان نداء الضمير يرفع عاليا شعار الكرامة.. الكرامة التي مثلث حق الإنسان في الدفاع عن الأرض والشرف والمقدسات والحقوق..

ويوم شب حريق القاهرة، كان الجميع في انتظار عاصفة ما، عاصفة تطيح بالرؤوس، وتعلن ميلاد فجر جديد واعد لمصر، تضعها في مكانها الصحيح في الخارطة العربية والدولية. وصبيحة الثالث والعشرين من تموز/ يوليو 1952م كان ذلك اختزالاً لكل الأماني والتطلعات وكان يوم الأيام..

كانت البوصلة واضحة بالنسبة لعبد الناصر، الإنسان هو الهدف المركزي، وحوله تتحلق جملة الأهداف الكبرى منها والصغرى. التعليم والعلاج المجاني وتوفير السكن والماء والكهرباء، وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتحقيق التنمية بخطى متسارعة. ومن أجل ذلك، وعلى خطى هذه الأهداف، تم تأميم قناة السويس وبناء سد أسوان، ومعامل أبو زعبل والصناعات الثقيلة في حلوان. وإعادة بناء القوات المسلحة بما يؤمن حماية مصر والدفاع عن الأمة العربية وآمالها في التحرر والإنعتاق.

خاضت مصر بقيادة عبد الناصر معركة البناء والتنمية، والعدل الإجتماعي.. وخاضت أيضا معركة الكرامة والدفاع عن الأمة العربية.. وترسخت في تلك المرحلة ثوابت مصر في الحياد الإيجابي وعدم الإنحياز إلى الأحلاف العسكرية، ودعم حركات التحرر الوطنية في الجزائر والمغرب العربي واليمن الجنوبي وعمان.. كما دعم ثورتي تموز في العراق وأيلول في اليمن الشمالي بدون حدود. وفي كل بقعة رفع المناضلون العرب فيها راية التحرير والإستقلال كانت ثورة يوليو بقيادة المعلم حاضرة تقدم الدعم والتأييد، دون قيد أو شرط عدا الإلتزام بثوابت الأمة ومنطلقات نهضتها وشموخها.

خاض عبد الناصر، بقوة وتصميم معركة البناء والدفاع عن الأمة العربية. انتصر في معارك كثيرة وخسر معارك أخرى. انتصر في عام 1956، عندما واجه العدوان الثلاثي الغاشم. وانتصر في معركة التنمية وبناء الإنسان.. انتصر في بناء جيش وطني.. انتصر في جعل مصر قبلة لكل الثوار في العالم.. وانتصر في الدفاع عن الجمهمورية باليمن.. وأكثر من ذلك فإنه انتصر في جعل الأمة العربية حقيقية حية، حيث أصبح النضال القومي في عهده محركا للنضالات الوطنية في الساحة العربية من محيطها إلى خليجها. وانتصر في جعل مفهوم الوحدة من بديهيات الثوابت في الوطن العربي الكبير. خسر في عام 1967 معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني في عدوانه بالخامس من حزيران/ يونيو، لكنه في تلك اللحظة أطلق صرخته الجلية "أن ما اخذ بالقوة لن يعود بغير القوة"، وفي مؤتمر القمة بالخرطوم عبر عن إصرار جماهير الأمة العربية وتمسكها باللاءات الثلاثة: لا صلح لا اعتراف ولا مفاوضات.. وكانت معركة الإستنزاف والصمود الأسطوري للجيش المصري في تلك المعركة هو التعبير الحقيقي عن الإلتزام بثوابت الأمة. وكان اكتشافه مبكرا جدا لأهمية أن يكون للفلسطينيين صوت منهم، ناطق بإسمهم، وممثلا لهم في المحافل والمؤسسات الدولية. ولذلك كان طبيعيا ان يكون دوره اساسي ومركزي في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. وفي مرحلة لاحقة في دعم كفاحها الوطني المسلح بكل قوة.

وأثناء مواجهة الفلسطينيين مع الملك حسين في حرب أيلول/ سبتمبر عام 1970م، وقف عبد الناصر مدافعا عن شعب فلسطين وعن الوحدة العربية، ودعا القادة العرب إلى تحمل مسؤولياتهم في الدفاع عن المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني..

ورحل عبد الناصر، إلى العالم الآخر، في فترة كانت أحوج ما تكون فيها لحكمته ونضاله وقيادته..

رحل عبد الناصر، ولم يزل ساكنا قلوبنا فارسا يأبى الترجل.. واستمر، بعد رحيله، محاربا رافضا أن يسلم قياد أمته ودورها التاريخي إلى عابث أو مستعمر أو متغطرس.. واستمر يحارب الغزاة الأمريكيون في العراق، ويدافع عن مخيم جنين، ويسقي العطشى ويداوي الجرحى في مخيمي صبرا وشاتيلا، بعد مجزرة شارون.. ويقود مظاهرات كفاية في شوارع القاهرة والإسكندرية وطنطا والمنصورة... وفي الأزقة والحواري حيثما ترتفع شعارات الحرية والكرامة.. بقي ولا يزال عصيا مؤمنا بشعبه، ومقاوما باسلا يأبى الترجل.

نم قريرا في فردوسك الأبدي فلا زال في هذه الأمة من يحملون نبضك ويدافعون عن قيمك ومبادئك.. نم وادعا فلا زال فكرك نبراسا نيرا لم يحن بعد ترجل فارسه.

التعليقات