31/10/2010 - 11:02

"كاريكاتورات شيطانية"...واعتذارات أقبح من ذنب/عبد اللطيف مهنا

هل هي، إذا ما شئنا التبسيط، سوى إهانة وقحة يستحيل احتمالها، وتطاول صفيق لا يجوز ابتلاعه، وتعدٍ فج لا يمكن السكوت عليه؟!

هذا التساؤل المؤلم، طرحته حكاية الصور الكاريكاتورية الدانيمركية على ما يقارب المليار والنصف من البشر الساخطين، هم من مختلف أو من متعددي الألوان والأجناس واللغات والثقافات، وفي أربع جهات الأرض... وعلى رأس هؤلاء جميعاً العرب مسلمين ومسيحيين... طرحته عليهم كل تلك المضامين الجارحة التي عنتها تلك الحكاية الموجهة باستخفاف شنيع لتلحق الأذى بمشاعرهم ومعتقداتهم، ماسةً نبيهم أو ما يرمز، أولاً، لجوهر المقدس لديهم، وثانياً، ما ارتكزت على رمزيته هويتهم وحضارتهم وموروثهم الثقافي القومي... نحن أزاء "كاريكاتورات شيطانية" أخرى تذكرنا بآيات سلمان رشدي الشيطانية سيئة الصيت والمضمون... لكن في المسألة هنا ما لا يخلو من مفارقة، وهي في كون أن الحدث وقع قبل خمسة أشهر لكن ردود الأفعال عليه، هنا في بلادنا العربية وعالمنا الإسلامي، بدت وكأنما هي واقعة حدثت للتو، أو أن أصحابها لم يسمعوا بما أثارهم إلا الآن، وقد يكون لهذا تفسيراً موضوعياً.

بيد أن لردود الأفعال من الجانب الآخر على ردود الأفعال هذه، أي الأوروبية أو الغربية إجمالاً على العربية والإسلامية، بدت أشد غرابةً، فقد جائت بحيث تستحق وصفها بأنها كانت المتحدية، لا المعتذرة كما يتوقع البعض أو يفترض، وأقلها غير المتفهمة لغضبة الغاضبين... وإذا ما كان فيها ما يستحق تسميته بالإعتذارات فقد جائت من تلك الأقبح من الذنوب...

الحدث لم يأت من فراغ ولا في تداعياته ما ينبئ بأنها سائرة إلى سكون، كما لا يمكن فصله عن سياق ليس ابن لحظته، وهو على ما يبدو سائر إلى احتدام... سياق يستهدف معنوياتنا قبل هويتنا... إنه يفرض علينا استدعاء ما سبقه والاستعداد لما يلحقه، ومواجهته على هذا النحو... علينا تذكر مثلاً، لا حصراً: تمزيق القرآن الكريم في غوانتانامو، وعبارات الجنرال البنتاغوني جيري فيرول الذي وصف الرسول الكريم بأنه إرهابي... وإذا ما حصرنا المسألة دانيمركياً، فيجب أن لا ننسى أن حزب رئيس الوزراء أندرس فوغ راسموسن الحاكم نفسه هو من كان قد وصف الإسلام قبل عام فقط بأنه دين عنيف وغير سماوي... وإذا ما وضعنا الأمر في سياقه العام، وهذا ما هو حريّ بنا، علينا استذكار حريق الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين، واحتلال الحرم الإبراهيمي في الخليل ومجزرته الشهيرة... علينا أن لا ننسى أن مسلمي الدانيمارك، ومنذ البداية، وكذا سفراء العرب والدول الإسلامية هناك، خفوا من أول يوم فسعوا إلى لملمة المسألة واحتوائها وحتى تجاوزها، عبر القنوات الديبلوماسية والرسمية، وتعززت تلك المساعي بمناشدات الأمين العام لمنظمة العالم الإسلامي، لكن راسموسن المتعنت وحزبه الكاره للآخر والمعادي للأجانب، وتحديداً للمسلمين من هؤلاء، حال تعنته الممزوج بشيء من الرعونة دون ذلك... وكبرت المسألة، وعن قصد كبرت... أو عن سبق إصرار وترصد، فالتحقت الجارة النرويج بجارتها الدانيمرك، تلت الصحيفة المغمورة "ماغزينت"، التابعة لجماعة مسيحية متصهينة وعنصرية مؤيدة لإسرائيل، زميلتها السباقة "غيلاندز بوستن" فأعادت نشر الصور، لكن هذه المرة في توقيت لئيم له دلالاته، هو أول أيام عيد الأضحى المبارك!

...وكرّت المسبحة... تضامنت صحف أوروبا مع المسكينة "غيلاندز بوستن" التي يولول رئيس تحريرها لأنها، كما يقول محزوناً، قد "خسرت معركة حرية الرأي"! ويشكو يا للهول مفجوعاً أن "أحداً من الجيل المقبل في الدانيمرك لن يجرؤ على رسم النبي محمد" بعد اليوم... في البداية تضامن المغمورون أو المفلسون الذين رأوا في الإثارة باباً للانتشار، مثل الفرنسية "فرانس سوار"، التي تحدت سلفاً فأعلنت قبل أن يطالبها أحد بإنها لن تعتذر! ثم أقال ناشرها ذي الأصل العربي رئيس تحريرها، بعد أن استنفد النشر ما هدفت الصحيفة إليه، والآن، أصبحت المسألة انتصاراً "كاريكاتورياً" أوروبياً عاماً، أو قل تضامناً استفزازياً، ل"غيلاندز بوستن"، وقد نحسن الظن فننسب بعض هذا التضامن لجهالة وحتى لعفوية لا تخلو من انعدام المسؤولية، وحتى نثبت أن هناك في الغرب من قال أن لحرية التعبير حدوداً. لكن البعض يظل الاستثناء ويضيع من ثم في لجة الكل الأعم... اللوموند، لبراسيون، شارلي ايدو الفرنسيات، استامبا، وكوريرا دي لاسيرا الإيطاليتين، "دي فيليت" الألمانية، و"أي بي سي" و"البريوديكو" الإسبانيتان، "بليك" السويسرية، ثم جاء دور الشقيقات في هولاندا والنمسا، وما يتبع من باقي دول الاتحاد العتيدة والمستجدة الحريصة على تطبيق مقولة ومن لحق السوق تسوّق... وحتى ال "بي بي سي"... كان خطأً متعمداً، فأصبح انتصاراً، لعله الأقرب إلى كونه كيدياً، لما يزعم أنه "حرية التعبير"... حرية تعبيرٍ حيث لا رأي يحاجج وإنما تحقير وازدراء واستفزاز يعوزه أدنى مقومات التبرير... وانتشرت بالتوازي مع اتساع الاحتجاجات العربية والإسلامية موضة إعادة نشر ما نشر، فوصلت حتى إلى عقر دارنا، فنشرت ناطقة بلسان الضاد "الكاريكاتورات الشيطانية" بذريعة نية "التنديد بها"... وحيث جاءت بعض ردود الأفعال الشعبية عندنا، كانت المواقف الرسمية ترد عليها عندهم، ولنأخذ أمثلةً فحسب:
قبل ذلك، علينا أن نأخذ في اعتبارنا أن جميع الأوروبيين يقولون أنهم يأسفون، لكن لا يعتذرون، لهذه التي يعتبرونها إساءة "إلى معتقدات الأفراد الذاتية"، لكنهم في نفس الوقت لا يأسفون ولا يدينون عملية نشر الصور المتحدية لمشاعر أمم، والمتسعة بإضطراد لافت...

أما الأمثلة فهي:
الاتحاد الأوروبي اعتبر حرية المقاطعة العربية لمنتجات الدانيمرك رداً غير مقبولٍ على "حرية التعبير" أو "حرية الإساءة"، بل عملاً معادياً، فهدد باللجوء إلى منظمة التجارة الحرة لمعاقبة المقاطعين المعتدين...

"مراسلون بلا حدود" قالوا: إن ردود فعل الأنظمة العربية (لم يلتفتوا إلى ردود الأفعال الشعبية) يثبت عدم معرفتها بماهية حرية الصحافة"..!

أما وزير الداخلية الفرنسية الشهير بمعاداته للمهاجرين أو لمسلمي فرنسا، والواصف لساكني الضواحي منهم بالحثالة، فيقول معقّباً: إنه يفضل "المبالغة في الكاريكاتور على المبالغة في الرقابة" على النشر!

وهناك ما هو أطرف، أو أشد صفاقة... الدانيمارك التي هالها اتساع المقاطعة لبضائعها، يدعو رئيس وزرائها المسلمين للتعقل، ولم تجد سبيلاً لتدارك الخسارة سوى اقتراح السماح ببناء مسجد في كوبنهاغن، بدلاً من مصلى ومركز ثقافي يتيمان في بناء كان سابقاً مصنعاً للحليب، والاقتراح، كما قالت تلك الحكومة، يتوخى منه هدفاً هو "بلورة صورة مختلفة عن الدانيمرك"! وهي بذلك تنسى أن فرنسا ساركوزي، مثلاً، فيها فقط 1230 مسجداً ومصلى، ولم يبلور هذا العدد من المساجد صورة مختلفة لفرنسا، بعد الصورة التي رسمها لها هذا الوزير الذي يعلن انحيازه للمبالغة في حرية السباب ضد المبالغة في الرقابة على شتائم الشاتمين!

وهنا نصل إلى السؤال: ترى هل هي فعلاً "حرية تعبير" أم هي حرية شتائم... وأين هو الرأي الذي يحرصون على حريته في هذا التطاول الحاقد الموجه تحديداً لصنف من الناس ونوع من الحضارات والثقافات بعينها؟!

وهذا السؤال يجر آخراً: هل يجرو أصحاب شعار "حرية التعبير" المزعوم الذي أعطاهم حق التطاول على النبي (ص) وبهكذا طريقة مسفّة ووقحة على التشكيك فيما يسمونها "المحرقة" مثلاً؟!

لماذا قوانينهم تبيح شتمنا والتعرض لمقدساتنا، وتسن خصيصاً لمعاقبة من يتعرضون لسوانا؟! ترى أين ذهبت أكذوبة "حوار الحضارات"، و"حوار الأديان"... التي أصموا بها آذاننا؟!
للإجابة: لا يمكن فهم الحملة الغربية المركزة على الإسلام أو مواجهتها، قبل وبعد الحادثة الدانيمركية، بمعزل عن كونها تجيء حلقة في سلسلة ترد في سياق أشمل وأعظم وأخطر، رُسمت توجهاته في خدمة مشاريعهم القديمة المستجدة في بلادنا... مشاريعهم التي لن تنجح إلا بعد كسر معنوياتنا وثلم وجداننا وتمزيق أوطاننا وبعثرة عرى هويتنا... لا يمكن فصلها عن ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان ودارفور، ولا عن عنتريات جاك شيراك النووية ضد الأخطار "الإرهابية"، ولا عن قول بوش أنه لا يمكن للإيرانيين الحصول على الطاقة النووية إلا "بالشروط التي نضعها" فحسب، وأنه لا يتعين منع إيران من تخصيب اليورانيوم فحسب، وإنما "يتعين ألا تكون قادرة على تعلم كيفية تخصيبه"... وإنه يتعين على حماس أن تغير برنامجها السياسي، وأن تغير أسلوب تفكيرها، وأن تفكك جناحها العسكري، وأن (وهذا هو الأهم) تغير موقفها تجاه إسرائيل حتى لا نعتبر الديمقراطية الفلسطينية إرهاباً... وهل يمكن فصل الأمر عن استراتيجية البنتاغون، التي أعلن عنها وزير الحرب رامسفيلد مؤخراً، والتي أطلق عليها مسمى "الحرب الطويلة" على الإرهاب، والتي من المفترض، كما قالوا، ستمتد إلى أربعين عاماً، والتي رصدوا لها مبدئياً 70 ملياراً من الدولارات؟!

...ولا يمكن أيضاً فهم هذه الإسلاموفوبيا الغربية دون التوقف أمام عبارة لرئيس أساقفة بارس تقول: "الإسلام يتسلل من الباب الخلفي ليصبح دين الدولة"! وهي عبارة تعكس الرعب الذي لم بعد مكتوماً من حقيقة أوروبية تقول بأن لدينا أقلية تنمو تخشى نموها أغلبية تتضائل... الأولى شابة والثانية شائخة... لم تجد الأغلبية حلاً يناسبها سوى دمج الأقلية المستحيل دونما الاعتراف بخصوصيتها...

...بقي أن نقول، أن ردود الأفعال العربية والإسلامية، كالتظاهرات التي عمت أو ستعم العالمين العربي والإسلامي، هي حتى الآن عفوية ومتوقعة ومؤثرة، لكن أسلوب المقاطعة الشعبية اللامبرمجة حتى الآن، الذي بدأ تطبيقه، على أهميته وباعتباره السبيل الوحيد المتاح راهناً والأكثر تأثيراً، لن يكون فاعلاً بحق أو كما يرتجى منه، إذا ما جرى بذات النَفَس وعلى ذات الطريقة التي اتبعت في مقاطعة التطبيع مثلاً، أي إذا ما ظل مفتقداً للبرمجة... وأن نقول أيضاً، وإن أسوأ أنواعها مردوداً هي تلك التي شهدناها للأسف على شاشات التلفزة تجري أمام مقر بعثة الاتحاد الأوروبي في غزة!!!

التعليقات