31/10/2010 - 11:02

"كلاب الحراسة" ومستوى المعيشة الغربي../ فيصل جلول

تحتل الحيوانات الأليفة في ثقافة الغرب موقعا لا مثيل له في التاريخ. ويمكن للمرء أن يعثر في شوارع لندن وروما وباريس وبروكسل وموناكو وواشنطن... إلخ، على مئات منها بصحبة المارة في الشوارع. كلاب وقطط وقردة وفئران وأفاع وطيور وغيرها، مع غلبة للكلاب والقطط على غيرها. ويمكن أيضا العثور على حيوانات برية مدجنة لكن في المنازل أو بالقرب منها وليس في الساحات العامة وبين المارة.

ويكثر وجود الحيوانات الأليفة أو يقل بحسب البلدان. ففي فرنسا مثلا يرتفع العدد إلى أكثر من عشرة ملايين واحسب أن حجمها يقدر أيضا بالملايين في البلدان الأوروبية الأخرى. وفي الواقع تلعب هذه الحيوانات دورا مهما في الحياة الاجتماعية الغربية. فهي تكسر وحدة الأفراد الذين يعيشون منعزلين جراء تزايد حدة الفردانية وضعف الروابط الأسرية أو اضمحلالها. وعليه يمكن للفرد المنزوي في منزله أن يأنس بحيوان أليف فيعتني به وينفق عليه كما ينفق أحدنا على أولاده. وقد يصل الأمر إلى حد اشتراط حسن معاملة حيوان أليف لتوريث مال أو رزق لهذه الجهة أو تلك. وقد قرأت ذات يوم أن مطربا شهيرا في فرنسا أوصى بثروته لصديقه اللبناني الأصل شرط أن يتعهد الصديق بصرف جزء من هذه الثروة على كلب كان عزيزا على قلب المطرب الراحل.

والثابت أن الحيوانات الأليفة تلعب دورا مفيدا للغاية في مساعدة المعاقين، فهي ترشد العميان إلى الطرقات وتقوم بواجبات منزلية عوضا عن أشخاص مشلولي الأطراف. وفي سياق آخر تسهم الكلاب في الصيد البري وفي حراسة الأشخاص المعرضين للخطر وترد الاعتداءات المحتملة عن أشخاص لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. ويمكن لها أيضا أن تتحول إلى سلاح يستخدمه البعض للاعتداء على أشخاص لا يحبهم، وهنا يتم اللجوء إلى كلاب من فصيلة “دو برمان” أو معدلة جينيا من فصيلة الذئاب. ناهيك عن مساعدة رجال الشرطة في فك ألغاز الجرائم واكتشافها وإرشاد المسعفين في الكوارث الطبيعية والمباني المنهارة.

ولأنها حاضرة بكثافة ومندمجة إلى الحد المذكور في حياة الغربيين فقد دخلت الحيوانات الأليفة في قيم وعادات المجتمعات الغربية. وعليه يمكن لشخص ما أن يتغزل بصبية جميلة عبر مداعبة كلبها وإطلاق عبارات الإطراء عليه. ويمكن لشخص أن يتعارف مع شخص آخر مصادفة أثناء اصطحاب كلبيهما خلال نزهة يومية في الحدائق العامة. ويمكن لعبارة قاسية موجهة لقطة أن تتسبب بمشاجرة بين شخصين أما توجيه ركلة إلى كلب هذا الرجل أو هر تلك المرأة فيمكن أن يقود الفاعل أحيانا إلى مركز الشرطة... إلخ.

وغالبا ما تعبئ جمعيات متخصصة الرأي العام ضد جهات تسيء معاملة الحيوانات ويذهب الأمر إلى حد الشكوى من المسلمين وإدانتهم لأنهم “يتسببون بآلام للخرفان والأبقار أثناء ذبحها” على ما فعلت الممثلة الجميلة (سابقا) بريجيت باردو التي تعتبر من اشهر المدافعين عن الحيوانات في العالم.

ما من شك أن الحيوانات الأليفة تعيش عصرها الذهبي في الغرب، فلم يسبق لها أن حظيت بمثل هذه المعاملة الإنسانية في أي عصر من عصور التاريخ. والدليل أن مليارات من الدولارات تصرف عليها في الطبابة والتجميل. ويتمحور حولها اقتصاد كامل كالصناعات الغذائية والعيادات الخاصة وأطباء الطوارئ البيطريين والأطباء النفسانيين والغرف الخاصة في الفنادق، واختصاصي السلالات، وصالونات الحلاقة ومحال الألبسة الجاهزة والمقابر، ناهيك عن سن قوانين خاصة بها وتوفير ميزانيات مستقلة في البلديات لتنظيف الشوارع من أطنان القاذورات التي تخلفها.

إن الاحترام وحسن المعاملة التي تحظى بها الحيوانات الأليفة في المجتمعات الغربية أدت إلى دخولها أحيانا إلى اللغة بطريقة محترمة. فالبعض أطلق على المثقفين الغربيين لقب “كلاب الحراسة” وهذا التشبيه ناتج عن تصور يقول إن المثقف يجب أن يطلق صفارة الإنذار في مجتمعه عندما يلوح الخطر تماما كما تنبح الكلاب التي تتولى الحراسة عندما يلوح خطر ما على المكان الذي تتولى حراسته.

لكن على الرغم من مرتبتها الرفيعة فإن بعض الغربيين ما زال يستخدم الشتائم التي نستخدمها نحن بصيغة التحقير عندما ننسبها إلى الحيوانات. ففي الفرنسية يقال هذا “طقس كلب” للإشارة إلى الطقس السيئ البارد. ول”غونتر غراس” رواية شهيرة بعنوان “سنوات الكلب” ولفرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي الراحل شتيمة شهيرة للصحافيين شبههم فيها بالكلاب المسعورة التي نهشت سمعة رئيس وزارئه بيار يريغوفوا فدفعته إلى الانتحار. وغالبا ما يستخدم تعبير “الكلب المسعور” أو فلان يعيش كما تعيش الجرذان... الخ.

اغلب الظن أن الغربيين لا يعبأون كثيرا بالانتقادات التي يسمعونها حول تفضيلهم للحيوانات الأليفة على فقراء العالم الثالث، ولا يعنيهم النقاش حول وجوب رعاية الإنسان قبل الحيوان. فهم يعتبرون أن الحيوان اضعف من الإنسان وأحق بالرعاية منه ويرون أن الجميع يهتم بحقوق الإنسان وأن الأقلية فقط تهتم بالحيوان. والثابت أن الأمر يتعدى مسألة الحق فهو يعكس نمط حياة وقدراً من الأنانية التي يصعب التخلي عنها.

تظهر الأنانية الغربية في الموازنات الضخمة التي تصرف على محميات طبيعية في إفريقيا فيما يعيش الناس على الطوى بجوار هذه المحميات. وتظهر في مليارات الدولارات التي تصرف في الغرب على العناية بالحيوانات الأليفة والتي لو منحت للمحتاجين في العالم يمكن أن تؤسس أفضل البنى التحتية في القارات الثلاث، ويمكن أن تعيد إلى أهالي هذه القارات جزءا مما سرقته الامبراطوريات الأوروبية في مرحلة الاستعمار وما بعدها. ويمكن للمليارات المذكورة أن تضع حدا للإيدز وسائر الأوبئة الفتاكة في إفريقيا المحتضرة ويمكن أن تجعل لكل أهل الأرض منازل لائقة وحياة سليمة من الأمراض القاتلة وبالتالي أن تضع الحضارة الغربية في مرتبة أكثر الحضارات إنسانية في التاريخ. بيد أن هذا الحلم يبتعد سنوات ضوئية عن عقول الغربيين وعن شروط وجودهم وسيادتهم.

ثمة من يقول ما لنا وللغربيين فهم أحرار في اختيار نمط حياتهم وطرق صرف موازناتهم. القول صحيح تماما لكنه يصبح خاطئا عندما يبرر بعض “كلاب الحراسة” في الغرب حروب دولهم في بلداننا بالقول إنها تشن للحفاظ على مستوى ونمط الحياة الغربي. بعبارة أخرى لا يمكننا الوقوف على الحياد عندما نلاحظ أن عشرات العراقيين يسقطون يوميا كي لا يهبط مستوى معيشة الغربيين.. وكلابهم.

"الخليج"

التعليقات