31/10/2010 - 11:02

كوشنير في بغداد.. دور ولو في المستنقع العراقي!../ عبد اللطيف مهنا

كوشنير في بغداد.. دور ولو في المستنقع العراقي!../ عبد اللطيف مهنا
لم تخلُ زيارة وزير الخارجية الفرنسية لبغداد مؤخراً من مفارقة. ولعل المفارقات هي ما لا تخلو منها عادةً السياسة الخارجية الفرنسية... كوشنير فجأة في بغداد... إنها أول زيارة لمسؤول فرنسي على هذا المستوى للعاصمة العراقية منذ أن تم احتلالها، وهي تأتي في توقيت يعطي للزيارة بعداً لا يخلو من طرافة، إذا جاز لنا مثل هذا التعبير في مثل هذا المقام. إنه التوقيت الذي وصل فيه تراكم الفشل المدوّي في العهد البوشي الفريد للسياسة الأمريكية الخارجية مدى سوف تلاحق عقابيله المحافظين الجدد حتى قبورهم. كما وتأتي قبيل دنو ساعة الحساب العسيرة التي ستنطلق دقاتها منتصف الشهر القادم إثر تقديم السفير الأمريكي في بغداد والجنرال القائد لجيوش الاحتلال هناك تقريرهما الميداني المنتظر. أما مبعث الطرافة فهو تقمص كوشنير، وزير خارجية البلد الذي سبق وعارض غزو العراق، للثوب البليري، في الوقت الذي يطالب فيه الجنرالات البريطانيين بسحب جيشهم من العراق، أو موضوعياً، تلمس سبل الهروب من البصرة!

نعم إنه يذكرنا ببلير، ويفعل ذلك، في الوقت الذي ينكب الأمريكان، بوشيون ومعارضون، على محاولات المراجعة لخطايا جموح إدارتهم الإمبراطوري، ويسعون جهدهم لتقليل خسائرها، ويستعدون في ذات الوقت لدفن البوشية.

لقد حاول كوشنير هنا مقاربة نوع من تمجيد لتلك السياسات الأمريكية الفاشلة التي ينعتها كثير من الأمريكان بالخرقاء والكارثية... قال كوشنير من بغداد، منتقداً، وآسفاً، لمعارضة باريس المعروفة لغزو العراق قبيل الحرب وبداية الاحتلال:
"لو بقيت فرنسا إلى جانب الولايات المتحدة في ذلك الوقت لسارت الأمور بشكل مختلف!

كوشنير هنا يعلنها مجدداً قطيعة ساركوزية للسياسات الشيراكية، ويعيد هذا الوزير الاشتراكي السابق للأذهان تأييده آنذاك، بل حماسته الزائدة، لغزو العراق، ومعارضته المعروفة لسياسات بلاده المعارضة لذلك الغزو في حينه.

قد يقول قائل أنه لا جديد يبدر من مثل هذا الرجل، لاسيما ممن يعرف بأنه يتقاطع كثيراً مع الأفكار الاستباقية للمحافظين الجدد... هذا صحيح، لكن هناك ما جدَّ فرنسياً، ويدفعنا للتساؤل: ترى ما سرّ مثل هذه الخطوة الفرنسية البغدادية؟!

تقول صحيفة لوموند الفرنسية إن هدف الزيارة الفرنسية لبغداد كان "كسر القاعدة التي سيرت العلاقات الفرنسية الأمريكية على مدى عقود، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية قائمة على تقديم فرنسا المساعدة الكاملة للأمريكيين في الخروج من المستنقع العراقي".

ويقول نويل مامير، زعيم حزب الخضر، إنها تتمة لزيارة ساركوزي إلى الولايات المتحدة، وهدفها القول للأمريكيين "إننا معكم في الوحل العراقي"!
وقد نستفيض في تتبع ردود أفعال المعارضة الفرنسية على هذه الزيارة، التي تقول بأنها "فاتحة لسلوك فرنسي تابع للأمريكيين"، لكننا نكتفي بتوصيف لسياسي مخضرم مثل شوفينمان القائل أنها "زيارة استغفار مذلة تفقد فرنسا ميزة عدم الانحياز".

في قول شوفينمان عن "عدم الانحياز" الفرنسي الذي قد يُفقَد نوع من مبالغة، لأن فرنسا لم تكن يوماً، فيما يتعلق بسياسات الغرب إجمالاً، والولايات المتحدة بخاصة، محايدة. لعلها كانت مناكفة بعض الشيء بحثاً عن دور أو بهدف احتفاظ بمصالح يتهددها التفرد الأمريكي، كما هو الحال في أفريقيا مثلاً. وما كانت مواقف فرنسا شيراك من الحرب على العراق، التي تسمى بمعارضة ، في الجوهر أكثر من مواقف، يمكن القول أنه نظرية تقمصت لبوس المبدئية، وأن مردها هو كان انطلاقاً من الإحساس بزوال محتمل لمصالحها الكبيرة في عراق ما قبل الاحتلال وتضررها بعيد احتلاله، وهذا ما كان لاحقاً وما أثبتته الأيام الأمريكية في العراق. والأمر ذاته فيما يتعلق بمجمل دول الاتحاد الأوروبي، فرادى ومجتمعة، التي من ديدنها أنها قد تعترض ثم لا تلبث فتلتحق انسجاماً مع وحدة المصالح الدائمة بين ضفتي الأطلسي... كانت الاختلافات، إن حدثت، لاسيما مع الفرنسيين، ليست غالباً حول الأهداف، وإنما كانت على سبل تحقيقها...

إذاً، ما سرّ تجشم كوشنير لعناء رحلته البغدادية؟
قبل رحيله إليها، كان ديفيد وولش في باريس، لقد كان هذا، لاسيما بعيد عودة ساركوزي من واشنطن، بعضاً من تحرك أمريكي، يجيء في سياق البحث عن مخارج من الورطة العراقية والبقاء في العراق، وبالتالي رهان على فرنسا الساركوزية أو استعانة بها في هذا المجال، خصوصاً بعد فشل بلير في ذلك، أو عقب انتهاء دوره بنهاية وجوده في السلطة. وإن ظلت مهمة بلير العراقية قائمة من خلال محاولات تهدئة المسار الفلسطيني.

إذن هو استخدام أمريكي لتوق فرنسي دائم مستحكم لدور ما مفتقد، وإن بقي رهن وحدود ما يسمح به الأمريكان... مهمة كوشنير البغدادية تذكرنا بسابقتها البيروتية الفاشلة. إنه البحث عن دور عزّ، ولو من فوق جثث العراقيين وتحت أطلال بلد تم تدمير أسس الدولة فيه.

قال كوشنير في بغداد:
"إن الأمريكيين لن يتمكنوا من إخراج البلد (العراق) من الصعوبات التي تواجهه بمفردهم"!
والأهم كان قوله: "أعتقد أن ذلك يتوقف على ما سيحصل هنا، سوف يتغير العالم... ويجب أن نكون متواجدين عندها"!
إذن هنا أيضاً، ما ينم عن محاولة فرنسية للإفادة من التعثر الأمريكي، واستعداداً انتهازياً لأن "نكون متواجدين" لأخذ النصيب من قطاف ما بعد زوال الاحتلال ما أمكن، أو محاولة ما على أمل عودة عزَّت لماض ذهبت به رياح الغزو، أو على الأقل لأخذ نصيب ما من الكعكة، بعد أن كانت لفرنسا مكان الصدارة في العلاقات الاقتصادية مع عراق ما قبل الاحتلال. أو هو إجمالاً حلم أوروبي مكبوت لملء فراغ يرونه قادماً أو يلوح لهم في حكم اليقين.

قال كوشنير : "على أوروبا أن تؤدي دوراُ، وآمل أن يأتي وزراء خارجية آخرون إلى العراق"!
... بعيد عودته من بغداد، أعلن كوشنير عن إنشاء مكتبين ديبلوماسيين جديدين لدى أصدقائه القدامى في الشمال أو فيما يعرف بكردستان العراق، وأصدقائه الجدد في الجنوب "لتعزيز التواجد والدور الفرنسي"؟!
ألهذا اقترح كوشنير مؤتمراً عراقياً حوارياً في باريس على الطريقة اللبنانية؟!

على أية حال، المقترح رفض بسرعة قياسية من قبل رئيس عراق ما بعد الاحتلال جلال طالباني، باعتبار أن الحوار العراقي – العراقي المنشود في رأيه هو قائم يومياً وعلى مدار الساعة.
وإن لم يقل لنا هنا، ما هي طبيعة هذا الحوار الدائر وأساليبه وحصيلته وأثمانه، ربما باعتبارها أمور أصبحت معروفة!!!

إذن مصير مؤتمر باريس العراقي تقرر بسرعة، ربما وفق المسموح من غير المسموح به أمريكياً... وعلى أية حال، ما كان نصيبه من النجاح أكثر من سابقيه، مؤتمر دارفور الباريسي الذي قاطعه السودان، وسان كلو اللبناني الذي تمخض جبله فلم يلد حتى فأراً...

قد يأتي اليوم الذي يبرر فيه الفرنسيون تطوعهم لمساعدة الولايات المتحدة في العراق، ولبنان، وربما فلسطين، مستخدمين ذات التبرير البليري الشهير، أي "إنقاذ الأمريكيين من تهورهم"!

لكن بماذا سيفسرون لنا مقولة بوش الأخيرة، التي حذّر فيها الأمريكيين من "مواجهة المصير ذاته من الألم الذي عايشوه بعد الانسحاب من فيتنام إذا انسحبت قواتهم من العراق قبل إتمام المهمة؟!... وأية مهمة؟! إنها وفق ما يقوله بوش تكمن في أن "الولايات المتحدة لن يرتاح لها بال حتى تنعم شعوب الشرق الأوسط بالحرية التي تنعم بها أمريكا"!!!

... وحتى يتحقق ذلك النعيم البوشي، سيزور عواصمنا أكثر من كوشنير ، ولن يرتاح لشرق أوسطنا بال أو تتوقف شلالات الدماء فيه، حتى ننتهي من مهمة بوش هذه التي لن يرتاح إلا إذا أنجزها... وهي لن تنتهي أو لا يمكن إنهاؤها إلا بهزيمتها، سواء أكانت هزيمتها حدثت قبل أو بعد خروجه من البيت الأبيض..

التعليقات