31/10/2010 - 11:02

كي ينجح حوار القاهرة * / د. غازي حمد

-

كي ينجح حوار القاهرة * /  د. غازي حمد
دوما تنبع صعوبة وتعقيد الحالة الفلسطينية من تشابك الاطراف الداخلية وتدخل الاطراف الخارجية، الأمر الذي يترتب عليه الكثير من التداعيات التي تجعل من التوصل لاتفاق امرا صعبا، حتى وان وقع فان تنفيذه حرفيا يخضع للكثير من التأثيرات والضغوطات .

ان حوار القاهرة بدأ بداية متواضعة من حيث رسم الخطوط العامة ومحاولة التوفيق بين الاراء المتعارضة والمتناقضة لكن على ما يبدو فان القاهرة التي تحتضن غالبية الملفات الفلسطينية (الحوار ,المعابر ,التهدئة ,الجندي شاليت ...) ستصر هذه المرة الا يفشل الحوار او يصل الى طريق مسدود .ذلك ان القاهرة الان تتمتع بكثير من المزايا ,اهمها انها تحظى بدعم وتأييد الجامعة العربية التي خولتها بوضع المسودة لمعالجة الانقسام الفلسطيني ,ثم ان القيادة المصرية نجحت في جذب كل القوى المصرية اليها من خلال لقاءات منفردة وحوارات معمقة ,فضلا عن ان مصر تتحرك بعيدا عن اية ضغوطات امريكية واسرائيلية بسبب قرب اجراء الانتخابات في كل من اسرائيل والولايات المتحدة.

مصر تحاول الان ان تمهد طريقا امام الحوار من خلال جهد متواصل مع كل الاطراف وصياغة رؤية اقرب للاجماع الوطني ,غير ان الحالة الفلسطينية بكل تعقيداتها تجعل من مهمة مصر غير سهلة ,اذا انه وبعد يوم من اطلاق المبادة المصرية بدأت الملاحظات والاعتراضات والتحفظات تدق ابواب القاهرة من جديد مما يوحي بان المسافة لا تزال بعيدة الى حد ما عن تحقيق توافق في الاطر العامة فما بالك بالتفاصيل ؟؟
واضح ان الدخول في التفاصيل سيكون اشبه بالدخول في حقل ألغام. فالقضايا التي تنتظر طاولة الحوار هي من التعقيد والصعوبة ما يجعل التوصل الى قواسم مشتركة امرا شائكا ,لكن ليس امام الفلسطينيين من خيارات بديلة .ان واقع قطاع غزة بما يعانيه من حصار واغلاق وعقوبات جماعية يجعل مهمة حماس في ادارة القطاع امرا صعبا فيما ان الضفة الغربية تعاني من احتلال غارق في تثبيت وقائعه على الارض فضلا عن الفشل الذريع الذي منيت به المسيرة السياسية . كما ان المشروع الوطني عموما يتعرض الى انتكاسة كبيرة بسبب حالة الانقسام ويغري اسرائيل بالابقاء عليه حتى يتسنى لها استكمال مشاريعها الاحتلالية واضعاف الفلسطينيين ومنعهم من تحقيق اي انجازات سياسية .

ان حوار القاهرة –ان ادير بشكل مهني ووطني – فانه سيفتح الباب امام اعادة صياغة الحياة الفلسطينية في شتى مجالاتها بطريقة اكثر تنظيما واكثر قدرة على تحقيق الاهداف الوطنية .ان النظام السياسي الفلسطيني يعاني من حالة ضعف وترهل كما ان المؤسسة الامنية تعاني ايضا من فقدان الضوابط والاسس التي تجعلها عنوانا لكل مواطن ,ومنظمة التحرير فقدت دورها بعد ان طغا دور السلطة ثم دور الفصائل والعشائر .من هنا ضرورة تكامل دور القاهرة ودور الفصائل في معالجة القضايا الشائكة , كما الجراح الماهر والطبيب الحاذق القادر على تشخيص الداء واعطاء الدواء . لقد كشفت السنوات الاخيرة ان هناك خلافا عميقا بين القوى الفلسطينية في معالجة القضايا الاستراتيجية واهما ادارة الصراع مع الاحتلال وترتيب البيت الفلسطيني مما ادى الى نشوء توترات وصراعات وتفسخ في النسيج الاجتماعي ,من هنا سيكون من الملح وضع هذه القضايا على رأس الاولويات اذ ان ستشكل المفاصل الرئيسة لاي اتفاق فلسطيني .

أسئلة مشروعة
ربما يكون المواطنون الفلسطينيون على وجل من وصول الحوار الى غاياته من النجاح وتحقيق المصالحة , اذ ان الاسئلة والشكوك الكثيرة تراود الجميع : هل يمكن ان تعود الحياة الطبيعية بلا كراهية وبلا انقسام وبلا تفتت للوطن ..هل سنشهد واقعا جديدا بعيدا عن الصراعات والعنف الداخلي ..هل يمكن لحماس وفتح ان يتعايشا بعد هذه التجربة المريرة ..هل ستختفي ظواهر التعصب الحزبي والتحريض الاعلامي ...الى سلسلة طويلة من "هل "واخواتها .هذه الاسئلة مشروعة في ظل تخوفات ومحاذير كثيرة وفي ظل وجود من يريد تعطيل الحوار, لكن دوما يقفز امامنا السؤال الحتمي : "وهل من خيار آخر ؟
بدايات الحوار في القاهرة منحتنا قليلا من الامل – وهو امل على حذر- ,
كما ان الخطوط العامة التي التقت عليها الفصائل فتحت بابا صغيرا من التفاؤل .
هنا فقط اريد ان أتطرق الى نقطتين مهمتين لانجاح الحوار في القاهرة.
اولا: يقال دوما بان الصلح يسبق القانون بل هو اعلى رتبة اجتماعية في تحقيق حالة من التعايش والتوافق .ان "تنظيف "الاجواء الفلسطينية من جراثيم المواجهة والاتهام والتحريض والشك وعدم قبول الاخر والاعتقالات هو التربة الجيدة والخصبة لنجاح الحوار ,اما لغة لي الذراع واثبات من هو اقوى او من يملك اوراق قوة او استخدام لغة التشكيك كلها لا تساعد ابدا في اخراج هذه الجنين من رحم طال عليه الامد !! وحتى لا تتعسر الولادة ويصبح الخيار قيصيريا يجب ان يقتنع الجميع بان نجاح الحوار هو نجاح للوطن ولحماس ولفتح ولكل القوى وللشعب الفلسطيني, لذا فان كل طرف مطلوب منه ان يكون السباق في انجاحه .ثم ان الجميع يجب ان يقتنع بان الحوار والاتفاق ليس مجرد اتفاقيات تكتب على ورق او تفاهمات يجري تمحيص نصوصها وتدقيق مضامينها , بقدر ما هو ارادة حقيقية وصادقة تترجم على الارض من خلال كلام صادق وفعل جميل وحرص ملموس على تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية .

خلال فترة جولات الحوار في القاهرة ظلت سهام المواجهة الاعلامية قائمة والحملات مستعرة وفن اقتناص التصريحات والرد عليها سلعة رائجة وكأننا ذاهبون الى معركة وليس الى حوار .في الضفة الغربية تصاعدت وتيرة الاعتقالات المحمومة حتى بدا وكأن شمس الحوار بدأت تأفل من قسوة الواقع الذي تفرضه الاجهزة الامنية.
نحن لسنا في معركة "لي الذراع" او اثبات الذات او الذهاب باوراق قوة . انها معارك وهمية لا اصل لها يستدرج فيها من لا يملك فهما ولا عقلا .
ان هذا يكشف عن عمق الازمة الخطيرة في المجتمع الفلسطيني-والتي تجاوزت كل الحدود المعقولة - واصابته بلوثة التفكك وجرثومة الكراهية.
ان هذا الواقع يستدعي منا ان نفكر جيدا ان كان ما سيوقع على الاوراق قادر على ان يمحو ما على الارض من اثار قتل واعتقال وظلم وكراهية وتعذيب ورغبة بانتقام ...هل "الاوراق" قادرة لوحدها على ان تصفي القلوب وتثبت ثقافة الاعتراف بالاخر وتمحو لغة الاقصاء واللون الاحادي وتمنع ان تتقدم قوة العضلات على قوة العقل والفكر ..
صحيح اننا نتحدث عن "تشكيل حكومة وفاق وطني", فهلا ننجح في خلق حالة وفاق وطني حقيقية – ليس في اروقة الحكومة فقط بل في كل شارع وزقاق وبيت .. وفاق يجمع الالوان الخضراء والصفراء والحمراء والسوداء تحت العلم الفلسطيني ... وفاق يعلن نهاية عصر التعصب الحزبي والكراهية والانقسام وبداية عصر جديد ...
واذا كنا نتحدث عن "اعادة صياغة المؤسسة الامنية" فهلا أعدنا صياغة الحياة الفلسطينية على اسس حقيقية منا لتعايش واحترام الاخر ....
واذا كنا نتحدث عن "اعادة تفعيل منظمة التحرير " فهلا "فعلنا المؤسسات المدنية والتشريعية كي نفسح الطريق امام بناء مجتمع طبيعي غير فوضوي ولا متزمت.. .
بحق اقول نحن امتلكنا وسائل الديمقراطية (حكومة وبرلمان وانتخابات) لكن مع الاسف لم نمتلك ثقافة الديمقراطية,الثقافة التي تعني القيم والسلوك والاخلاق قبل القوانين , وهذا ما عبر عنه عبدالله بن عباس "كنا نؤتي الايمان قبل القران " , وهذا ما حملته رسالة الاسلام " انما جئت لاتمم مكارم الاخلاق " أي قبل سن القوانين والتشريعات .
ان المجتمع الفلسطيني بحاجة الى "غسيل مخ" واعادة برمجه وثورة ثقافية حقيقية تعيد اليه رشده ووتمحو من ذاكرته كل النقاط السوداء .انه اذا لم يتدارك الكل "الحالة المرضية " التي يمر بها المجتمع الفلسطيني فانه من المشكوك فيه ان تغلب الاوراق قوة الواقع المزمن والملغوم.
ان "اوراق مكة" بما حملته من اتفاق وقدسية المكان والتعلق باستار الكعبة لم تنجح في مواجهة الواقع الدموي الذي ذهب بنا بعيدا الى حالة التشرذم والانقسام .
ان المصالحة الوطنية –الحقيقية – تستحق ان نفكر بعمق كيف نصل لاتفاق حقيقي –قلبي وعقلي- وليس مجرد التفكير بالخروج من الازمة او تجاوز الحالة الراهنة.
ثانيا : في خضم الحوار وتعدد الرؤى والاتجاهات يجب ان يدرك الجميع بان الشعب الفلسطيني في مرحلة تحرر وطني قبل ان يكون في مرحلة سلطة او حكومة( الضفة بكاملها تحت الاحتلال وقطاع غزة محاصر بالاحتلال ) ,من هنا على حماس وفتح ان يضعا هذه القضية محل اعتبار ومحل اولوية, ويجب الا يشغلهما موضوع الحكومة او اقتسام الوزارات عن كيفية معالجة الصراع مع الاحتلال ورسم طريق التحرر من خلال رؤية استراتيجية مشتركة ومن خلال برنامج يحظى باجماع وطني .ان هناك الكثير من القضايا التي ستشغلنا في الحوار :حكومة , امن , م.ت.ف , الوضع الاداري ....الخ لكن كل هذا ثانويا بجانب القضايا الكبيرة :تحرير الارض ,القدس , المستوطنات ,اللاجئين ....
لقد استنزفت السلطة والحكومة منا جهدا كبيرا ووقتا هائلا استغلته اسرائيل في تعزيز مستوطناتها ومشاريعها الاستيطانية وتهويد القدس واستكمال بناء الجدار والهجوم المكثف على قطاع غزة بالقتل والحصار . ليس معنى ذلك ان نتجاهل اهمية بناء نظام سياسي نزيه وقوي بل يجب ان يصب في القناة الحقيقية , قناة التحرير وادارة الصراع مع الاحتلال لا ان ينعكس في صراع داخلي وازمة مستحكمة .
باختصار شديد : نحن نريد مصالحة حقيقية في القلوب قبل الاوراق ..ونريد اولوية للتحرير قبل الحكومات .هكذا يمكن ان ينجح حوار القاهرة .

................................
المقال خاص بالمركز الفلسطيني للديمقراطية والدراسات والأبحاث.


التعليقات