لا لوز في السجن ليزهر../ الأسير وليد دقة

لا لوز في السجن ليزهر../ الأسير وليد دقة
لا يحتمل السجن منطقة وسطى، والسجن يقف من الحرية كما السجن على طرف نقيض مطلق. والمساحة بينهما وإن بدت حقيقة فإنها تتسع لفراغ الدنيا كلها.. فراغ موحش وروتين قاتل. أو قل مساحة هي في أحسن الأحوال أرض بكر، قد تنجح أنت الأسير بفلحها بزرع مثمر توسع به مساحة حريتك في مطلق السجن، قبل أن يحتلها السجان، في صراع يومي، بمزيد من الأسلاك الشائكة.

ولكن السجن يبقى واقعًا عنيدًا لا يحتمل الوسطية مصبوغًا بالأسود والأبيض مقسمًا لخير وشر.. من هم خلف القضبان ومن هم خارجها، من هم معنا ومن هم ضدنا. إن عالم السجن وإن كان يبسط تعقيدات حياة وواقع بعينه. لكنه ليس بالضرورة يخلق فهمًا للحياة. فنحن في السجن لا نعرف الفصول الوسطية ولا نراقب تساقط أوراق الأشجار في الخريف.. ولا نشم شذا زهر اللوز في الربيع.

زهر اللوز؟!
هل ما زال اللوز يزهر في الربيع؟
ففي السجن لا لوز ليزهر..

لقد كنت شاهدًا على تشكل عالم الأسرى القيمي والأخلاقي على مدار ثلاثة عقود تقريبًا. إنه عالم حاد كالشفرة التي استخدمها عطوة أبو سمهدانة في قطع عضوه التناسلي بعد أن عرض عليه ضابط الإستخبارات صفقة محاولاً إسقاطه بممارسة الجنس مع إحداهن. ففضل قطعه دون تردد على أن يخون رفاقه (ليسقط بعدها بسنوات قليلة في بداية الإنتفاضة الأولى شهيدًا على أرض غزة).

إنه عالم بوضوح الموت الذي وضع حدًا لحياة سمير سلامة واختاره بديلاً لحياته في ظل اتهامه بتزوير الإنتخابات الداخلية لفصيله. عالم لم يعد قائمًا بقيمه الأخلاقية، أو قل نماذجه الإنسانية التي تجسده. ففي ظل التطور التكنولوجي وعولمة البضائع والقيم، يتم فيه خلق، إلى جانب الواقع الحقيقي والمادي، واقع متخيل. واقع، اقتصادياً وقيميًا، يبدو جذابًا، أو أكثر حقيقة من الحقيقة. فاختلطت علينا الأمور نحن البشر ولم نعد قادرين على التمييز بين الحقيقة وانعكاسها وأصبح الإنعكاس يخلق حقائق أكثر من الحقيقة.

لم يتطور عالم الأسرى القيمي بما يتلاءم أو يوازي تطوره خارج الأسوار، خصوصًا أولئك الذين انقطعوا عن العالم منذ ما يقارب أو حتى يزيد عن الربع قرن. لننكشف على كل هذه الإختراعات وهذا التطور. لقد تخلفنا “فتخلفت” قيمنا. لكنني عندما أنطلق من حين لآخر نحو عالم من هم خارج الأسوار أحس بأن تخلفنا نعمة حمانا من انهيار عالمنا القيمي..

أتراني الآن أكتب بفعل رهاب الحداثة؟! أم أنه رهاب الحرية؟ فعندما تغيب الحرية نتلهى بالخوف منها.

إننا ورغم تحولنا خلال كل هذه الأعوام إلى ما يشبه الإنسان الأول، بدائيين بكل ما يتعلق بالتكنولوجيا، بقينا نحمل منظومة من القيم يعتبرها البعض خارج الأسوار قيمًا يليق بها أن تعرض بمتحف.

لكن الأخطر هو أن تكتشف أن عالمًا من المفاهيم اشتق من قراءات قيمية مرتبكة يتسلل للمناضلين في السجن، وهو عالم الحقائق المطلقة. ليحول بسهولة الجرأة انتحاراً والتهور شجاعةً. ولكي تغدو أصيلاً في عالم حداثوي يقتحم حياتك دون استئذان فإنك بسهولة تتبنى التخلف أيدلويوجيا مواجهة. فتجد نفسك أمام جيل يقول الشيء ونقيضه. فيرى بالإنضباط والنظام خنوعًا.. ويعارض القانون بالتمرد.. وتصبح في نظره بنفس الآن المهنية غياب الإنحياز.. فيذهب بمفاهيمه أو يسير بقدميه بسهولة نحو مواقع الخلط بين الثورة والفوضى، وتضيع بين مفهومي حرية التحرر والسلطة، جدلية أمة الوسط، فتتحول إلى واسطة. دون أن تدرك بأن هزائمنا ليس مردها السياسية وإن كانت تتمظهر في السياسة دومًا.

فمن السهل مواصلة البحث عن عملتنا المفقودة – سبب هزائمنا. تحت عمود النور –السياسية، فيما فقدناها في مكان آخر. إن السياسة هي خشبة المسرح المضاءة التي تبان عليها نجاحاتنا وفشلنا، لكنها لا تبدأ هناك، بل تبدأ في الإعداد لهذه المسرحية وفي اختيار ممثليها. إن السياسة هي الحلقة الأخيرة في السلسلة وليست أول السلسلة.

هل السجن أو الإحتلال شرط لحياة قيمية أو نضالية؟ وهل التخلف شرط للأصالة كيف يطور الإنسان كل هذه التكنولوجيا. ولم يكن قادرًا على تطوير قيمي وأخلاقي يوازيه؟ لماذا كل هذا التقدم الذي يرافقه كل هذا التخلف القيمي؟ أم أن الأخلاق والقيم تنشأ وتتطور بمعزل عن الواقع المادي؟ هل نحن أمام مسارين مختلفين من الحياة البشرية؟ أليست القيم التي قيل عنها بأنها جزءٌ من البناء الفوقي للمجتمع هي انعكاسٌ للواقع المادي؟

أنا في الواقع، وواقعي واقع الأسر والحقائق المطلقة، لا أملك إجابات على هذه التساؤلات، بقدر ما أملك أسئلة تفوقها وتزيدني حيرة، ولا تفيد القارئ بشيء الا بمزيد من الإقتراب إلى حافة السؤال للنظر الى الهاوية..

السجن الذي يبسط الأشياء يدفع بالأسرى نحو دفء الإجابات، ويقتل السؤال في جسم للذات خلف القضبان أمام، وفي مقابل، من هم خارجها.

إن الإنسان المحاصر في سجن أو وطن متخلف أول ما يتركز به تفكيره فإنه يتركز في حالة الحصار وبذاته المحاصرة. فالسجين لا يفكر بالسجان، لا يهمه أمر ما يشعر به وما يعتقده هذا السجان، إلا بقدر حاجته لفحص حدود سجنه وبدافع ضرورات توسيعه الدائم لهامش حريته.

إن الشعوب المحاصرة كالأفراد تتركز في حالة الحصار وبذاتها. لا ينام الواقع تحت الإحتلال بفراش جيش المحتل ويتخيل ما قد يحلم به جنده. لكنه عندما يكون هدف السجن الأول هو عزل الأسير عن العالم، فإن الإنشغال بالذات وحالة الحصار والعزلة بهذا المعنى هي النصر الأول الذي يحققه السجان على السجين. أن لا تفكر بسجانك بكل المعاني، بما فيها الإنسانية، فإنه يعني انتصاره عليك. وأن تستدفئ على حطب الإجابات التي يدفع لك بها واقع السجن كي تغدو حقائق مطلقة يعني أيضاً أن تكف عن السؤال.. وتموضع نفسك في زاوية الرد العنيفة المظلمة بعيدًا عن باحات الأسئلة الرحبة.

إن مسيرة النضال هي ذاتها مسيرة المعرفة فهي مسيرة باردة يعتريها الشعور بالوحدة والخوف من المجهول. في حالة السجن كما في حالة الحصار، قمة النضال هو أن تبقى قادرًا على السؤال، وأن تكون مستعدًا حتى للنوم في فراش أسرك.

التعليقات