31/10/2010 - 11:02

لبنان يجتاز عتبة الحرب الأهلية../ فيصل جلول

لبنان يجتاز عتبة الحرب الأهلية../ فيصل جلول

ربما ما زال أولئك الذي عاشوا سنوات الحرب الأهلية في لبنان (1975 1990) وبخاصة السنتين الأولى والثانية يذكرون ما كان يعرف باسم “الجولات” القتالية. والتسمية ناجمة عن هدنة أو وقف للقتال كان يفصل بين معركة عسكرية وأخرى تطول أو تقصر حسبما يشتهي المتحاربون.

كانت الحرب في أحد وجوهها حاصل جمع تلك الجولات ولعل شهودها الأحياء يذكرون أن وقف النار في نهاية كل جولة كان يتم بعد مفاوضات بين المتصارعين تعقد في المقار الحزبية أو الدينية وأحياناً بعد مصالحات تتخللها أحاديث عن تفكيك العقد والتغلب على الصعوبات التي تعيق عودة “الحياة الطبيعية” إلى سابق عهدها.

ومن بين خصائص تلك الفترة أن القتال كان يستأنف في منطقة مختلفة عن تلك التي شهدت تفاهما أو مصالحة، وعليه كانت الجولة الأولى تنتهي في بيروت مثلاً لتبدأ الثانية في البقاع، والثالثة في الجبل، والرابعة في الجنوب، والخامسة في الشمال، إلى أن ارتسمت خطوط قتال ثابتة بين المناطق وصارت المعارك شبه منتظمة خلف مواقع محصنة تدور داخلها حركة السكان الذين خضعوا لفرز وتهجير طائفي متبادل. أما الحكومة فكانت تتكيف مع الوقائع الجديدة وتمنح خدماتها الضرورية للجميع (رواتب الموظفين وثائق السفر تسجيل المعاملات الرسمية... الخ).

ولعل شهود تلك الفترة يذكرون أيضاً أن وسائل الإعلام كانت تنشر خطباً ومقالات تبشيرية مع نهاية كل جولة يؤكد المعنيون بها على “العيش المشترك” وعلى “عظمة لبنان” واللبنانيين وعلى فرادة “الديمقراطية اللبنانية”، ويردون أسباب تجدد القتال إلى ما يسمى “الانتكاس الأمني” لأسباب طارئة أو لما يسمى “الطابور الخامس”، إلى غير ذلك من الأوصاف والمسميات الساذجة.

هكذا بدأت الحرب في سنتيها الأولى والثانية واستمرت من بعد تتشعب ويتعدد أبطالها وتتبادل أطراف خارجية الأدوار فيها، إلى أن كلفت سوريا بتولي الشؤون اللبنانية فوضعت حداً للحرب التي أدت إلى سقوط ما يقارب ال 200 ألف قتيل وعشرات آلاف من الجرحى ومثلهم من المهجرين في الداخل وما يفوق هذا الحجم وذاك من المهاجرين إلى الخارج.

ولأن الحرب الأهلية اللبنانية كانت فظيعة في مجرياتها ونتائجها على كل صعيد ولأنها طالت كل أسرة وكل بيت لبناني، فقد ساد اعتقاد بعد الانسحاب السوري عام 2005 يفيد بتعذر استئنافها ليس فقط لأن فظاعاتها لم تطوها الذاكرة الجمعية بعد وإنما أيضاً لأن المقاومة اللبنانية التي استثنيت في “اتفاق الطائف” من نزع السلاح لا تريد الحرب ولا مصلحة لها في وقوعها بل في تجنبها. وقيل أيضاً إن الحرب الأهلية انفجرت في السابق بسبب المقاومة الفلسطينية التي خرجت من المعادلة اللبنانية وبالتالي ما عاد في هذا البلد طرف غير لبناني يتنازع حوله أهل البلاد، هذا فضلاً عن طرد “إسرائيل” من الجنوب وانهيار نفوذها الظاهر على الأقل بين اللبنانيين... الخ.

تعين هذه المؤشرات حول الحرب الأهلية اللبنانية السابقة على الاستنتاج بأن الحرب تسللت إلى المجتمع اللبناني تدريجياً ككرة النار الصغيرة المتدحرجة التي شرعت تكبر وتكبر حتى صارت حريقاً ضخماً التهم البلاد والعباد من دون أن يعلن أحد عنها صراحة. وتعين المؤشرات نفسها على الاستنتاج أن تفسير اندلاع الحرب في الربع الأخير من القرن العشرين كان ولا يزال سطحياً ومضللاً.

لقد غاب عن لبنانيي اليوم في تفسير حربهم أنها كانت كجميع الحروب المعروفة تستجيب لأهم قوانين الحرب التي صاغها كلاوزفيتز بوصفها “امتداداً للسياسة بوسائل أخرى” وكان قد سبقه نصر بن سيار الشاعر والعامل الأموي على خرسان إلى جوهر هذه الخلاصة بقرون عندما قال شعراً “الحرب أولها كلام” ما يعني أن كلام السلام هو الذي يملي سلاماً فيما كلام الحرب يملي حرباً بالضرورة. لقد أخطأ اللبنانيون بتفسير حربهم السابقة وها هم يدفعون ثمناً باهظاً لهذا الخطأ الفادح.

بكلام آخر لقد أخطأ اللبنانيون عندما اعتقدوا أن بلادهم معصومة من السقوط في أتون حرب أهلية جديدة جراء فظاعات الحرب السابقة، فما من حرب سابقة في العالم حالت دون اشتعال حرب لاحقة. ويخطئون إذ يعتقدون أن ما تشهده بلادهم هذه الأيام هو مناوشات آيلة إلى الزوال مع الاستحقاق الانتخابي المقبل أو عبر اتفاق وتفاهم جديدين في الدوحة أو في عاصمة أخرى. ويخطئون إذ يرون أن حربهم السابقة تمت بفعل التدخل الفلسطيني أو السوري في شؤونهم وأن كف اليد السورية يكف الحرب، ذلك أن الحرب السابقة كما الحرب الأهلية التي تطل هذه الأيام برأسها رويداً رويداً ناجمة عن وقوع لبنان على خط القتال الأول مع “إسرائيل” وعن تموضع اللبنانيين حول هذا الخط ما يعني أن الخروج من الحرب الأهلية يحتاج إلى إعادة تموضع سريع وعقلاني مبني على الأرجحية اللبنانية في الصراع مع الدولة العبرية، هذا إذا افترضنا حرص وصدق وخبرة من بيدهم الأمر وهو افتراض لا يعول عليه مع الأسف الشديد.
"الخليج"

التعليقات