31/10/2010 - 11:02

مآلات حركة وطنية: عن إشكاليات المسيرة الفتحاوية / ماجد كيالي

مآلات حركة وطنية: عن إشكاليات المسيرة الفتحاوية / ماجد كيالي
تبدو قيادة فتح، المتمثلة باللجنة المركزية، في مواجهة واقع يحول دون تمكنها من السيطرة على الحركة وضبط أوضاعها، السياسية والميدانية، كما في المراحل السابقة. ولا شك أنه ثمة سذاجة في إحالة فقدان السيطرة إلى مجرد غياب الرئيس ياسر عرفات، الذي رتب هذه الحركة وأدارها بطريقته الخاصة. فالمعلوم أن فقدان السيطرة وشيوع الفوضى، في فتح والساحة الفلسطينية، سادا في عهد الرئيس الراحل، وهو أيضا كان محور كل شيء حول ذاته، ما ساهم في تغييب وإضعاف هيئات القيادة في فتح والمنظمة والسلطة.

إضافة إلى ما تقدم يمكن إحالة تضاؤل نفوذ لجنة فتح المركزية إلى محددات عدّة، أهمها: أولا، بروز مراكز قوى متعددة في الحركة، باتت تتمتّع بقوة مضافة تنبع أهميتها من المداخلات الدولية والإقليمية، في الشأن الفلسطيني، ما ساهم في تراجع المكانة القيادية أو السلطوية للجنة المركزية؛ ثانيا، اختلاف الشرط السياسي. ففي السابق، في مرحلة الخارج، تركزت بنية فتح على الأجهزة ونظام "التفريغ"، وعلى الوجود الميليشياوي، ما جعل قيادة الحركة تتمتع بمركز سلطوي مطلق، سياسي وإداري ومالي؛ وهذا الشرط لم يعد موجودا في الداخل، فثمة هنا مجتمع من أربعة ملايين (في الضفة والقطاع)، له حياته السياسية ومتطلباته الطبيعية وتحدياته الخاصة؛ ثالثا، مثّلت عملية الانتخابات تطورا نوعيا في النظام الفلسطيني، من التعيين إلى التمثيل، ما ساهم في توليد طبقة سياسية جديدة (في فتح والساحة الفلسطينية) تتمتع بنوع من الاستقلالية إزاء القيادة السائدة، وبرؤية نقدية وروح طموحة، ما جعلها تنافس القيادة على مواقعها وعلى دورها؛ لاسيما أنها تعتبر نفسها الوريثة الطبيعية لها، كونها حملت عبء الانتفاضة الأولى والثانية؛ وهو ما جرى التعبير عنه في ترشّح مروان البرغوثي لمنصب الرئاسة، في منافسة مع محمود عباس أحد القادة التاريخيين لفتح ومرشح اللجنة المركزية (الأمر الذي تراجع عنه فيما بعد)، وهو ما يجري التعبير عنه اليوم في تشكيل قائمة فتحوية موازية للقائمة التي شكلتها اللجنة المركزية.

وإضافة إلى أزمة القيادة، المتمثلة بغياب المؤسسة وتقاليد القيادة الجماعية والحياة السياسية الطبيعية، فإن أزمة فتح تتركز أيضا في المجالين السياسي والتنظيمي.

على الصعيد السياسي ظلت فتح تراوح عند الشعارات (المبادئ والأهداف والأسلوب)، برغم التطور في الفكر السياسي الفلسطيني، ولذلك فهي لم تنتج خطابا سياسيا / ثقافيا، يعبر عن رؤيتها لديناميات الصراع ضد المشروع الصهيوني، ومستقبل قضية فلسطين وشعبها، وفهمها للمرحلية ولمفهوم الدولة الديمقراطية، وإشكالية عملية التسوية، وأشكال النضال وإشكالاتها؛ فهذه المسائل خضعت لتجاذبات واجتهادات متباينة، انعكست سلبا على وحدة الحركة وعلى سلامة توجهاتها السياسية.

بمعنى أخر فإن حركة فتح التي تتّسم عموما بالعفوية والبراغماتية والتجريبية، بالنسبة للسياسة الاستراتيجية، مع المرونة وربما البراعة في إدارة السياسة التكتية، لم تستطع تمثل التطورات السياسية الدولية والإقليمية في تفكيرها السياسي أو تمثل التحولات الاستراتيجية المرتبطة بالانتقال إلى مرحلة التسوية والمتعلقة بإقامة دولتين لشعبين؛ وهي أمور تجلت بشكل واضح في التخبط، السياسي والميداني في إدارة الانتفاضة، وفي الإخفاق في معادلة المزاوجة بين المفاوضة والانتفاضة، الأمر الذي أدى إلى تدهور وضع فتح ومعها الوضع الفلسطيني في مختلف المجالات.

معلوم أن التحول نحو التسوية، في مطلع السبعينيات، لم يحدث نتيجة تطور في الثقافة السياسية لحركة فتح، كحركة، ولم يتم تشريع للأمر في مؤتمراتها، وإنما تم اتخاذ هكذا قرار، على هذه الدرجة من الأهمية، في إطار اللجنة المركزية فقط؛ وهكذا الأمر لدى توقيع اتفاق أوسلو (1993)! وبديهي أن كل العمليات السياسية، من المفاوضة إلى الانتفاضة، لم تتم دراستها في الأطر القيادية، ولم تكن وليدة ثقافة سياسية ولم تأت نتيجة إعدادات ميدانية! ومعنى ذلك أن حركة فتح هي نوع من الحركات السياسية المغرقة في مركزيتها، بالنسبة للقرارات الاستراتيجية السياسية والإدارية والمالية، ولا يعفيها من ذلك لامركزيتها أو مراوغتها بالديمقراطية، اللتان هما أقرب إلى الانفلاش والفوضى في القضايا التكتية والمحلية والاجتهادات السياسية. وفي هذا المجال تبدو فتح وكأنها حركة للقيادة، أو للزعيم (أبو عمار خاصة)، أكثر من كونها حركة لها قيادة، بدليل أن هذه الحركة كانت تميل حيث تميل القيادة، أو بشكل أدق حيث يميل زعيمها الراحل ياسر عرفات، فإذا مال نحو الكفاح المسلح تذهب معه، وإذا مال نحو التسوية تميل معه، وإذا غادر المفاوضات إلى الانتفاضة تغادر معه، وهذا ما يفسّر اتجاه كتائب الأقصى (المنبثقة عن فتح) بتبني نمط العمليات التفجيرية /الاستشهادية، برغم أن دلالاتها السياسية لا تتوافق، كما يفترض، مع التوجه السياسي للحركة.

أما على الصعيد التنظيمي فإن قيادة فتح لم تستطع أيضا إنضاج ثقافة التعددية والتنوع وترسيخها بشكل واضح وسليم لدى قيادات وكادرات وأعضاء الحركة، ولدى التيارات المنضوية فيها، بسبب غياب الأطر وتسيّبها، وبسبب ضعف الروح المؤسسية وضعف علاقات التفاعل والتواصل الداخلية. هكذا لم يجر تكريس طابع فتح، كحركة جبهوية، في الثقافة السياسية والتنظيمية الداخلية، بتكريس العلاقات الديمقراطية، وبخلق نوع من الحراك الداخلي، بل إن فتح ذاتها باتت أشبه بتنظيم مترهل غير واضح المعالم، إذ غابت الحدود بين الأطر، وتلاشت معايير العضوية، وباتت فتح أقرب إلى التجمع الهلامي منه إلى تنظيم سياسي.

أيضا بعد العودة إلى الداخل وقيام السلطة الفلسطينية باتت فتح في مواجهة معضلات التناقض بين طابعها كحركة تحرر وتحولها إلى حزب للسلطة، لاسيما أنه بدا أن حركة مثل فتح على هذا القدر من الانفلاش يصعب عليها المواءمة بين هذين الاستحقاقين. والمحصلة فإن فتح تماهت مع السلطة، وأصيبت بتشوّهاتها (علاقات البيروقراطية والفساد والمحسوبية)، وهي التشوّهات التي أصابت قبلها حركات التحرر الوطني والأحزاب السياسية المعارضة في العالم الثالث (جبهة التحرير الوطني في الجزائر مثلا). ولاشك أن هذا الوضع تفاقم بعد أن باتت حركة فتح في مواجهة تحديات الاستحقاقات الانتخابية والمنافسة على القيادة والسلطة، لاسيما من قبل حركة حماس. وما زاد من خطورة مأزق فتح أنها باتت في وضع لا تحسد عليه، خصوصا أنها أخفقت في جلب التسوية، ولم تنجح في إدارة السلطة، وفقدت السيطرة السياسية والميدانية في الانتفاضة.

على ذلك فثمة تحديات وتعقيدات كبيرة تواجه قيادة فتح في هذه المرحلة، ولا نبالغ إذا قلنا أن فتح كحركة سياسية تقف اليوم أمام مسارين متعاكسين، فإما النضوج والنهوض على قاعدة من التجديد والتطوير، السياسي والتنظيمي، أو اعتماد الطرق السابقة في القيادة والإدارة ما يؤدي بالحركة نحو المزيد من الترهل والتفسخ.

ولا شك أن الطريق الأول يتطلب من قيادة فتح حسم أمرها باتجاه إعادة هيكلة الحركة، وتحويلها من مجرد حالة شعبوية إلى حركة سياسية منظمة، تتمتع بحياة داخلية مستقرة وتخضع لآليات المشاركة والتطور الديمقراطي. وعلى الصعيد السياسي فإن هذا الأمر يتطلب الانتقال من العفوية في السياسة إلى إنتاج رؤية استراتيجية تهضم أو تستوعب مختلف التطورات الحاصلة في الفكر السياسي الفلسطيني؛ والذي كانت فتح ساهمت بقسط وافر فيه، في سنين انطلاقتها الأولى.

ولاشك بأن مقاربة قيادة فتح لهذا الطريق من شأنه تسهيل عملية التحول والتطور في الحركة، أما مقاومة القيادة له، فربما يؤدي إلى زيادة فقدانها السيطرة، وإلى إضعاف قدرة فتح على مواجهة التحديات الراهنة.

في كل الأحوال فإن قيادة فتح وكوادرها معنيون بالمبادرة إلى إجراء مراجعة نقدية لمسيرة فتح، والتجربة الفلسطينية عموما، في جوانبها: السياسية (الفكرية) والتنظيمية والميدانية، للإجابة على الأسئلة الاستراتيجية الملحة التي تطرحها المتغيرات والتطورات الحاصلة في الحركة وفي الساحة الفلسطينية وفي مجال الصراع مع إسرائيل، من نوع: أين كنا وأين صرنا؟ أين أخفقنا وأين أصبنا؟.

التعليقات