31/10/2010 - 11:02

مأزق الفكرة القومية في وجه الكيانات القطرية../ عبدالإله بلقزيز

مأزق الفكرة القومية في وجه الكيانات القطرية../ عبدالإله بلقزيز
لم نَخرُج من تجربة المحاولات المتكررة لبناء وحدةٍ عربية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين بحصيلةٍ تُذكر، حتى لا نقول خرجنا بحصيلةٍ صفرية تختصرها وتعبّر عنها سلسلة الإخفاقات المتعاقبة التي مني بها مشروع التوحيد في وجهيهِ القومي والاقليمي. وباستثناء بقاء فكرة الوحدة مترددّةً في النصوص وفي النفوس وصمودها في وجه مفاعيل الإخفاق وخطابات الانكفاء ودعوات التحبيط، لم نرث من تاريخ تجربة التوحيد العربي سوى ذلك الإطار المؤسسي للتعاون الاقليمي العربي الذي حمل اسم جامعة الدول العربية ونجح في مقاومة الزمن وعوامل الفُرقة والشقاق في المجال العربي. وهذا ما يبدو وكأنه أشبه بالمفارقة في تجربة الفكرة القومية ومشروع التوحيد العربي.

أما وجهُ المفارقة في المسألة، فمرده الى أن جامعة الدول العربية لم تكن تترجم - حين ميلادها - أيّاً من الأهداف التي رسمها الفكر القومي العربي والحركة السياسية (القومية) في المسعى نحو تحقيق الوحدة العربية. فهي عُدَّت، عند آباء الفكرة القومية، إطاراً اقليمياً مصروفاً - من جهة بريطانيا على الأقل - لأداءِ وظيفةٍ سياسية هي امتصاص فكرة الوحدة العربية ومنعها من التحقق في صورة دولةٍ قومية عربية موحَّدة. وهي من وجهٍ ثانٍ عُدَّت عندهم (أي القوميين) مجرَّد كيانٍ للتعاون والتنسيق لا للتوحيد. وهي من وجهٍ ثالث تضفي شرعية عربية جماعية على مفاعيل التجزئة الكيانية للوطن العربي وعلى الدولة القطرية. وهي من وجهٍ رابع تضع في حوزة الدول القطرية موارد جديدة لتقوية نفسها وتغذية وجودها. ثم انها، من وجهٍ خامس، واقعة تحت سلطان نُظُم سياسية يتهمها القوميون الوحدويون بأنها ضدّ مشروع الوحدة العربية.

لكن مَكرَ التاريخ قَضى بأن لا يبقى على قيد الحياة من ميراث عربيّ فوق - قطريّ غير جامعة الدول العربية. ثم لم تلبث التطورات السياسية الجديدة - منذ مطلع هذا القرن - مثل الهجوم المعاكس على المنطقة العربية بنُظُمٍ اقليمية بديلة وبرانيّة (كالنظام الشرق أوسطي والنظام المتوسطي)، أو مخاطر التقسيم والتجزئة المضاعفة التي باتت تُحدق بالدول الوطنية (=القطرية) نفسها نتيجة الصراعات الأهلية والفتن الداخلية المُهندسة والمُدارة من خارج، لم تلبث هذه التطورات أن زادت في معدَّل الشعور بالحاجة الى هذه الجامعة اطاراً يحفظ للعرب ما تبقى من روابط ووشائج بينهم بعد أن عزَّ تحقيق ما هو أكثر من ذلك وبعد أن خِيفَ على اهدار ما تبقى من مكتسبات علاقةٍ بينهم.

لماذا فشلت مشاريع التوحيد القومي وبقيت جامعة الدول العربية حيّة؟

الأسبابُ التي قضت بفشل مشاريع الوحدة هي عينُها الأسباب التي سمحت للجامعة بالبقاء والاستمرار، وأهمها وأساسها «المقدس السياسيّ» الذي مثلته الدولة الوطنية (=القطرية) لدى نخبها السياسية ولدى جمهورها الاجتماعي. نيل من هذا «المقدّس» في الفكر القومي ولدى القوى السياسية التي حملت مشروع الوحدة العربية حين نُظِرَ الى مشروع التوحيد العربي بصفته نقضاً وهدماً للكيانات القطرية الناجمة عن التجزئة. أما جامعة الدول العربية، فأتت تعترف بذلك «المقدّس» والسياسي وتتعايش معه وتعمل من خلاله وفي نطاق أحكامه الكيانية والسياسية. لذلك ووجهت مشاريع الوحدة بممانعة الوطنيات الخائفة من الذوبان فيها، بينما وفر ميثاق الجامعة لها فرصة طمأنة تلك الوطنيات على استقلاليتها.

لسنا معنيين بالدفاع عن هذا «المقدس السياسي» الذي تمثله الكيانات القطرية بالنسبة الى نخبها السياسية وكثير من مواطنيها، ولا حتى بتبريره أو التماس الأعذار له، لكننا نعتقد جازمين بأن القوميين العرب أخطأوا كثيراً تقدير قوة الدولة الوطنية (=القطرية) ومقدار ما باتت تتمتع به من شرعية واقعية حين استسهلوا امكانية الغاء وجودها في سياق عمليةٍ من التوحيد ينشأ عنها كيانٌ جديدٌ أعلى. وينبغي - هنا - أن نفهم معنى عبارة «قوة الدولة القطرية» على نحوٍ شاملٍ ودقيق. فليس القصد منها فقط ان هذه الدولة باتت أمراً واقعاً يعترف به القانون الدولي وقد يحميه عند الضرورة تحت الفصل السابع (كما حصل ضدّ العراق في العام 1991). وليس القصدُ منها فقط أنها أصبحت تملك جيشاً تدافع به عن نفسها ضدّ مَنْ أو ما يهدّد وجودها، أو أنها طوَّرت في داخلها السياسيّ والاجتماعي ديناميات للتجدُّد في أطرها الكيانية دونما شعور بأنها تفتقر الى غيرها... الخ، وانما القصد انها باتت تتمتع بشرعيةٍ سياسية داخلية: من المجتمع، وحتى من النخب السياسية والفكرية (القومية والإسلامية) التي رفضت في ما مضى اعتبارها وطناً نهائيّاً.

تلك الشرعية هي مصدر قوتها الأكبر، وهي ما تتغذى به ممانعتُها ضد أي شكلٍ من أشكال اهدار وجودها، حتى ولو كان ذلك الاهدار تحت عنوانٍ قومي توحيدي. ونحن لا نستطيع أن نفهم، اليوم، حركة الانفصال في العام 1961 (ومن دون أن نبرّرها طبعاً) من دون ادراك فاعلية الوطنية السورية في وجه عملية التوحيد الناصرية، ولا نستطيع أن نفهم أزمة العلاقات اللبنانية - السورية من دون الانتباه الى رسوخ فكرة الوطنية اللبنانية في وجه علاقةٍ تخشى تلك الكيانية اللبنانية من تذويبها. وقس على ذلك من أنواع الوطنيات المستنفرة ضد توحيد يُلغيها.

هل هو نقص في قومية تلك الوطنيات؟ لنقُل - بالأحرى - انه نقصٌ في وعي القوميين برسوخ الشعور الوطني في تلك الكيانات القطرية، وبالحاجة الى طمأنته بأن التوحيد ليس الغاءً للوطنيات بل جمعٌ لها يحافظ على كيانيتها في اطار علاقةٍ اتحاديةٍ جديدة: طوعية وديموقراطية ومتوازنة. وهي علاقة ينبغي أن تستفيد من تجربة جامعة الدول العربية ومن قدرتها على البقاء، ولكن في أفق تطويرها الى حيث تفتح الطريق أمام نظامٍ اقليمي تعاوني حقيقي يصبح مدخلاً نحو اتحادٍ عربيٍ على مثال الاتحاد الأوروبي.

"الحياة"

التعليقات