31/10/2010 - 11:02

ما بعد إقالة الحكومة الفلسطينية: كيف نرسم مسار الرؤية السياسية العربية؟../ د. أسامة الأشقر*

ما بعد إقالة الحكومة الفلسطينية: كيف نرسم مسار الرؤية السياسية العربية؟../ د. أسامة الأشقر*
لم تكن الظروف طبيعية بالمرة لأنها في الأصل لا تجري على أرض مستقرة، وإنما في أرض واقعة تحت احتلال شرس ومقاومة صعبة له، تركّبت على هذه الأرضية المتغيّرة وقائع سياسية مأزومة، لأنها لم تكن في سياقات عادية، وفوق هذا كله كان هناك محيط عربي ودولي لا يستجيب للمتغيرات، بل يتعامل مع المتغير بمنطق سياسي ثابت مما دفع الأمور إلى ما بعد حافة الهاوية السياسية.

هذا التشخيص هو الأدق في نظري لإعطاء المشهد رؤيته المتحركة باستمرار، إذ يتحمّل هذا التشخيص الكثير من الإزاحة والتغييرات السريعة وفق رؤية ناظمة.
ولتحليل المشهد إلى عناصره المتحركة ستنكشف لنا حقائق المسؤولية بسرعة، والمسؤولية هاهنا قد لا تعني الإدانة بقدر ما تعني التسبب بالحدث لسبب موضوعي مقبول أوموضوعي غير مقبول، إذ لابد للمواقف السياسية أن تستند إلى مبررات موضوعية، ثم بعد ذلك سنختلف في مدى قبولنا لها تبعاً لتوجهاتنا الفكرية والسياسية.

فلسطينياً يتكون المشهد من عنصرين مركزيين يتفاعلان مع عناصر فرعية فلسطينية هي بمثابة المشاهد التفصيلية الصغيرة التي تملأ بعض المشاهد التفصيلية الكبيرة لهذين العنصرين، ويتحرك في خلفية المشهد كله الظرف الموضوعي الواقع على الفلسطينيين، وهو الاحتلال، الذي يؤثر ويتأثر بقوة مع عناصر المشهد بتفاصيله الكبيرة والصغيرة.

العنصران الكبيران هما حركتا فتح وحماس، أي السلطة والمعارضة، وهذا هو المشهد الحقيقي لهذين العنصرين (أي سلطة ومعارضة) رغم أن حماس ترأس حكومة الحكومة وكانت تشكّل بمفردها الحكومة السابقة لها، لكن الواقع لا يقبل تكييفاً غير هذا التكييف والوصف كما سنشرح.

حركة فتح بعد رحيل زعيمها المؤسس ياسر عرفات وبعد خسارتها في انتخابات المجلس التشريعي مطلع 2006 لم تكن مهيأة للتعامل مع وضع ديمقراطي لا يتناسب مع زعامتها الفردية للقرار الفلسطيني منذ أربعين عاماً، ولم تكن مستقرة تنظيمياً في مستواها القيادي، وفي مستواها القاعدي للتعامل مع هذا الظرف الكبير الذي تكوّن؛ فكان الإطار الناظم لعلاقتها مع القوة المنافسة الجديدة (حماس) يعتمد على سياسة (منع حماس من التمكّن في السلطة) ولم يترافق مع هذه السياسة السلبية أي تطور في البناء الحركي لفتح، أو في الرؤية السياسية المعتمدة على تنفيذ رؤية بوش لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة في مناطق السلطة، مما جعل العلاقة يحكمها التوتر الدائم والعنيف أحياناً كثيرة مع حماس المستقرة تنظيمياً رغم استهداف الاحتلال لها لاسيما في الضفة الغربية، والواضحة سياسياً رغم المرونة الخطرة التي انتهجتها عقب موافقتها على وثيقة الوفاق الوطني وتداعياتها ثم التزامها باتفاق مكة والتزاماته.

حركة حماس لم تكن مستعدة أيضاً لفوزها الكبير في الانتخابات التشريعية، وإن كان مؤشر الصعود لديها يفيد أنها تعمل في إطار مشروع كبير لها يعتمد على إعادة تدوير القضية الفلسطينية، وإبرازها كقضية بلد محتل يمارس مقاومة مشروعة، وتديره سلطة تنفيذية دون الادعاء بأنها ذات سيادة. ولتثبيت هذا المشروع قامت حماس في بداية توليها للحكومة بعملية كبيرة أسرت فيها جندياً إسرائيلياً في عملية عسكرية، واستعادت زمام المبادرة السياسية في الوضع الفلسطيني من خلال هذا الملف، وكانت قوة حماس خلال هذا كله تزداد رغم حملة حركة فتح الشرسة عليها ورغم الحصار الدولي والعربي الخانق عليها، وكان من المفروض وفق السيناريوهات المعدّة أن تسقط حماس إثر هذا الحصار والتعطيل، ولكن الذي جرى أن قوة حماس تعززت بفعل صمود حكومتها المحاصرة والمأزومة سنة كاملة ثم خروجها منتصرة (بالنقاط) في اتفاق مكة.

كانت الخلفية الإسرائيلية تغزو المشهد الفلسطيني بكل عناصره، فهي من جهة تبدي تأييدها لحركة فتح أو للقيادة السياسية تحديدا فيها وتقوم بإسنادها فيما يخدم مشروعها الأمني الذي بُنيت السلطة الفلسطينية في اتفاق أوسلو على أساسه من خلال أجهزة السلطة الأمنية، بينما لم تعط (إسرائيل) حركة فتح أي مجال سياسي للتحرك، بل استمرت في سياستها القائمة على تقطيع الوقت دون تقديم أي شيء لسبب استراتيجي واضح لديها أنه (ليس في قدرتها تقديم المزيد من التنازلات على الأرض، وإلا فإن كيانها الجغرافي والسياسي سيتعرض لهزة استراتيجية عنيفة)، ثم مارست إسرائيل دوراً مباشراً في تقويض النظام السياسي للسلطة الفلسطينية، ليس بغرض تدميره وإنما بغرض إجهاض نزعاته الاستقلالية لاسيما بعد فوز حماس .

وفي المقابل فلم تتعامل (إسرائيل) مع المتغيرات السياسية المستجدة واتخذت سياسة غير واقعية في التعاطي معها مما أضعف دورها في التحكم بمساراتها ومراكز الفعل فيها، نظراً لسيادة منطق التعامل الأمني لديها على حساب منطق التعامل السياسي.

أما المحيط العربي فقد كان المشهد الغالب فيه هو العجز وسوء التقدير، فلم يتعامل النظام العربي في جملته مع المتغيرات واستخدم المنطق الأمني والإنساني فقط في التعاطي معها، ولم يتجه صوب بناء مسار سياسي متزن يتعامل مع المتغيرات السياسية الكبيرة الحاصلة، فتعاطى مع حركة حماس كمشكلة سياسية وأزمة ولم يتعامل معها كواقع سياسي كامل نظراً لارتفاع حماس عن السقف العربي الممثل بالمبادرة العربية وعدم قبول حماس للمبادرة رغم التزامها بعدم معارضتها قبيل اتفاق مكة، وتوزع الموقف العربي بين رفضٍ لهذا المتغير كما هو الحال في الموقف الأردني، أو التعاطي الأمني معه من خلال رؤية إقليمية ترى ضرورة التعامل مع الواقع للحفاظ على التأثير الإقليمي كما هو الحال في مصر، أو الموقف الإنساني المصاحب للصمت السياسي الذي تعتمده معظم الدول وعلى رأسها السعودية، بينما تميز الموقف السوري بالإسناد اللوجستي للمتغير السياسي لاعتبارات استراتيجية سورية، وتميز الموقف القطري بالديناميكة السياسية لاعتبارات وظيفية تقوم عليها دولة قطر الجديدة في رؤيتها السياسية المستقلة عن الرؤية السياسية التابعة لدولة بعينها.

وأما العجز السياسي فقد ظهر بوضوح في عجز النظام العربي عن فك الحصار المالي عن حكومة الوحدة والحكومة التي قبلها، رغم قرارات القمة العربية الواضحة في ذلك، وقرارات منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم العجز عن تسويق حكومة الوحدة وبرنامجها السياسي رغم المظلة السعودية المهمة، وتبدَّى هذا العجز في عدم فك الحصار العربي المالي، إذ لم يتعامل أي مصرف عربي مع المنظومة المالية للحكومة الفلسطينية خشية العقوبات الأمريكية، بل إن جامعة الدول العربية نفسها حُجِزت عن ممارسة أي دور بعد الدعاوى القانونية المرفوعة عليها من مؤسسات دولية تخضع للنفوذ الأمريكي تمنع الجامعة من التصرف في حسابات الدعم العربي للحكومة الفلسطينية.

ولعل من أخطر مظاهر العجز السياسي العربي هو تورط العرب بتبني الرؤية السياسية لحركة فتح في التعاطي مع حركة حماس والحكومة الفلسطينية، فقد تعاملت حركة فتح مع حماس بمنطق التجاهل فيما يخص العلاقات العربية والدولية، فلم يكن لحكومة حماس أي نصيب في أي لقاء مع أي قيادة عربية أو أجنبية تزور مناطق السلطة أو تزورها الرئاسة الفلسطينية، وتركّز الأمر كله في يد مؤسسة الرئاسة التي تضخمت بالمستشارين ومسؤولي الملفات السرية، وكان الاختراق الوحيد في اصطحاب رئيس السلطة محمود عباس لرئيس حكومته إسماعيل هنية في القمة العربية ثم لم يتكرر هذا الاختراق.

أما الرؤية الدولية فقد أثبتت هي الأخرى نمطيتها وبطأها وعجزها، فقد تبنت الرؤية الإسرائيلية الأمريكية وفرضت الحصار السياسي والمالي الكامل على الحكومة الفلسطينية وحماس، ولم تمتلك التقديرات الأكاديمية والاستراتيجية التي كانت تنصح بها مراكز الدراسات الأوروبية الجادة القدرة على التأثير في صناعة السياسة الدولية، ولم تستطع الرؤية الروسية المبنية على التعاطي الواقعي مع المتغيرات ومفرزات الديمقراطية الجديدة في فلسطين أن تؤثر في الموقف الأوروبي، فضلا عن الأمريكي، نظراً للضعف العام في الوزن السياسي الروسي على الصعيد الدولي رغم أهميته.

وبناء على هذه الرؤية المشهدية فإن ما جرى في فلسطين عقب إقالة رئيس السلطة لحكومة الوحدة الوطنية، ورفض حماس الاعتراف بهذا الواقع بالاعتماد على أنها قوة صاعدة استطاعت مواجهة كل الأزمات السابقة والانتقال بها من مستوى إلى مستوى أقل ضرراً، دون أن تتخلى عن منظومتها الفكرية والسياسية التي يسعى المحيط الفلسطيني الرسمي والعربي والإسرائيلي والدولي لدفعها للتخلي عنها، فإن ما جرى سيؤزم الواقع الفلسطيني والعربي والدولي إذا لم تتحرك سياسات هذه الدول نحو الاعتراف بالمتغيرات السياسية أو الاقتراب منها ثم تكييف سياسة جديدة واقعية، ولابد أن يأخذوا بعين الاعتبار أن التقدير السياسي العادي أو المتأثر بموقف مسبق لدولة أو نظام ما لن يكون مجدياً أو مفيدا،ً بل لابد أن تتحدد مستويات قراءة عالية تعتمد على أن فلسطين واقعة تحت احتلال لا يمتلك أفق حل سياسي، وأن في فلسطين قوة صاعدة جديدة وواعدة وذات أرضية شعبية تؤثر بقوة في الواقع السياسي الفلسطيني، بل أصبحت اليوم لاعباً استراتيجياً لا يمكن تجاهله .

التعليقات