31/10/2010 - 11:02

ماذا يعني التصعيد؟ وهل لدينا نظرية للنضال الشعبي؟../ عوض عبد الفتاح

ماذا يعني التصعيد؟ وهل لدينا نظرية للنضال الشعبي؟../ عوض عبد الفتاح
يظن البعض، أنه بمجرد إطلاق الدعوة لتصعيد النضال الشعبي ضد نظام القهر والظلم، يمكن الخروج من حالة التراجع التي ينتهي اليها شعب أو حركته الوطنية في مرحلة معينة من حياته، لأسباب تتعلق بحجم الرّد الوحشي من جانب النظام أو لأسباب ذاتية تتعلق بسوء إدارة النضال.

فنحن نواجه عادة نمطين من ردود الفعل، يصدران عن أناس في مواقع مختلفة أو متباينة أيضًا. النمط الأول يصدر عادة عن التيار المهيمن في الهيئات القيادية، ويتمثل في التعامل البارد مع ممارسات نظام القمع، وفي الدعوة الدائمة الى التريث وإن كنا نجد أحيانًا بين أصحاب هذا النمط من يطرح خطوات متقدمة محسوبة. والنمط الثاني، يصدر عن أصوات متحمسة وغالبًا تكون غير مطّلعة على مقتضيات التصعيد أو النهوض مجددًا. وهذه الأصوات تستند الى التذمر الشعبي من الوضع القائم الذي يُعزى في نظرها الى تقاعس القيادة وخمولها اكثر مما يُعزى الى النظام القهري، وفي غالب الأحيان ليس لدى هذه الفئة أو الأصوات برنامجٌ محددٌ أو تصورات لكيفية الخروج من حالة التراجع.

بين هذين النمطين، هناك فئات أو أوساط من النخب، سواء داخل القيادات أو خارجها، تمتلك رؤية لكيفية الخروج من الأزمة، ولكن لا يؤدي امتلاك رؤية بالضرورة إلى إيجاد الحل. فالانتقال من الرؤية الى التنفيذ، تقف أمامه عقبات هائلة، أو يتطلب توفر شروط أهمها أو أولها توفر الآليات لتنفيذ الرؤية والقدرة على إقناع بقية أطراف القيادة، وثانيًا القدرة على اكتساب ثقة الجمهور وتجنيده في المعركة، وثالثًا القدرة على تجنيد الإمكانيات المادية من الشعب.

ومن أكبر العقبات هي التغيرات السلبية التي تكون قد تراكمت على مدار سنين من غياب الفعل الشعبي المنظم وإهمال بناء المؤسسات الذي يقوم على العمل الجماعي. ففي هذه المرحلة يتراجع الإبداع والخيال، وتترعرع الأنانية والفردية والشخصانية وتنتشر العصبية الطائفية والعشائرية التي تطال أفرادا كثيرين من القوى السياسية والمثقفة، وما يترتب على ذلك من نزعة للمساومة وقبول الحلول الوسط.
ولكن كما يعلمنا التاريخ، فإنه من قلب هذا الواقع ينهض نقيضه بفضل تضافر ثلاثة عوامل أيضًا؛ الغضب المتراكم، والحاجة الى بديل ينير الطريق نحو حياة أفضل، ونضوج جماعة قيادية مؤهلة لقيادة عملية النهوض. لقد عرفنا ذلك من تجارب شعوب كثيرة خاضت نضالها من أجل التحرر من الاستعمار ومن القهر الطبقي.

لقد نهض شعب فلسطين بعد سنوات من النكبة – الكارثة وأعاد تأسيس حركته الوطنية المعاصرة، وخاض ولا يزال كفاحه من أجل تحرير وطنه، واستلهمت قياداتها تاريخ الأمة القديم والمعاصر وتجارب كفاحية لشعوب كثيرة، كانت قد حققت نصرًا أو شعوب كانت ولا تزال تكافح.

وتأسست نظريات حديثة خاصة بالنضال الشعبي والتحرري تقوم على مشاركة عموم الناس، وليس فقط على الجيوش أو على حلقات ضيّقة من المناضلين.

كانت بداية انطلاق هذا النمط الحديث في أوروبا القرن التاسع عشر، خاصة بعد أن استفحل الصراع الطبقي ضد البرجوازية الكبيرة، التي تحولت بعد بناء الدولة الوطنية-القومية، على أنقاض الامبراطوريات والطائفية والحمائلية والمذهبية، الى وحش استغلالي كاسر. وانتقلت هذه الأساليب النضالية الى الحركات القومية التي نشأت في تلك الفترة، وفيما بعد، لتحويل انتمائها الثقافي القومي الى إطار سياسي مستقل، يقوم على وحدة الأرض والتاريخ المتخيّل وعلى المواطنة المتساوية. وخرجت نظريات فيما بعد عن الحرب الشعبية وحرب العصابات وعن النضال الاجتماعي-الشعبي المنظم المستند بالأساس الى الشعب خاصة قطاعاته المتضررة مباشرة. وكان في طليعة هذه التجارب العملية والنظرية، الاشتراكيون على اختلاف تياراتهم والقوميون الديمقراطيون.

وكما هو معروف فقد قرأت النخب الفلسطينية تجارب الثورة الصينية والروسية (الاشتراكية) والثورة الفيتنامية الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين في الخمسينيات والأمريكيين منذ الستينيات حتى عام 1974- تاريخ اندحار الاحتلال الأمريكي عن الأرض الفيتنامية.

وقرأوا أيضًا ماركس (الألماني) الذي تحدث عن ضرورة وجود حزب ثوري يقود العمال، ولينين (الروسي) الذي نظّر للنضال الشعبي الثوري وقاد عملية قلب النظام في روسيا عام 1917، وماوتسي تونغ (الصيني)، وهوشي منه والجنرال جياب الفيتناميين... وتشي جيفارا البوليفي، المساهم في الثورة الكوبية وسيف بيكو ( جنوب افريقيا). وقد تحول نموذج جنوب أفريقيا في المقاومة الى أكثر التجارب المعاصرة الملهمة للقوى المناهضة للعنصرية والكولونيالية. مؤخرًا قدمت المقاومة اللبنانية نموذجًا لافتًا للحرب الشعبية وفي التنظيم ذي المستوى العالي.

وكما هو معروف فقد غاب معظم هذه النماذج عن الاهتمام أو خفت وهجها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واستفراد القطب الامريكي في قيادة العالم. فقد ابتعد الكثيرون ممن كانوا معجبين بالأفكار الثورية عن هؤلاء القادة التاريخيين، بل تحول البعض الى النقيض، وراح يطبّل للامبريالية الأمريكية ولنهجها، في حين من كان يحمل نظرة نقدية لمواقف أو للإنتاج الفكري لهؤلاء القادة ظلّ محافظًا على توازنه يأخذ ما يُفيد ويلقي في برميل النفايات ما لم يعد يُفيد أو ما يعيق التطور الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

نسوق هذه المقدمة الطويلة، ليس لإثارة الحنين أو لنسخ تجارب وأفكار هؤلاء، بل فقط لندلل على الأهمية والحاجة الى التفكير وابتكار النظريات من جانب النخب القائدة او التي تسعى الى إحداث تغيير في واقع مجتمعاتها أو شعبها والتدليل أيضًا على الحاجة لبلورة خطط استراتيجية عملية .. أي كيف نبدأ، كيف نُجدد، وكيف ننتقل من خطوة الى أخرى ضمن استراتيجية كفاحية تأخذ في الاعتبار التجارب السابقة، بايجابياتها وسلبياتها، وكذلك ميزان القوى القائم، والأهم التغيرات العميقة التي حصلت في المجتمعات عمومًا ومجتمعاتنا العربية خصوصًا.

نحن لا نحتاج، وليس مطلوباً، ولا ممكنًا، الى نسخ تجارب سابقة. ما نحتاج اليه هو استحداث آليات وخطط نضالية جديدة قادرة على استنهاض المجتمع بشرائحة المختلفة، وإشراكه في النضال وتوزيع المهام والمسؤوليات كل في مجاله – في النضال الشعبي المباشر، التعليم، الثقافة، الاقتصاد وغيره وفي استقطاب التعاطف العالمي.

لست في هذه المقالة بصدد طرح تصورات لآليات النضال على الساحة الفلسطينية عمومًا، فالذي أبغيه هو إثارة التفكير والدعوة الى العمل المشترك لتحريك العمل الشعبي على ساحة الـ 48، ولكن أجد من الضروري والمفيد التذكير بتجربة الانتفاضة الشعبية الأولى التي انفجرت ضد الاحتلال في كانون الأول 1987، والتي كنت قريبًا منها كصحفي وكناشط سياسي.

لقد شكلت هذه التجربة الفلسطينية نموذجًا خاصًا من حيث التنظيم السياسي والمجتمعي) على المستوى الداخلي( والفاعلية والتأثير في الرأي العام الاسرائيلي والعالمي. مع أن هذه التجربة، التي تم خَصيها من قبل قيادة الخارج، قبل أن تنضج ثمارها، خضعت للتشريح والتحليل بصورة واسعة، إلا انه يجدر أن نعيد قراءتها والتعلم منها، ذلك ان ما تلاها من تجارب وجولات من الصراع افتقر الى ذلك المستوى من التنظيم والتلاحم، والمشاركة الشعبية، التي تميزت بها هذه الانتفاضة في السنوات الثلاث الأولى .

لقد كان الانضباط عاليًا، ومن الصعب تصور شعب يظهر هذا القدر من الانضباط، بحيث يردّ بالحجر فقط أو بالمواجهة بالصدور العارية على رصاص الاحتلال الذي حصد آلاف الشهداء والجرحى، مع أنّ القيادة وهذا الشعب يعرفان أن استعمال السلاح ضد المحتل حقٌ معترف به دوليًا. كانت الانتفاضة الأولى بعيدة عن الفساد والإفساد، وكانت الخلافات تُحل دون أن تتحول الى صراع داخلي، هكذا ساهمت الانتفاضة في نزع القناع عما كان يُسمى الاحتلال المتنور. وهكذا قدمت نموذجًا في التنظيم المجتمعي الداخلي تحت الاحتلال.

ليس التصعيد إطلاق التصريحات النارية، وإنما وضع الخطط العملية والمدروسة والمتواصلة – تشمل إعلان الاستنكار والإدانة، والرفض وعقد الاجتماعات التشاورية، والمهرجانات والمظاهرات الاحتجاجية، والمبادرات الشعبية كالاعتصام وإقامة خيم الاعتصام وجمع التبرعات، وإعادة بناء البيوت، وبناء ( وليس تشكيل)، اللجان الشعبية، أي بناء الأداة المنفذة للخطة العامة أو للخطوات المتضمنة في الخطة الكبيرة. جميع هذه الأفكار معروفة وطُرحت ويتم تبني الكثير منها في الهيئات التمثيلية العربية، ويطبَق بعض منها خاصة تلك التي لا تحتاج الى جهد كبير.

ليس النضال الشعبي غريبًا عن تجربة الجماهير العربية داخل الخط الأخضر، ولا إقامة اللجان الشعبية، منذ الخمسينيات وحتى اليوم. لهذا النضال الدور الأهم في إبقاء قضية عرب الداخل في دائرة الضوء، وبالتالي في تربية أجيال كاملة على الانتماء وعلى كون قضيتهم جزءا من قضية وطنية أشمل.

ولكن هذه التجربة لم تتحول الى نظرية أو الى مرجعية منظمة وواضحة، ولا الى استراتيجية ذات معالم واضحة، ولها مراحلها المترابطة. فالهبات الشعبية الكبيرة والتاريخية، وأهمها هبة يوم الأرض وهبة القدس والأقصى، سرعان ما خمدت نيرانها لأسباب لا تتعلق فقط بوحشية الردّ الاسرائيلي عليها، إنما بغياب هذه الاستراتيجية وغياب اللجان الشعبية المنتشرة في كل قرية ومدينة، وغياب الرابط الهرمي او المرجعية لهذه اللجان وتدني سقف القوى السياسية التي هيمنت على الساحة آنذاك.. قد يحاول البعض ان يقول ان ذلك غير ممكن بسبب خصوصية الوجود العربي وتشتته الجغرافي واعتماده الكلي على الدولة العبرية، وأنه لا يجوز مقارنة وضعنا في ظروف الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي كانت سلمية، لكن هذا الادعاء غير صحيح.

إنّ قيادة أي شعب أو مجموعة قومية، ينتظر منها إيجاد الاستراتيجية النضالية المناسبة لواقعها، وقد كانت الفرصة مهيأة للقيادات العربية بعد الهبة الشعبية عام 2000، للتأسيس لنظرية أو لاستراتيجية كفاحية وبنائية تستمد قوتها وزخمها من دروس هذه الهبة الشعبية العارمة التي اجتاحت الجليل والمثلث والنقب بصورة لم يسبق لها مثيل، على مدار أربعة أيام متتالية متحديّة الرصاص والقمع الوحشي.

لقد ضيّعنا فرصة ثمينة ودروس تجربة مجبولة بالدم، وأعقنا إعادة بناء المرجعية الوطنية المطلوبة أي لجنة المتابعة.

من الواضح لنا وللكثيرين أنه لا يمكن إخراج أي رؤية او استراتيجية وطنية للنور طالما لا يوجد أداة تنظيمية شاملة، تستند الى سند شعبي منظم وواسع وإلى سند مادي من خلال إقامة صندوق مالي محلي.

ولكن طالما أن الأمر متعذر لإيجاد هذه المرجعية على أساس وطني ومهني وعلى أساس الانتخاب المباشر، نظرًا لغياب الاتفاق الشامل، فإنه يجدر التفكير ببدائل ريثما تنضج فكرة الانتخاب المباشر.

وهذا يتأتى عبر مسارين: أولاً التقدم والتحضير الجدي لمشروع مؤتمر الجماهير العربية ينظم نضال عرب الداخل ويبني اللجان الشعبية في كل مكان. والمسار الثاني، مبادرة تُطلقها القوى السياسية والشخصيات والأطر المعنية بإعادة بناء المتابعة عبر خطة أو حملة اعلامية تثقيفية وتعبوية حول الفكرة بين الناس.

لقد حان الوقت لفتح النقاش الجدي والمعمّق، الجريء والمسؤول حول هذه القضايا الهامة ولأن يدلي بدلوه كل المعنيين بالتغيير وللخروج من المأزق الحالي والرد على الهجوم السلطوي المعادي.

التعليقات