31/10/2010 - 11:02

محنة فلسطينية ولا مبالاة عربية../ عبد الإله بلقزيز

محنة فلسطينية ولا مبالاة عربية../ عبد الإله بلقزيز
لم يكن الفلسطينيون يوماً وحيدين، معزولين، منسيين، متروكين لقدرهم، كما هم اليوم، لا أحد في العالم يأبه لأمرهم، تفيض معاناتهم عن حدود طاقة البشر، وتعز لقمة عيش أطفالهم من الحصار، ولا أحد يكترث لمحنتهم، يموتون ويسجنون وتدمر مساكنهم وتقطع أوصال أرضهم بالجدران العالية والحواجز، ولا أحد يتبرع عليهم بعبارة عزاء، يقضم العدو أرضهم شبراً شبراً وينشر المستوطنات فيها كالسرطان، ولا أحد يبدي استنكاراً، شبهة استنكار! كأنهم جرب يخشى من انتقال عدواهم إلى الخارج أو يستحسن إحكام الإغلاق عليهم درءاً وتفادياً!

“العالم الحر” معني بكل مشاكل الدنيا: من محنة أهالي دارفور إلى أحداث جورجيا مروراً بحرائق الغابات وانقراض أنواع من الحيوانات في المناطق الاستوائية، ما عدا غزة وفلسطين، فهو عنهما ذاهل معرض، وقد يقوم من بين أبنائه شرفاء أحرار يغامرون برحلة في عرض البحر على ظهر سفينة بدائية كي يحطوا الرحال على شاطئ غزة ويحموا شرف الانسانية الممرغ، هؤلاء من ذاك “العالم الحر”، لكن هذا ليس منهم وإن تسمى “حراً”. أما أمريكا، فلا تكتفي باللا مبالاة إزاء التراجيديا اليومية الفلسطينية تشارك في صناعة فصولها وإدارتها بحماسة.

وكلما شعرت بأن أصدقاءها العرب والفلسطينيين ضاقوا ذرعاً بحرج تسببه لهم أفعالها في فلسطين، أرسلت لهم وزيرة خارجيتها الآنسة رايس لترطيب خواطرهم وبيعهم وعوداً جديدة في انتظار أخرى يفرضها حرج عربي جديد.

لـ“العالم الحر” صورة أخرى في مرآة فلسطين وعذابات شعبها، صورة تخدش نظرته إلى نفسه، تذكره بالجريمة التي شارك في اقترافها قبل ستين عاماً، لكنها لم تولّد لديه، حتى الآن، الشعور بالذنب نفسه الذي يولده لديه تذكره جريمة تصفية اليهود في أوروبا أثناء الحرب، لذلك لم تشعر دوله بعد بمسؤوليتها الأخلاقية في صنع مأساة الشعب الفلسطيني.

الأحرار وحدهم من شعوب ذلك العالم يعيشون عذاب الضمير وهم يعاينون وقائع إلاذلال اليومي لآدمية الفلسطيني وصمت دولهم عن ذلك الإذلال، فتراهم يفعلون أي شيء بسيط - ولو رمزياً - حيال معاناة الفلسطيني كي يرفعوا عنهم ثقل الشعور بالمسؤولية الأخلاقية التي لا تشعر بها دولهم. كأنهم يفعلون ما يفعلون من أجل تصحيح صورة كونتها شعوب المنطقة عنهم كمشاركين دائمين في جريمة لم تتوقف فصولها منذ ستين عاماً أو يزيد. وما همّ إن كان على أخلاقية التضامن عند هؤلاء الأحرار أن تكون مدفوعة بوازع لا شعوري إلى تبرئة أنفسهم وشعوبهم من مسؤولية مادية ومعنوية رتبتها عليهم سياسات حكوماتهم، المتناسلة من بعضها على مثال واحد منذ العام ،1947 ففي فعل التضامن بحد ذاته - أياً يكن وازعه - ما يشفع لهم.

والعرب؟ مخجل شديد الخجل ما يفعلون، مخجل صمتهم وعجزهم ولا مبالاتهم إزاء ما يجري أمامهم، ما تنقل صوره شاشات التلفاز، ما يعرفون من التقارير الدولية والوطنية عنه ما لا يعرف الرأي العام، كأن ما يجري مشاهد فيلم درامي تدور أحداثه في المريخ. كأنه لا يعنيهم، لا يجري على أبواب ديارهم، لا يقرر مصائرهم، لا يرتب على أوضاعهم الحاضرة تبعات، لا يلقي عليهم مسؤوليات! والأدعى إلى الخجل في هذا المخجل أن تلك اللا مبالاة بحياة الفلسطيني وأمنه وقوت يومه وآدميته (أي حقوقه البدائية ككائن حي، دعك من حقوقه السياسية والوطنية)، لم تعد سمة تدمغ النظام الرسمي العربي بطابعها منذ عقود فحسب، وإنما باتت سمة “الشارع” العربي وقواه “الحية” أيضاً في السنوات الأخيرة وعلى نحو مخيف حقاً!

تجتمع هذه السياسات على توافق ضمني بفك تدريجي للارتباط بقضية فلسطين: بدءاً بالقول إنها باتت قضية الفلسطينيين من دون سواهم يأخذونها بأيديهم ولا يوافق العرب إلا على ما يوافق عليه أصحاب القضية “الحصريون” مروراً بالحديث عن “مبادرة عربية” لا يعرف أحد أين هي ولا هل تكفي كتابة نص في قمة حتى يصير مبادرة! وصولاً إلى وضع المسألة برمتها في عهدة الإدارة الأمريكية والتسليم لخريطة طريقها بالحق الحصري في انتاج “حل” سياسي لها! إذا كان لا بد من حديث عن سياسة عربية في هذا الباب، فهذه هي ملامحها من دون زيادة ولا نقصان.

وعلى مثال انصراف النظام العربي عن القضية ينصرف عنها “الشارع” والمنظمات الشعبية إلى غيرها من هموم أخرى تبدأ بالخبز ولا تنتهي بالحريات العامة. وهكذا يختفي مشهد الحشود التي تخرج بعشرات الآلاف وتصل في مدن عربية - مثل الرباط ودمشق وصنعاء - إلى مئات الآلاف (وليس إلى مليون أو ثلاثة ملايين كما يحلو للبعض ضرب الأرقام في العشرة!) واليوم لا يكاد المحتجون يتجاوزون عشرات المعتصمين أمام السفارات الأجنبية أو البرلمانات أو بعثات الأمم المتحدة في العواصم العربية! وهي مآلات للحراك الشعبي العربي مخيفة وذات نتائج بالغة السوء ليس أقلها أن حالة الركود النضالي هذه تريح القرار الرسمي العربي وترفع عنه عبء ضغط الرأي العام.

ما كان مستغرباً، أمام هذه الحال من الاستنقاع، أن تستقبل مبادرة التضامن الدولي مع أهالي غزة المحاصرين، وأن تستقبل سفينتهم بتلك الحفاوة البالغة والاهتمام الإعلامي، وكأن أمراً استثنائياً حصل، وكأن جيوش العرب أو جماهيرها وصلت إلى غزة ظافرة، فالمبادرة - على تواضع معناها الرمزي - كبرت حجماً فقط أمام قزمية الموقف العربي: الحكومي وغير الحكومي. ولولا أن بعض الإعلام العربي ما زال يتابع الأوضاع في غزة وفلسطين، لقلنا إن هذا الاسم خرج من حيز اللسان العربي.
"الخليج"

التعليقات