31/10/2010 - 11:02

من أين لهذا الفتى كّل هذا الوعي؟!../ رشاد أبوشاور

من أين لهذا الفتى كّل هذا الوعي؟!../ رشاد أبوشاور
كي أوضح خلفيّة سؤالي، فلا بدّ من التذكير بأن هذا الفتى كان دون الثامنة عشرة عام 79، عندما قاد عمليّة (جمال عبد الناصر) في نهاريا، ولم يكن قد أكمل دراسته الثانويّة...

وهو كان في السادسة عشرة عندما اعتقل وهو يحاول عبور الأردن لتنفيذ عمليّة في فلسطين قبل عمليّة ( جمال عبد الناصر)، وأفرج عنه بعد فترة، ولكنه لم يتراجع عن هدف تنفيذ عمليّة فدائيّة كبيرة.

وحتى يأخذ السؤال مداه فلا بدّ من التذكير بأن سمير القنطار بقي على قيد الحياة، وأسر بعد أن أصيب بخمس رصاصات، واحدة منها ما زالت تستقّر لصق رئته اليمنى وتضيف إلى متاعبه مع ( الربو) آلاما يضاعفها عفن الزنزانة، وعتمتها، ورطوبتها، ووحشتها والحرمان من العلاج إمعانا في التعذيب، لتدمير القدرة على التحمل، ودفعه لليأس.

زميله الذي لا يسمع به أحد هذه الأيّام، والذي بقي حيّا، ومعه وقع في الأسر، أفرج عنه في عمليّة التبادل التي أنجزتها الجبهة الشعبيّة القيادة العّامة عام 85، ومن بعد عاش حياته في الظّل بلا أي مجد، بينما برز سمير القنطار رمزا في السجون التي تنقّل فيها، حتى صار الناطق الرسمي، والقائد الحقيقي للكثير من الإضرابات التي خاضها الأسرى، لتحسين ظروف عيشهم في السجون، ولتحقيق منجزات فتحت للكثيرين منهم أبواب التعلّم الثانوي، والجامعي، فرأينا عشرات منهم يعملون بعد تحريرهم كباحثين، وكتّاب رأي متابعين لشؤون العدو، وكل مناحي حياته، وبخبرات تبّز كبار محلليه.

مثل كثيرين انتظرت ما سيقوله سمير القنطار في إطلالته الأولى يوم الأربعاء 16 تموّز، على حشود لم يسبق له أن التقى بالقليل منها خطيبا من على المنبر، هي التي تنتظر منه الكثير، وقد تابعت (أسطورته) على مدى ثلاثة عقود!

كما توقعت في مقالتي السابقة، تحدى السيّد حسن نصر الله كل الاحتياطات الأمنيّة، وظهر على المنصّة، مندفعا من وراء الستائر، هو صانع الحدث، وعانق الأبطال وفي مقدمتهم عميدهم سمير القنطار، وداعب الجمهور، ثمّ انسحب ليخاطب الجمهور وملايين العرب عبر الشاشات العملاقة، وعبر الفضائيات، وفي مقدمتها (المنار) و(الجزيرة) التي قامت بدورها على أكمل وجه...

وهو ببدلته العسكرية، التي منحته مزيدا من المهابة، خاطب القنطار جمهورا حاشدا، بقليل من الكلام، وبدون ادعاء.. وهل يدّعي من يقضي ثلاثين سنةً في الزنازين، والمعتقلات الصحراوية؟!

قال: لن أتراجع عن خيار المقاومة، وأنا خرجت لأعود إلى فلسطين. إن فلسطين هي قضيّة الصراع وليست مزارع شبعا، وجرود كفر شوبا...

بصلابة، وتواضع، ووضوح، خاطب الجموع، فوصل إلى العقول، والقلوب، فعرفت أسباب صمود واستبسال هذا الفتى الذي يقترب من الكهولة، ولكنه يبدو شابا في الخامسة والثلاثين، وليس كهلاً في الثامنة والأربعين!
هذا الفتى اللبناني، الدرزي، بات رمزا أكبر من أن يحسب على قطر عربي، أو طائفة، إنه ينتمي لمشروع مقاومة يرى في فلسطين جوهر الصراع، وهو يرى أن هذا العدو لا يريد سلاما، فقد قتل حتى ياسر عرفات الذي (سالمه)...

هذا بعض ما خاطب به جمهور (الجبل) بحضور السيّد وليد جنبلاط، في مهرجان تكريم بلدته ( عبيّة)!
لم يكن مستغربا أن يمسك السيّد وليد جنبلاط بصدر قميصه وينفضه، في حركة تفصح عن رفضه، وتنصله من هكذا خطاب!

في لقاءاته السريعة مع الفضائيات، وفي البرامج التي قدمته لملايين العرب، عرض سمير القنطار أفكاره، بعيدا عن التنظير، بحماسة متقدة تستند إلى التجربة المباشرة، والخبرة، ودقّة المتابعة لمجريات عملية السلام الفلسطينيّة، وغيرها، وما ألحقته في العرب من خسائر...
المقاومة فقط هي التي انتصرت، وحررت، وهي الأمل..أفي هذا شّك؟!

هناك من يحرجهم (خطاب) سمير قنطار المقاوم، ويحشرهم في الزاوية، فهم لا يجسرون على اتهامه بالمزاودة، لأنه ضحّى، وهو يعد بمزيد من التضحيّة، ولا يأبه بتهديدات العدو بتصفيته، عقابا له على الإذلال الذي لحق لا بأجهزة العدو وحدها، ولكن بالكيان الصهيوني كلّه من أعلى الهرم السياسي، حتى القاع، أي الجمهور العنصري المريض، مرورا بصحافة اعتادت التحريض على العرب، والحّط من قيمتهم، حتى قرأنا لبعض الصحفيين دعوة سافرة باغتيال لا سمير القنطار وحده، ولكن السيّد حسن نصر الله رمز المقاومة الكبير!

في أيّام قليلة رسّخ سمير القنطار صورته، بخطابه المقاوم، ودعوته العرب للخروج من حالة الخنوع، ومجابهة الخطر الصهيوني الذي لا يستهدف فلسطين وحدها، والذي يتهدد كل الأقطار العربيّة، والذي لن يرحم حتى من (سالموه)!

تحرير سمير القنطار أضاف لخطاب المقاومة الذي يمثّله حزب الله في لبنان، والقوى المقاومة في فلسطين التي ترفض (أوسلو)، ولقوى المقاومة في العراق التي تلحق الضربات في الاحتلال والتابعين له...
سمير القنطار يضيف من تجربته لخطاب المقاومة فكريّا، وأخلاقيّا، وبطوليّا، ما يسلّح هذا الخطاب بالمزيد من الصدقيّة...

هذا الخطاب العربي، يحرج خطاب السلام الفاشل فلسطينيّا- ومن قبل، ومن بعد،عربيّا- وهو إذ يترافق مع عشرات جثامين الشهداء والشهيدات، وجلّهم من الأقطار العربيّة، الذين اقتحموا فلسطين فتيانا طافحين صحّة وشابا، ويعودون منها عظاما، يزكّي القول بأن فلسطين هي قضيّة عربيّة بامتياز، وأن النضال لتحريرها ليس منّةً، وإنما هو ضرورة قوميّة، لأنه صراع وجود لا صراع حدود، هدفه التحرر من كل المعوقات التي تحرم بلاد العرب، والإنسان العربي، من الوحدة والتقدّم، في وطن واحد حّر سيّد...

سئل سمير عن سّر ارتدائه للباس العسكري- سأله غسّان بن جدّو في برنامج حوار مفتوح مساء 19 تموّز- فأجاب: أنا من اقترح اللباس العسكري، لباس المقاومة، لأن هذا هو خياري الذي لن أتراجع عنه...

سمير القنطار تعلّم، ثقّف نفسه في عتمة السجن، صقل تجربته، طوّر وعيه، عاش التجربة بعمق وبحرص وبانتباه ويقظة، مستخلصا العبر والدروس، فكان المعلّم والتلميذ.
سمير القنطار وكما وصفه السيّد حسن نصر الله في خطاب استقبال الأسرى المحررين: هو ثروة وطنيّة يجب الحفاظ عليها...
نعم: سمير القنطار ثروة ( قوميّة) يجب الحفاظ عليها، ومعتنقو فكر المقاومة، وثقافة المقاومة، هم أجدر الناس بالحفاظ على هذا الثائر العربي، الذي وهب عمره لحريّة فلسطين، التي تختزل كّل قضايا الأمّة...
سميرالشّاب روحا وفكرا يجدد التفاف الجماهير العربيّة حول فلسطين وشعبها...
سمير القنطار ربّى الأمل، ورعاه، وسقاه من عرقه ودمه، حتى أينع، وأثمر حريّةً، وفكرا، وإيمانا وراء القضبان...

عندما يعرف الإنسان دوره، ويملك الجاهزية والاستعداد لدفع الكلفة مهما بلغت، فإنه سيكون سمير القنطار، أو ما يشبهه، الآن وفي كّل آن. ومن ينكص وينزوي لا يذكره أحد...
من حقنا نحن (عائلة) سمير العربيّة أن نفخر به، وأن نراه فلسطينيّا جدّا، بقدر ما هو عربي جدّا...
إن فيه لفلسطين أكثر بكثير مّما في من ولدوا فلسطينيين صدفةً، إنه فلسطيني بالتجربة، والتضحية، والانتماء، وبثقافة المقاومة التي يبشّر بها...

في زمن الرخاوة، والطائفيّة، والإقليميّة، هبّت رياح المقاومة العربيّة، مع تحرير سمير وإخوانه، ونهوض جثامين الشهداء من مقبرة الأرقام، ليدفنوا في بلدانهم، مذكّرين الأمّة بأن فلسطين قضيّةً العرب!

التعليقات