31/10/2010 - 11:02

من المبكر القول إن "عصر الجماهير" قد عاد!/ محمود الريماوي

من المبكر القول إن
عودة الى عصر الجماهير. بهذا وصف معلقون عرب، الهبة العارمة التي خرجت احتجاجا على نشر رسوم مسيئة للنبي الكريم في دورية دانماركية، وما تبعها من إعادة النشر في مطبوعات أوروبية. فتبدى خروج أعداد غفيرة إلى الشارع، والتعبير عن الغضب والنقمة، على أنه عودة الناس الى الإمساك بزمام أمورها، وعدم انتظار تحرك الحاكمين للانتصار لكرامة الشعوب.

وقد عزز من هذا الانطباع ، تنظيم حملات سرعان ما لاقت نجاحاً لمقاطعة منتجات دانماركية، وخاصة تلك التي تتوفر لها بدائل محلية وأجنبية في الاسواق كمنتجات الألبان.

وواقع الأمر أن هذه النتائج ليست سيئة بحد ذاتها، فاللجوء الى التظاهر هو ما يسم الآلية الديمقراطية للنضال المطلبي والسياسي، وسلاح المقاطعة تلجأ اليه الولايات المتحدة ضد الدول التي تعتبرها خصماً لها، بل إن المقاطعة تتم أحياناً لأسباب وتحت شعارات أبسط، كحماية المستهلك من ارتفاع الاسعار، او حماية منتجات محلية من منافسة خارجية.

على أن المسارعة الى وصف ما جرى ويجري على أنه عودة لعصر الجماهير، يحمل قدراً غير هيَن من المبالغة، إذ أن الهبّة التي سادت في دول اسلامية، وفي الشارع الاسلامي ضمن دول غير إسلامية، إنما هي هبة ذات هدف آني محدد، وهو التعبير عن الغضب النبيل ازاء المساس المتعمد بمعتقدات ومقدسات، وحمل الجهات المسيئة على الاعتذار. ويصعب اعتبار هذه الهبة في ضوء ذلك، على أنها بمثابة عودة للجماهير في تقرير مصيرها ومصير أوطانها. إذ أن آنية التحرك والهدف، والسيولة التي طبعت هذا الاندفاع، رغم محاولات توظيف سياسي محدد لهذا التحرك، تشي بأن الأمر يتعلق بغضب عارم ومشروع، وبالتعبير عن جرح أليم يقتضي مشافاته بإزالة أسبابه، ولا يمتد على الأقل حتى تاريخه، لما هو أبعد واشمل من ذلك، إذ ان الغضب تحت وطأة الجرح، هو ما وحَد متظاهرين وخطباء بين القاهرة وعمان وغزة وصنعاء وجاكرتا واسطنبول وإسلام اباد، وقد لوحظ أن هيئات دينية واجتماعية، هي التي دعت لهذه المسيرات في العديد من الحالات، وليست هيئات سياسية او نقابية او برلمانية، بما جعلها مسيرات ذات طابع ديني وهو ما يوحد متظاهرين لا تجمعهم اهتمامات اخرى، في بلدان ومجتمعات متباعدة ذات اولويات سياسية واجتماعية شتى.

أما تحميلها أبعاداً ورسائل سياسية، فقد بدا إما مفتعلاً وخارج السياق «الطبيعي» للأمر، أو بمثابة اجتهادات فورية بنت ساعتها لمتظاهرين، وكما يحدث عادة في المسيرات العفوية وشبه العفوية، بينما جاءت اعمال التخريب والحرق وهي لحسن الحظ قليلة، وقد انحصرت في ثلاثة أو أربعة بلدان، لتكشف عن الافتراق بين الوسيلة الخاطئة وحتى العمياء والغاية النبيلة والمشروعة، وهو ما يبين أن الاندفاعة الجماهيرية، لم تكن بمثابة عودة لعصر الجماهير، بل عودة الحياة الى الشارع والنشاط الجماعي بصورة مؤقتة ولأهداف محددة، وأن هذا التحرك إذ نجح حقاً وبصورة باهرة في إبلاغ رسالة بعينها، فقد حفت به أخطاء كبيرة حملت مخاطر على الاستقرار الأهلي الداخلي، وهو ما يميز عادةً تحركات وهبَات من هذا القبيل، تنفجر تحت وطأة الانفعالات الجياشة والانتصار للكرامة.

ويلاحظ في غمرة ذلك أن هذا التحرك استهدف على نحو مباشر مخاطبة طرف خارجي، لا صورة مسبقة له في الأذهان وفي المخيال الشعبي كما يقال، ولم يتم ربط هذا التحرك بمطالبات داخلية هنا وهناك، مما يميز «عصر الجماهير» الذي يحمل رسالة سياسية من وإلى الداخل، على إيقاع أزمة مع طرف خارجي، او حتى بغير وقوع مثل هذه الأزمة كما حدث مع هبات الخبز في غير بلد عربي. وبذلك فإن هذا التحرك على اندفاعه وجيشانه، قد طفا على سطح الحياة السياسية الداخلية هنا وهناك ، وبدا منقطعاً بصورة شبه تامة عنها، وما كان له إلا أن يكون كذلك نظراً لظروف الأزمة، وهو ما طمأن على أي حال العديد من السلطات، إذ بدا لها أن «الشر برًا وبعيد»، بل تم ابداء الارتياح في العديد من الحالات، لأن هذا التحرك لا بواعث ولا غايات داخلية له.

وحتى في الإطار الخاص لهذا التحرك العارم، الذي حملت لواءه وتجندت له جماعات وحشود أهلية غير منظمة، بعضها لا سابق عهد لها في التظاهر، والانتضاء للتعبير عن قضايا عامة، والمقصود الإطار الديني، فإن المبادرة المشروعة بل المطلوبة لمثل هذا التحرك، قد طرح عنها أصحابها أية مدلولات بعيدة المدى، ولم يجر أخذ مجمل الظروف في الاعتبار، من قبيل الأخذ بقاعدة «لا تزر وازرة وزر أخرى» فالدول الأوروبية فتحت أبوابها لملايين المسلمين، ممن أعيتهم الحيلة أمام تدبير الرزق في بلدانهم، أو التمتع بالحق بحرية التعبير السياسي، مما كان يفترض معه حصر الاحتجاج بالفاعلين المسيئين وضمان عدم تكرار فعلتهم الشائنة، وعدم توسيع دائرة الاحتجاج بصورة متعسفة ومتعمدة، لتشمل الحكومات والهيئات الاجتماعية والمؤسسات، وصولاً الى ذلك التقليد الغريب والاستعراضي بإحراق أعلام الدول، في طقس شبه وثني لإحراق الشياطين.

كما لم يتم مراعاة أن الشارع الاوروبي، لطالما عبر عن وقوفه وتضامنه مع قضايا عربية وإسلامية عادلة، وبأكثر مما وقف عرب ومسلمون للانتصار لقضاياهم، ولا يعقل أن تقوم عودة مفترضة لعصر الجماهير، على تقطيع الأواصر وحرق الجسور، مع جماهير أخرى صديقة أو بحكم الصديقة والمتفهمة في أضعف الاحوال، الا اذا كان المقصود بالهبة الجماهيرية مناوأة حكومات وجماهير في الآن نفسه، وبجريرة أن رساماً موتوراً أو بضعة رسامين، تجرأوا بالفحش على مقدسات غيرهم.

وفي الإطار الديني نفسه فإن هذه الهبة، قد انطلقت للتعبير عن الغضب ازاء واقعة محددة، مع الفصل بينها وبين الانتصار، لحقوق دينية ووطنية ثابتة وعامة تتعرض للمساس بصورة دائمة، فلا تجد هذه الهبة المشروعة، سوابق لها في الإنتفاض ضد تهديد رموز دينية وأماكن مقدسة، كما حدث ويحدث بصورة متواترة في بيت المقدس، وللمسجد الأقصى بالذات مسرى الرسول الكريم.

لقد بُحت حناجر أهل القدس الأسيرة منذ عقود، في حث المسلمين على إنقاذ المدينة المقدسة من الأسر والتهويد القسري، فإذا بالغضبة تتحول الى بلاد الدانمارك بجريرة فعلة فردية مشينة، وتضرب صفحاً عن المحتلين الاسرائيليين، الذين لا يكتمون سلوكهم وأهدافهم في تقويض مقدسات المسلمين، وتشريد هؤلاء عن مدينتهم ووطنهم.

فهل ينهض عصر جماهير كما يرتسم في أذهان ومخيلات البعض، على اطلاق انفعالات آنية ضد هدف انتقائي، وبصرف النظر عن التحديد الصائب للخصوم والأصدقاء، وعن التمييز الواجب بين فرد مسيء وبين عموم أهله وجماعته وبلده وحتى محيطه؟

قبل نحو نصف قرن وفي أيام الهبات الجماهيرية الاولى عشية وغداة الاستقلالات ، لم تكن تسود ثقافة أخذ عموم البريطانيين والفرنسيين بجريرة دولهم الاستعمارية، رغم أن المستوى التعليمي والثقافي العام، لم يكن على حاله اليوم، ولم تكن هناك من وسائل اعلام واتصال تذكر، غير أنه للحق لم تكن هناك أحزاب ومنابر شعبوية، تنفخ في الغرائز وتوسع بالعربية الفصحى المتعالمة ما أمكنها دائرة الخصوم والاعداء، وتتسربل بالحهادية والثورية، وتناصب النزعات العقلانية العداء، كما هو حالنا هذه الأيام. ومثل هؤلاء هم من يوظفون هبة نبيلة المقاصد والغايات في بواعثها الاولى، كهبة الانتصار لخاتم الانبياء والرسل، من أجل توظيف ما حف بهذه الهبة من مبالغات وأخطاء، وتقنينها وتقعيدها، وإسباغ صفة عصر الجماهير عليها، عوض أن تنتظم الجماهير في أطر صحيحة للدفاع بوسائل سليمة عن أهداف مشروعة، وبوعي مطابق لغايات البناء النهوض الشامل.

التعليقات