31/10/2010 - 11:02

من دارفور إلى رأس الناقورة.../ عبد اللطيف مهنا

من دارفور إلى رأس الناقورة.../ عبد اللطيف مهنا
أعط هذه الأمة المغيبة المقهورة ولو بعض انتصار وسترى... أعطها هذا وتبصّر قارئاً متأملاً ما ستبديه لك بعض ملامحها، هذا الذي هو حتّام سيعفيك عناء الغوص إلى حيث ما يمور واعداً تحت قشرة سكونها الخادع لكي تدرك عمق أصالتها... سترى وتقدّر كم هو ضخم بأسها المستند إلى هائل مخزونها الكفاحي واحتياطي عطائها الذي لا ينفد... واعطها، لترى و تتلمس متفاجئا، إن شئت أن تتفاجأ، تليد اعتدادها بذاتها... بل قل كبرياءها... كبرياءها الذي هو وإن جرح، فهو يظل المتكئ أبداً على عراقة وأمجاد غابر تاريخها...

إن هذا ما قالته لنا بفصيح لسان الفعل تلك الساعات العربية اللاهثة الضاجّة بنبض التاريخ... الساعات التي طواها مزهوّاً يوم لبناني رضواني هو ولا كل الأيام... يوم تهادى مختالاً يتثاقل بما يرمز بين رأس الناقورة والضاحية الشرقية في بيروت... وهذا ما أكدته لنا، بأثر رجعي، ما سبقتها من ساعات دارفورية حزينة مثقلة بأوجاع أمة كسيرة حتى الثمالة، لكنما هي عنيدة حد النهوض من كبوتها وغفوتها، ولا تداويها إلا انتصارات... إلا أيام من ذات النوع المجلجلة ساعاته الصاخبة زهواً ما بين رأس الناقورة وبيروت...أو قل هذا هو بعض ما يرويه لنا سجال لك أن تتخيّله قد دار بين سمير قنطار ولويس مارينو أوكامبو... سجال امتد وسيمتد ما بين دارفور وحتى ما بعد بعد مطار بيروت...

قال عميد الأسرى العرب، بطل عملية جمال عبد الناصر الفدائية في سبعينات القرن المنصرم، أو تلك التي شهدتها نهاريا شمالي فلسطين المحتلة قبل ثلاثين عاماً، العائد مع صلابته متحرراً من أصفاده بعد طول صمود وعذاب: "لقد عدت اليوم من فلسطين، وصدقوني لم أعد إلا لكي أعود إلى فلسطين"...

سمعته الأمة التي رافقته جميعها من رأس الناقورة إلى بيروت، ولاقته مع لبنان جميعه، مقاوماً وغيره، فتوحّدت وتوحّد لبنان في هذا اليوم الرضواني... وبدت الأمة، كل الأمة، من محيطها إلى خليجها، كما لم تبدو يوماً متحدةً كما هي اللحظة... اللحظة، وهي شاخصة تلثم عيناها المشهد... هذا السرب من الأسرى والشهداء العائد من أرض الصراع التناحري المديد ليعود إليها ثانية في قوافل مقاومين جدداً يعيدون الصراع إلى سيرته الأولى... لم يلتحم لبنان بفلسطين، وهما الملتحمان أبداً، كما هما اليوم، ولم تتماه الأمة جميعها فيهما كما هي الآن... لا شيء يفضح عورات القطرية أكثر من الشهداء العابرين للحدود... الشهداء العائدين إلى قواعدهم لينطلق سواهم منها، والقواعد التي استعادت أسراها لتلد جديد أبطالها... وليستعيد الصراع وجههه الحقيقي ملقياً عنه الأقنعة المستعارة التي أراد منتحلوها تزييفه إلى مزابل التاريخ.

اختصر سمير القنطار أسرى الأمة، ودلال المغربي شهداءها، وعبرهما عادت فلسطين مجدداً قضية قضايا الأمة... عادت لتعود... تماماً كما قال لنا سمير القنطار... ولترد عودتهما هذه باسم جميع الأسرى والشهداء، المحررين والقابعين خلف القضبان، والجثامين العائدة، والمجهولة، أو التي لا زالت في مقابر الأرقام... ترد على شرطي "المجتمع الدولي" القادم لنا عبر دارفور، ومن أرسله لنا من خلف مخفر لاهاي "الانساني"!

عاد سمير ورفاقه الأسرى ودلال ورفاقها الشهداء كاشفين لنا وللكون بعودتهم المدوّية هذه هشاشة عدو يمتلك أعتى الجيوش المفتوحة له كل أبواب ترسانات الغرب ومكتنز جيوبه... الغرب المقاتل معه بسيوفه وجيوبه وقلوبه، ومنذ أن اصطنعه.

***
قبل حديث الناقورة في هذا اليوم الرضواني في أجندة الوعد الصادق، كان أن دهمتنا صفاقة لعاب الغرب السائل على رمال دارفور دماً وصديداً يبحث عمّا تكتنزه كثبانه من نفط ويورانيوم وذهب وما يتيسّر من معادن لم تحص بعد... دهمنا عبر مذكرة توقيف لرئيس عربي لا زال في منصبه... يصدرها مدعٍ أطلقه مخفر لاهاي الكوني، فأعطى هذا نفسه ولايةً عابرةً للسيادات، فكان فوق القانون الدولي وخارج معهود العلاقات الدولية... جاءنا ضارباً بسيف محكمة السياسات الانتقائية الدولية، بعد أن أخذته النخوة حيال حرائر دارفور... المحكمة التي بدا أن محلفيها هم براون وكوشنير وكونداليسا رايس!

هذه النخوة "الإنسانية" والحق يقال، استندت إلى غابر المنظمة الدولية التي أصبحت منظمة بان كي مون، ومهّد لها مجلس الأمن الذي غدا مجلس أمن "المجتمع الدولي" الغربي إياه، بقراره 1593 المستند إلى البند السابع سيء الاستخدام عادة!

... وإزاء عدالة الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، الذي يذكرنا بنزاهة الألماني ميليتس سيّء الصيت، والتي تذكرنا بأن عالمهم الأوّل يغتصب المؤسسات الدولية، ليحولها أداة لاغتصاب مصائر العالم الثالث، ممرغاً أنف سمعتها في وحل سياساته، واضعاً شرعيتها المفترضة في خدمتها... حق لنا التساؤل:

هذه المحكمة التي لم يوقع على ميثاقها من دول الجامعة العربية إلا جيبوتي وجزر القمر والأردن، والتي سحبت الولايات المتحدة اعترافها بها، حتى لاتطارد جنودها على ما اقترفوه في حروب بوش الكونية... ولستة أعوام خلت هي مدة إنشائها، فتحت اثني عشر ملفاً لم يغلق واحد منها بعد، وأصدرت مذكرة جلب لإثني عشر متهماً لم تعتقل نصفهم حتى الآن... لماذا لم تصدر مذكرة إلقاء قبض على شارون، وباراك، وموفاز وحالوتس وباقي قتلة بني إسرائيل... بحق بريمر وجنرالاته وحلفائه بالعراق... شركات الأمن أو القتل الخاصة ذات الحصانة الاحتلالية هناك... وكبير القتلة أجمعين في العراق وأفغانستان وفلسطين وسائر جنبات الكون جورج بوش؟!

لماذا لم تتجلّ نخوة أوكامبو إزاء ما يقترفه الأحباش بحق الحرائر في أوغادين!
ماذا عن ذابحي أبرياء الأعراس المحتفين بعيداً في منعزلات سفوح جبال الهندكوش؟
... هل سمعت محكمة أوكامبو ومحلفوها بما يجري في ميانمار مثلاً... أم صعب عليها هذا لأن أدغالها تخلو من النفط واليورانيوم والذهب والمعادن الأخرى؟!!

... وسؤال آخر:
ترى لو أن الرئيس البشير، الذي وقّع السودان في عهده اتفاق السلام مع الجنوب، واتفاق الوئام مع الشرق، ويبحث جاهداً عن آخر في الغرب... والذي أخمد لاحقاً فتنة أبيي، وسعى لتهدئة أزمة القوات الهجينة في دارفور، يضاف إلى هذا منجزات التنمية التي يتلمسها راهناً بلده، وسبل الإفادة من عائدات النفط، وقانون الانتخاب إلخ... ترى لو أن البشير غير البشير والسودان غير السودان، ألم يسارع الغرب، هذا المشهر اليوم ضده هراوة محكمة لاهاي السياسية الجنائية التي لايحترمها سيده الأمريكي، إلى منحه جائزة نوبل للسلام؟

... بالمناسبة، يروي الرئيس السنغالي أن بوش قد أسرّ إليه بتفكيره بإرسال جنود أمريكيين إلى دارفور!
... وللتذكير، لا أكثر، إن هؤلاء المتباكين على حقوق الإنسان في دارفور هم هم ذاتهم من منحوا بيغن وبيرز جائزة نوبل تلك... إنهم ذات المهددين للسلم الدولي، أصحاب تطاول القوة الوقحة على المستضعفين أينما وجدوا في عالمنا، ودائماً حينما تغيب إرادة المواجهة لدى هؤلاء... وهنا سؤال ثالث: أوليس من المعيب أن يكون رد فعل الاتحاد الأفريقي أسبق وأعلى صوتاً من همهمة الجامعة العربية؟!
... وأن تعلن الصين عن "قلق بالغ وريبة" وتصمت حتى الآن غالبية دول العرب؟!

ربما لهذا بلغت الوقاحة بمدع مخفر لاهاي الإنساني أن يطلب مساعدة من الأفارقة والعرب في إنجاز مهمة إلقاء القبض على رئيس عربي أفريقي؟!

***
بعد حديث الناقورة، اصطلح الإسرائيليون جميعاً على تسمية يومها المشهود ب"اليوم الأسود"، قال رئيسهم بيرز: إن "إسرائيل تذرف الدموع. لقد دفعنا ثمناً غالياً". وقال رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست: إن عملية التبادل في الناقورة قد "كشفت ضعف القيادات الإسرائيلية ونقطة الضعف لدى المجتمع الإسرائيلي... دولة بأكملها لم تكن قادرة على التحليل بأعصاب باردة مصلحتها الحقيقية. في حين أن بإمكان الجانب الآخر، وبحق، الاحتفال على وقفته الصامدة"... جميع المستويات لديهم تذرف دمعاً، وتهدد قائد المقاومة اللبنانية وسيّدها الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله والأسير الرمز العائد سمير القنطار بالاغتيال، ويصفون الأخير ب"ابن موت"، ويقول قائلهم: "إن إسرائيل ستصل إليه وسيصفى"!

وجميعهم أيضاً يعترف، على لسان هآرتس:
إن "حزب الله يحظى بانتصار رمزي، بينما تمر إسرائيل في ذروة أزمة وجودية. حزب الله يحقق في لبنان سيطرة سياسية شبه كاملة، بينما تتخبط إسرائيل في فوضى سياسية منفلتة... بعد عامين على قيام ميليشيات صغيرة بالتحرش بدولة إقليمية عظمى، تمر الآن هذه المليشيا في حالة تعاظم غير مسبوقة، بينما تغرق الدولة الإقليمية العظمى في البلبلة والحيرة والانحلال وغموض المشاعر والأحاسيس".

***

قبل الناقورة، تطاولوا بفجاجة على كرامة أمة وليس على سودانها فحسب، وبعد الناقورة رد المقاومون ضمناًً على المتطاولين على إخوتهم الممانعين... كان سجالاً دار بين سمير القنطار وأوكامبو امتد من دارفور إلى الناقورة... أعطيت الأمة بعض انتصار فكشفت عن جوهرها... سبق الدم العربي المشترك العمل العربي المشترك... وحدّ تطاول أوكامبو الجبهة الداخلية السودانية... كل الأحزاب موالية ومعارضة، ومعها ثمان عشرة حركة متمردة دارفورية من أصل عشرين رفضت واستهجنت وشجبت فعلته... الشاذتان الباقيتان واحدة منهما تقيم علاقات مع إسرائيل!

... وقبل وبعد الناقورة، وحد الأسرى والشهداء العائدين في اليوم الرضواني المقاوم لبنان معارضة وموالاة، ولبنان وفلسطين... وحّد أمة بأسرها من محيطها إلى خليجها... وفي ذات اليوم الذي عاد فيه الأسرى والشهداء إلى قواعدهم لينطلق منها مجدداً سواهم، شيّعت صور باهر شهيدها حسام دويات... دفنته في ثرى القدس لينبت حسامات قادمة... وقال لهم باسم الجميع قائد المقاومة وسيّدها وهو يرفع شارة نصره الخاصة باستقباله للعائدين في هذا اليوم الرضواني على جناح وعده الصادق: المقاومة والمقاومون واحد، والعدو واحد، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والمسميات... "ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات".

التعليقات