31/10/2010 - 11:02

منذ مئة عام...عسكر انقلاب !!/ بقلم:بسام الهلسة

-

منذ مئة عام...عسكر انقلاب !!/ بقلم:بسام الهلسة

ما كان للسلطان العثماني \"محمود الثاني\" أن يعلم بأن الجيش الجديد الذي أمر بإنشائه في ربيع العام 1826م لحماية السلطنة المتقهقرة، هو الذي سيتولى الإطاحة بها بعد ثمانية عقود ونيف (1908م-1909م) سائراً على النهج الذي سبقه إليه \"الجند\" في مختلف الأوقات، الذين ما إن تضعف قوة السلطة ومؤسسات الدولة، حتى يتولوا التدخل في شؤونها أو السيطرة عليها وتوجيهها، كما فعلوا خصوصاً منذ ما يعرف بعهد الانحطاط العباسي.   وقد مكنهم من ذلك تاريخياً، قيامهم بالدور الأساسي في تكوين الممالك والدول وتوسيعها وتوطيدها والدفاع عنها؛ أو قيامهم –في حال وجود الدول- بالدور الأساسي في الظفر بالسلطة وحمايتها ضد المعارضين.   ثم أدى تمايزهم عن المجتمع (أو الجماعات) التي انبثقوا منها بفعل تعمق تقسيم العمل، وتحولهم من جيش قبائل محاربة إلى جيش سلطة ودولة، إلى استقلالهم التدريجي كجهاز خاص منظم مسيطر على وسائل وأدوات القوة والعنف الرئيسة (السلاح والتجهيزات والمواقع الحاكمة).  جهاز قادر عند توفر الظروف والدوافع على التدخل في شؤون السلطة والدولة وتقرير مصائرهما، منفرداً أو مشتركاً مع آخرين، سواء عمل لحسابه الخاص، أو لحساب مجموعات أكبر من الأمة.   وبحسب ما نعرف، كان أول تدخل للجند العربي والإسلامي في شؤون الحكم والسياسة، في عهد الخليفة الثالث \"عثمان بن عفان\" رضي الله عنه، عندما احتج أهالي الولايات –وأغلبهم من الجند الفاتحين- على سياسات الخليفة وأقربائه، ثم تطور الاحتجاج إلى عصيان وتمرد أدى إلى مقتله وتولية \"الإمام علي بن أبي طالب\" \"كرم الله وجهه\" فيما يعرف بـ\"الفتنة\".   لكن التحول الأكبر في علاقات الجند بالسلطة، جرى كما قلنا في خريف العهد العباسي، عندما صار كل قائد قوي يستشعر ضعف السلطة المركزية في بغداد (دار الخلافة) أو إنشغالها، يعمل على الاستقلال بإقليم من الأقاليم لحكمه الخاص كما فعل \"أحمد بن طولون\" بمصر كمثال.  وتفاقم الوضع مع انحلال القبائل التي بنت الدولة بنتيجة هجراتها وتحضرها، ومع تعمد الخلفاء إقصاء أبنائها عن المهام والمراكز الحساسة والاستعانة بعسكر أجنبي من خارجها لضمان ولائه لشخص الحاكم، وهو ما دشنه الخليفة \"المعتصم\" الذي اصطفى حرسه الخاص من العناصر التركية التي ظلت منضبطة ما دام الحاكم قوياً ومؤيداً من القوى الفاعلة في الدولة، لكنها أخذت بالتدخل عندما شعرت بقوتها –خصوصاً بعد ما سيطرت على الجيش أيضاً- فاستغلت ضعف الآخرين واختلافهم وتنازعهم، حتى وصل بها الأمر حد عزل وتولية القادة والأمراء والخلفاء على هواها ووفق مصالحها.  وقد وصف شاعر حال الخلافة المتلاعب بها بين قائدين عسكريين: (\"وصيف\" و\"بُغا\"):  خليفة في قفص * * * بين \"وصيف\" و\"بُغا\" يقول : ما قالا له * * * كما تقول الببغا! * * *  وكما نعرف تحول دور الجند من مرحلة \"التدخل\" في السلطة، إلى مرحلة الاستيلاء الكامل عليها والتولي المباشر لها.. وهو ما نضج تعبيره بوضوح في \"عهد المماليك\" الذين استمرت دولتهم حتى أزاحهم الأتراك العثمانيون من الشام في مطلع القرن السادس عشر للميلاد، وضيقوا عليهم في مصر إلى أن تولى \"محمد علي باشا\" الإجهاز عليهم في مذبحة \"القلعة\" الشهيرة في مطلع القرن التاسع عشر.  كان \"الانكشاريون\" (أي: العسكر الجديد) ومنذ بدء تكوينهم في القرن الرابع عشر، سيف الدولة العثمانية الضارب المرهوب، ودرعها الواقي، وعمادها الذي مكنها من بسط حدودها: من الهند شرقاً إلى الأطلسي غرباً، حيث بلغت ذروة القوة في عهد السلطان \"سليمان القانوني\" في منتصف القرن السادس عشر.  وشيئاً فشيئاً، ومع شيوع الترف وحياة الملذات، وتسلل التراخي في مباشرة أمور الدولة في الأوساط الحاكمة -كما هو معهود في أطوار وأجيال \"المُلك والسلطان\"-, أخذ \"الإنكشارية\" يتدخلون في السياسات العليا للدولة وتقرير توجهاتها، فيما تسرب في صفوفهم الإهمال والتقاعس عن أداء واجباتهم الأصلية في حمايتها من الأعداء المحدقين بها، والكامنين في جنباتها.  وفاقم من مساوئهم إصرارهم على التمسك بالنظم والأساليب العسكرية القديمة الموروثة التي غدت متخلفة عاجزة أمام نظم وأساليب الجيوش الأوروبية الحديثة المتفوقة، حتى انهم خلعوا السلطان \"سليماً الثالث\" عام 1807م عندما سعى إلى الإصلاح وبناء جيش حديث، ثم بطشوا به مع مشايعيه ونواة جيشه في المذبحة المعروفة بمذبحة \"آت ميدان\" (ميدان السباق).   لكن مطلب الإصلاح والتجديد كان أمراً ملحاً يتوقف عليه مصير الإمبراطورية، فعزم السلطان \"محمود الثاني\" على إنفاذه من كل بد. ولتفادي مصير سابقيه، فقد حشد كل تأييد ممكن لمواجهة \"الانكشارية\" الذين أعلنوا العصيان رفضاً للجيش الجديد الذي رأوا فيه تهديداً لامتيازاتهم... فما كان منه إلا أن نشر الراية النبوية الشريفة، واستصدر فتوى من \"المفتي العام\" بقتالهم كمتمردين باغين، فتكفلت وحدات الطوبجية (المدفعية) بتطويقهم وسحقهم وملاحقة كل الجماعات المرتبطة بهم والمتعاطفة معهم: الحرفية والصوفية (الطريقة البكتاشية)، فيما عرف في التاريخ العثماني بـ\"الواقعة الخيرية\". وهو ما جعل المؤرخين يطلقون على السلطان \"محمود الثاني\"، -مبيد الانكشارية- لقب: مجدد الدولة ومنشئ تركية الحديثة.   لكن الإصلاح العثماني الذي ابتدأ في الجيش وتركز عليه (دون أن يشمل جوانب الدولة والمجتمع الأخرى الأساسية: هيكل الدولة، والاقتصاد، الثقافة...الخ)، ظل ناقصاً متعثراً.. وقد تأخر كثيراً عن مجاراة الدول الأوروبية الرأسمالية الاستعمارية الصاعدة والطامعة في ممتلكات الدولة العلية، التي وجدت نفسها مجبرة على تبني الإصلاحات القانونية والإدارية (التنظيمات) التي أعلنها \"السلطان عبدالمجيد\"، والمعروفة بـ\"خط شريف كُلخانة\" عام 1839م استجابة لضغوط الدول الكبرى التي أيدته في مواجهة واليه على مصر المتمرد القوي \"محمد علي باشا\" الذي اكتسح بلاد الشام وهدد العاصمة نفسها، وهي الإصلاحات التي ستُجدد في \"خط همايوني\" صدر عام 1856م اثر \"حرب القرم\" المنهكة (1853-1856م)، ثم بلغت الذروة بإعلان \"قانون اساسي\" ( دستور) مقتبس عن الدستور البلجيكي، وتأسيس برلمان بمجلسين \"الأعيان\" و\"النواب\" (أو \"المبعوثان\" حسب التسمية التركية) عام 1876م.  لكن السلطان \"عبدالحميد الثاني\" سرعان ما عطله ونفى أهم الداعين إليه \"الصدر الأعظم\" (رئيس الوزراء) \"مدحت باشا\"، مما سيفاقم وضع الإمبراطورية المهددة بمطامع الدول الغربية، والمثقلة بديونها المرهقة (التي اضطرتها لإعلان إفلاس الدولة)، وبانتفاضات الشعوب المتعددة الداخلة في قوام السلطنة العثمانية، وبالاستقطاب الحاد والصراع الداخلي المتوالي بين قوى السلطنة وتياراتها.  وما ان أطل القرن العشرون حتى كانت السلطنة قد فقدت الكثير من ولاياتها في أوروبة وآسية وافريقية، وبلغ الهوان بها حد إكراه الدول الأووربية لها على اخضاع مالية البلاد للمراقبة، كما فعلت مع مصر قبل ذلك.   وفي الحقيقة، لم تكن قواها الذاتية هي الحائل أمام تمزقها وتداعيها الذي ابتدأ منذ أواخر القرن السابع عشر، بل كان تنافس أعدائها الكثيرين: (بريطانيا، النمسا، روسيا، فرنسا، بروسيا) وتضارب غاياتهم وتربصهم ببعضهم البعض، هو الحائل الذي أخر سقوط \"الرجل المريض\" (كما كان يطلق عليها).  طوال تلك المدة، كان الجيش العثماني الجديد، الذي أمر السلطان \"محمود الثاني\" بإنشائه، وأوكل مهمة إعداده وتدريبه لموفدين من قبل \"محمد علي باشا\" (الذي كانت تجربته ومنجزاته في مجال التحديث قد أثارت إعجاب السلطان)، ثم نقلت المهمة لاحقاً –بعد المواجهة مع \"محمد علي\"- إلى ضباط من \"مملكة بروسيا\" بقيادة \"فون مولكته\"؛  كان الجيش الجديد قد نما وتمرس في الحروب العديدة التي خاضتها السلطنة.  وبحكم تجربة الصراع والاحتكاك المستمر بالقوى الأوروبية، كان قادة الجيش وضباطه (إلى جانب عدد من الولاة المطلعين المتنورين) هم أكثر الفئات معرفة بمواطن ضعف السلطنة وتأثراً بها، واكثرها معرفة بأسباب تقدم أوروبة وتفوقها... فتغلغلت في نفوسهم وعقولهم أفكار التحديث الشامل بتلاوينها وتياراتها المتعددة: الإسلامية، العثمانية، القومية (التركية أو الطورانية). ومن بين هذه التيارات كانت حركة \"تركية الفتاة\" السرية ذات التوجهات القومية، هي الأكثر نفوذاً في صفوف ضباط الجيش المتأثرين بدعوى \"مدحت باشا\" الإصلاحية وبأفكار الأديب \"ضيا باشا\" والشاعر \"نامق كمال\" القومية.  وبقيادة \"أنور بك\" و\"نيازي بك\" و\"طلعت\" وغيرهم، وبدعم من يهود \"سالونيك\" الداخلين في الإسلام، والمعروفين بـ\"الدونمه\"، تحركت المجموعة التي اتخذت من \"سالونيك\" مقراً لقيادتها، وأطلقت على نفسها اسم \"جميعة الاتحاد والترقي\"، تؤيدها وحدات مهمة في الجيش، (أيام 21-22-23- تموز/ يوليو 1908) وأبرقت التلغرافات إلى الصدر الأعظم مطالبة بإعادة العمل بالدستور ودعوة البرلمان المعطلين، ومنذرة بالزحف إلى \"الآستانة\"... فأصدر \"السلطان عبدالحميد\" -الذي أدرك ضعفه- الإرادة \"الشاهانية\" بذلك.. وحينما حاول مؤيدوه من \"الحرس القديم\" الانقلاب على الانقلابيين في نيسان- ابريل من العام التالي (1909م)، زحف الجيش إلى \"الآستانة\" بقيادة الضابط \"محمود شوكت\" وحاصر \"قصر يلدز\" مقر السلطان واشتبك مع حاميته والقوى الأخرى المؤيدة لها وأجبرها على الاستسلام...  عندها اجتمع \"المجلس العمومي\" (الأعيان والمبعوثان) وقرر عزل السلطان \"عبدالحميد الثاني\"...  وكما أستصدر السلطان \"محمود الثاني\" فتوى بقتال الجيش الانكشاري، توجه قادة المجلس والجيش إلى شيخ الإسلام \"محمد ضياء الدين افندي\" لإعلان فتوى بخلع السلطان تسبغ الشرعية على مطلبهم، فأجابهم على السؤال بكلمة واحدة: \"يجـب\"!   ... وتبعت \"الفتوى\" \"السيفَ\" كخادم له!   لم تمض عشر سنوات حتى كانت الإمبراطورية العثمانية التي تأسست منذ ستة قرون تتداعى وتتبدد، إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914م-1918م) التي تورطت فيها مع حليفتها ألمانيا، بدل أن تقف على الحياد إزاء صراع الضواري الإمبرياليين الاستعماريين لاقتسام العالم، وأن تركز على حماية نفسها منهم جميعاً.  أما الجيش الحديث الذي باشر بناءه السلطان \"محمود الثاني\" ليحميها ويصونها، فقد قطع أحفاده بقيادة \"مصطفى كمال\" أتاتورك (أي: \"أب الأتراك\" كما لقب لاحقاً) كل صلة بماضيها.. وأطاحوا برموزها القديمة الموروثة بإعلانهم \"الجمهورية\" في خريف 1923م، ثم إلغاء \"الخلافة\" في ربيع 1924م.   ومثلما اعتقد بعض السلاطين العثمانيين في القرن التاسع عشر أن تغيير غطاء الرأس \"العمامة\" أو \"القلنسوة\" إلى \"الطربوش\" يعني امتلاك \"عقل حديث\"، فقد رأى القادة الجدد أن تغيير حروف الكتابة العربية إلى الحروف اللاتينية، واستبدال \"القبعة الأوروبية\" بـ\"الطربوش\" ، يعني \"التأورُب\"!   والجيش الذي كان فيما مضى \"ينقلب\" على الخلفاء والصدور العظام والوزراء، صار هو الذي \"يقلِبُ\" الحكومات...  فهو الراسخ الثابت وغيره متحولون!   وهو الآمر الناهي -في تركية الحديثة والمعاصرة- وصاحب كلمتها العليا...


 


 

التعليقات