31/10/2010 - 11:02

منظمة التحرير والصحوة في زمن آخر/ محمد خالد الأزعر

منظمة التحرير والصحوة في زمن آخر/ محمد خالد الأزعر
ستذكر الحوليات الفلسطينية أن الانتخابات التشريعية في يناير 2006 ردفت حركة حماس بالشرعية الانتخابية، وزكتها إلى مركز صناعة السياسة والقرار في السلطة الفلسطينية، وأنها أعادت في الوقت ذاته الجدل والتناظر حول ضرورة إيقاظ منظمة التحرير الفلسطينية من سباتها الممتد لزهاء عقد ونصف.

قبيل النتيجة الفارقة، ولعلها الصادمة، للانتخابات، بُحت أصوات كثيرة وسالت أحبار أكثر بين يدي الدعوة إلى إخراج المنظمة من اعتكافها الإجباري. لكن أصحاب هذه الدعوة جوبهوا بأصداء داخل الحياة السياسية الفلسطينية، تراوحت بين مط الشفاه مع السخرية والاستهجان.

وبين الطبطبة وتطييب الخواطر بشيء من «طق الحنك» عن صحة هذا التوجه وصدقية العاملين عليه، وعموماً لم تجد المنظمة من يَرِقَ لحالها المتداعي وبدت كبيت العائلة الكبير المهجور الذي لا يؤبه له إلا في المناسبات التذكارية أولاً، وهذا هو الأهم، عند الحاجة للتوقيع باسم الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني!

في هذا السياق، قيل عن حق، إن حركة فتح دفعت بكل قوتها خلف السلطة الفلسطينية فيما هي تمسك بقبضتها زمام المنظمة، وأنها توظف كليهما وقت شاءت وكيف شاءت، ولا مصلحة لها في تشغيل هذه الأخيرة بكامل طاقتها وإلا أفسحت المجال مجدداً أمام مماحكات الشركاء القدامى المنمنمين، الذين أرهقوها ذات مراحل باعتراضاتهم على خياراتها.

وقيل إن حماس لا مصلحة لها أيضاً في كيانٍ ليست شريكة فيه من الأصل، وجل ما يعرض عليها هو الالتحاق به بحصةٍ عجفاء لا تزيد على الخمسة في المئة وفقاً لنظام «الكوتا» المعمول به مطولاً.

الشاهد راهناً، أن نتائج الانتخابات الأخيرة وتداعياتها طرحت معطيات وحقائق غيرت مسار هذه المقاربات بشكلٍ جَديٍ وفي اتجاه معاكس.

فهي مثلاً وباقتضاب، منحت لحماس ثقة المطالبة بمركزٍ في المنظمة يليق بدورها في السلطة، ويدرأ عنها شبهة الشرعية المبتسرة في الفرع دون الأصل، ويُمَكنها من الدفع بالتغيرات المواتية لمقاصدها في المنظمة من موقع القوة الشعبية.

ومن جهة أخرى باتت فتح تجد في بيت العائلة مثابة لمكانتها ورصيداً معتبراً لريادتها الكيانية، بوسعه صيانة دورها في صناعة السياسة والقرار، ولاسيما ما يتعلق باستئناف عملية التسوية التي ما زالت ملفاتها مُعلقة بذمة هذا البيت.

هذا التحول يمثل فألاً حسناً للقضية الفلسطينية وينطوي على بشائر بالنسبة لهدف الوحدة الكيانية للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، ووأد فتن تعدد المصائر والتشرذم السياسي المحلقة في أفق هذا الشعب، لكن الخبر المقلق، حتى لا نقول السيء، أن إصلاح المنظمة وترميمها وتشغيل ماكيناتها ودواليبها الصدئة ومؤسساتها الخربة ليس بالأمر الهين. ففي جوف هذه العملية الإحيائية تكمن تفصيلات بالغة الحساسية وتعقيدات لا حصر لها.

بكلمات أخرى، لن تكون هذه العملية مجرد وصل لما انقطع من شؤون المنظمة وشجونها بعد زهاء عقد ونصف من السنين. ففي غضون هذه الفترة، جرت مياه كثيرة في نهر البيئات المحيطة بها فلسطينياً وإسرائيلياً وإقليمياً ودولياً، وذلك بكثافة تجعل استعادة المنظمة وتقعيدها على سكة القضية الفلسطينية، أقرب إلى إنشاء كيان جديد منها إلى ترميم وطلاء كيان قديم.

لقد قامت المنظمة على إرادة فلسطينية لبلورة الوجود السياسي الذي تشظى غداة النكبة الوطنية. وذلك بالتعامد والتلاقي مع هامش سماح عربي داعم لهذا الهدف.

وترتب على هذا المشهد تبعات وأحمال سياسية واقتصادية وفكرية ومظلة للحماية تكفل بها النظام العربي، دولة المركزية بخاصة، برغم بعض التململ والأزمات هنا وهناك، فإذا افترضنا توفر شق الإرادة الفلسطينية من هذه المعادلة،ترى أين هو شقها الثاني، أي المناخ العربي العاطف على تحول كهذا؟

المنظمة نهضت أيضاً وفي دستورها (ميثاقها) هدف تحرير فلسطين بالكامل، مستندة إلى توافق عربي منحاز إلى هذا الهدف، مٌقدِر لطبيعة الخطر المشترك من المشروع الصهيوني وممثله السياسي إسرائيل والقوى المحاربة لهما دولياً. الآن لم يعد هذا الأمر قائماً ولا هو موضوع للإجماع عربياً، وربما فلسطينياً !

ولا ندرى إن كان من السهل تجاوز هذه العقبة عبر التشارك واللقاء في المساحة المسموح فيها بالحركة، وهي الالتزام بالشرعية الدولية الخاصة بفلسطين، أو الدفع مجدداً بمبادرة السلام العربية لقمة بيروت 2002. فإن كان هذا ممكناً، هل توافق حماس على الطبيعة « الإستراتيجية « لهذه البدائل ؟

إلى ذلك، وفرت الأجواء وأنماط التحالفات وتقاسم النفوذ والصراعات السائدة، وقت فعالية المنظمة، ملاذات آمنة نسبياً للحركة والمناورة على الصعيدين العربي والدولي. ومن خلال هذه المنظومة بعلائقها المتشابكة، أمكن لمختلف أنماط الكفاح الوطني التي انتهجتها المنظمة، بما فيها خط العنف المسلح، المرور وإيجاد الأنصار والداعمين، أين هذا الواقع الدارس من معطيات الحاضر وظروفه المعاكسة؟

المحيط العربي لا يسعه استقبال منظمة تحرير فلسطينية مشحونة بطاقة ثورية على غرار الأيام الخوالي. لقد خضع هذا المحيط لعوارض ألزمته القعود رسمياً والإحباط شعبياً، وصار أقرب إلى المفعول به في معظم قضاياه وشؤونه، بما فيها القضايا شديدة الخصوصية والحميمية على الصعيد الداخلي المحلي.

وفي خريطةٍ هذا حالها ومآلها، لن يسهل على المنظمة ممارسة أدوار نضالية وطنية أو قومية ذات شأن. بل وقد تبلغ القيود العربية والدولية عليها حد الوصاية التي لا تقبلها أكثر الجماعات الفلسطينية تهاوناً في حقوق شعبها وقضيته التحررية.

ثم إن الغيورين على صحوة المنظمة عليهم التعامل مع السياسات التي انطلقت أو صدرت عنها في زمن غفوتها واختطافها، أو عليهم أقله البحث عن مخارج مأمونة العواقب حقوقياً وسياسياً للمعضلات التي تأتت عن هذه السياسات وتركتها الثقيلة، هناك الاعتراف بإسرائيل وموادعات أوسلو. وإلغاء كثير من مواد ميثاق المنظمة ذاته، والاعتمادية المفرطة على المانحين الدوليين، فضلاً عن التهاون مع حجم ملحوظ من المداخلات الإسرائيلية والدولية، كيف ستتصرف المنظمة في طورها المعدل إزاء هذا الموروث، علماً بأن حماس وقوى المعارضة سابقاً رفضت التسليم ببعض هذه الحقائق وتوابعها وثمة شكوك في قبولها راهناً على علاتها ودون إخضاعها للمراجعة والتفنيد؟

وهناك ميراث أخر ستعاني المنظمة من وطأته وعليها معالجته إذا ما أرادت السير في بيئة صحية، يتعلق بالتآكل في البعد القومي للقضية الفلسطينية. فخلال العقدين الأخيرين تعرض هذا البعد لاعتداءات جسيمة في الشارع العربي، حتى كاد مفهوم الصراع على أرض فلسطين يضمر إلى مجرد نزاع «فلسطيني إسرائيلي» أو دون ذلك.

ولن يكون هذا التحول بلا مغزى على حركة المنظمة، التي ستبذل جهدا وفقاً لإزالة أثار هذا العدوان ورد الاعتبار للمعنى الحقيقي للصراع ودعوة الأمن القومي العربي.

لقد تغيرت أشياء كثيرة داخل المنظمة ومن حولها، وإذا لم تقترن الدعوة لاستعادتها ومداواة جروحها بنيوياً ووظيفياً بمواجهة هذه الأشياء بلا تهوين ولا تهويل، فسوف تمسى دعوة أقرب إلى الغوغائية والقفز في الهواء.

التعليقات