31/10/2010 - 11:02

نحسدك يا كلاب أوبرا../ رشاد أبوشاور

نحسدك يا كلاب أوبرا../ رشاد أبوشاور
توصف حياة ملايين العرب بأنها دون خطّ الفقر، وهذا تعبير اقتصادي ملطّف لحال الشحاذين في بلادنا...
وهؤلاء باتوا يعيشون عيشة كلاب في بلاد يرونها على شاشات التلفزيونات، فيحسبونها بلاداً أخرى مستنسخة من الدول الاسكندنافيّة، غير بلادهم التي لا يظفرون لقاء كل ولههم بها سوي برغيف خبز حاف مغمّس بالمهانة، تتقوّت به أجساد محنيّة ذلاًّ، وهامات منكسرة الظهر والنظرات والروح...

عيشة كلاب!
لا، لم تعد العيشة في (بلاد) العرب عيشة كلاب، فالكلاب على الأقّل تتمتّع بحريّة التجوال، والنباح، وحقّ عضّ من يحاول التمادي في إيذائها، وهي تفرّ إلى مكان آخر بعيداً عن الخطر، فتحظى بلجوء آمن، مؤقّت، وكل الأمكنة عزيزة ما دامت تجد فيها عظمة تناوشها بأسنانها التي لم تكسرّها جهات شديدة الحرص على الوطن!

عيشة كلاب!
لا، هذا طموح شبه مستحيل، بل هو المستحيل بعينه، فالكلاب مقامات، والكلاب ليست مشرّدة، ملاحقة، مضطهدة كالكلاب العربيّة التي حالها من حال مواطنيها.

في بعض البلدان العربيّة، يطلق وصف (الكلاب الضّالة) على نوع من المعارضين الفارين للنجاة بأنفسهم، للعيش بعيداً عن أرض الآباء والأجداد، على اعتبار أن المواطنين المهادنين المهذبين غير المشاغبين، أو المشاكسين، هم كلاب أليفة بحسب تصنيف غير معلن، وإنما ممارس من أولي الأمر.

الكلب حيوان دجّن منذ قرون، وهو أليف، ويوصف بأنه وفي لصاحبه أيّاً كان صاحبه: شرطيّاً، رجلاً موسراً، راعي غنم، امرأة سيئة السمعة، فهو لايستفسر عن مهنة من يقتنيه، ويعني به، ويوفّر له الطعام، والاحترام، والتدليل، والرفاهية...

مع ذلك فالكلاب كالبشر، أخلاق، وطباع، وسلوكيات. فمثلاً قرأت عن كلب ألماني حال دون اقتحام رجال الإسعاف شقّة صاحبه لنقل جثّته، والتي ظّل يحرسها إلى أن مات بجوارها.

وفي ألمانيا نفسها التهم كلب أجزاءً من جثّة صاحبه، بعد أن عانى من الجوع وهو ينتظر أن يصحو صاحبه من نومه العميق.

هذا الكلب واقعي، براغماتي، لم يجد أمامه للعيش سوى التهام ما تيسّر من جسد صاحبه، وعلى كل ما المشكلة؟ في بلادنا يميتون الأوطان، ويمشون في جنازاتها، ويبيعونها أشلاءً...
نحن في بلاد العرب نحسد الكلاب على عيشتها، فنحن لا يؤذن لنا بحقّ الاجتماع والصراخ بصوت عال، كما تفعل الكلاب فرادى وجماعات!

كيف لا نحسد الكلاب، إذا ما كانت ككلاب أوبرا؟!
أوبرا تعرفونها، نجمة تلفزيونات عالميّة، تقدّم برنامجها الذي تعيد بثّه مئات الفضائيات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً...
حياتها بدأت شقيّة بائسة، وهي اليوم في زمن الثورة التقنية والفضائية باتت من أشهر نجوم العالم، ومن أثرى الأثرياء في أمريكا، ليس من ارتفاع سعر النفط، ولكن بموهبتها، وهذا أحد الفروق بين أوبرا وأثرياء الصدفة في بلاد العرب...

قبل فترة شاهدت برنامجاً عن عيد ميلادها الخمسين، إنها شجاعة فهي تبدأ يوم عيد ميلادها بوجهها علي طبيعته، بدون ميك أب، صباغة، مكياج يعني، بشعر أجعد غير ممشّط، بوجه فيه تجعدّات، بعينين مرهقتين. بدأت أوبرا صباح يوم عيد ميلادها بين يدي الكوافيرة، وهناك يأتيها اتصال مبكّر، فتعلن بفرح وهي تلتقط هاتفها: إنه هو، أنا متأكدة أنه هو...
ويكون هو نيلسون مانديلا!

نعم رمز النضال التحرري الكبير للأفريكان، والأسيوان، وكل بني الإنسان، يبدأ نهاره بالاتصال بأوبرا ليهنئها بعيد ميلادها!
هكذا تكون القيادات التي تجمّع طاقات ومواهب أبناء وبنات شعبها حيثما كانوا في العالم...
في عيد ميلاد أوبرا حضرت نجمات سينما، شخصيات نسائية عالمية شهيرة، زوجات رؤساء...
هل تستحّق؟ نعم تستحّق، لكفاحها، ولما بلغته بعد معاناة، ورحلة تعب.

أوبرا تمتلك مئات ملايين الدولارات، وفي وصيتها لم تنس كلابها التي خصّتها بخمسة ملايين دولار سنوياً في حال وفاتها، حفاظاً على مستوي عيش لائق!
إذا كانت الكلاب توصف بالوفاء، ألم يكن الإنسان يوصف بالوفاء في زمن ما؟ أليس الوفاء أحد أنبل صفات الإنسان العربي التي تغنّى بها الشعراء؟!

ترى:كم عدد كلاب أوبرا؟ هل تزيد عن عشرة كلاب؟ لا أظّن، وبهذا تكون التكلفة الشهرية للكلاب حوالي أربعمائة ألف دولار، يعني كل كلب من (مواطني) أوبرا يتمتع بإنفاق أربعين ألف دولار شهريّاً!
تفكّر أوبرا في مصير كلابها بعد وفاتها، أليس هذا هو الوفاء يا سادة؟!

نحن لا يفكّر فينا أحد ونحن أحياء، بل إن من يعصرون كّل مليّم في جيوبنا، ويشفطونه قبل دخوله جيوبنا، يجفّفون عظامنا قبل الموت، ولا يمنحون جثثنا حفرةً بالمجّان لتوارى في وطن الآباء والأجداد!

كل نبحة من نبحات كلاب أوبرا لها قيمة عندها، وكل هزّة ذنب لها مكافأة، وفي بلادنا يضيع كل تصفيق، وصياح المواطنين: يعيش يا..يعيش، بالروح بالدّم نفديك يا...فلا حمداً ولا شكورا في (دول) الجحود...

لو أنّ أوبرا تفتح باب الهجرة إلى وطن كلابها لاندفع ملايين المواطنين العرب للفوز بنصيب من رعايتها، وعنايتها الكلبيّة، لغامر ملايين الآدميين العرب بالسفر سباحة عبر المحيط، تماماً كما يفعل أبناء جلدتنا السابحون عبر مضيق جبل طارق إلي إسبانيا، لا بحثاً عن مجد ضاع، ولكن شوقاً لرغيف خبز، وكوب (أتاي)...

أوبرا لا تسأل كلابها عن أصلها وفصلها، وفي بلادنا يفنطل شرطي الحدود عينيه أمام شاشة الكمبيوتر، ويرفع رأسه كأنه يتعذبل من الشيطان ليسألك بعدوانية:
ـ أصلك!
ـ إنسان..ولكن لدارون نظرية أخري!
يكرر السؤال بدون ابتسامة، سواء فهم ما قلت، أم أن عقله المبرمج لم يستوعب:
ـ أصلك؟!
ـ من الخليل...
ـ قل من الأوّل...
ثم يعود إلى الكمبيوتر كأنما يستخيره، ويستفسر منه عن كيفية التعامل مع الخليلي..
ـ قلت لي خليلي!
ـ لأ، خلييي...
ـ مش مبيّن عليك؟
ـ وهل يجب أن يسيل النفط من قفاي حتى تصدّق أنني خلييي؟!

يا كلاب أوبرا التي تعنى صاحبتها بحاضرها ومستقبلها، والتي تصطحبها سيّدتها إلى مشاهير الأخصائيين إن هي اكتأبت: نحن نعاني من الكآبة القوميّة. أنت يتكلّف واحدك أربعين ألف دولار شهرياً، ونحن يبيعنا (اليهوذات) بشراً وأوطاناً بثلاثين من الفضّة؟!

التعليقات