31/10/2010 - 11:02

نصيحة بوش: لا مفاوضات ولا تطبيع../ جميل مطر*

نصيحة بوش: لا مفاوضات ولا تطبيع../ جميل مطر*

تابعت عدداً لا بأس به من حملات انتخاب رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة. تمنيت في كل مرة أن يشاركني في المشاهدة شبان من مصر والعالم العربي، أو أن أسمع أن نظار المدارس الثانوية ومديري الجامعات فرضوا على الطلبة متابعة مرحلة أو أخرى من مراحل هذه الحملة وجعلها واحدة من المواد الإجبارية.

أرجو ألا يتسرع بعض القراء فيحكم بأن هذه الأمنية دعوة لشباب مصر باعتناق الديمقراطية على النمط الأمريكي. فليس هذا غرضي ولن يكون وإن كنت لا أعترض على الديمقراطية كنظام حكم ولا على النمط الأمريكي للديمقراطية إن استطعنا أن نمتلك كافة مقوماته تاريخاً وآباء مؤسسيين ودستوراً وثقافة ونوايا. ولن نستطيع، إنما هدفي الاستفادة من دروس مفيدة ومن بينها.

* أولاً: اكتساب القدرة على الإقناع بالحجة وشجاعة المواجهة من دون خوف من الاتهام بخيانة أو تكفير. فقد شاهدنا في هذه الحملة الأخيرة المرشحين الثلاثة، وبخاصة باراك أوباما وهيلاري كلينتون في مواقف خطابية متنوعة تثير الانبهار. شاهدناهم يتحدثون إلى عشرات الألوف وأحياناً إلى ثلاثة أو أربعة من كبار المحللين السياسيين. وفي كل واحد من هذه اللقاءات كان الحديث كاشفاً عن جهد هائل يبذله المرشح في الاطلاع والاستماع إلى مستشاريه والتدريب على حفظ جمل طويلة وبراهين معينة. لم نشاهد شباباً مسلحين بأسلحة بيضاء أو هراوات يشاغبون أو يسعون لفض اللقاء بافتعال عراك. ولم نشاهد رجال أمن بأعداد كثيفة.

* ثانياً: التعود على احترام رأي الآخر والاستعداد للاقتناع وتغيير الرأي والموقف من دون الشعور بفقدان ماء الوجه إن اعترف بالخطأ. رأينا أعداداً غفيرة من الأمريكيين تتحول من تأييد مرشح إلى تأييد مرشح آخر من الحزب نفسه. وأعداداً غفيرة أخرى يتحول انتماؤها إلى حزب آخر، بعض مبادئه تتناقض جذرياً مع مبادئ الحزب الآخر.

* ثالثاً: رأينا كيف يمكن تحريك مجتمع بأكمله من خلال حملة انتخابية تجري على مستوى الأمة بأسرها. هكذا يحدث التجديد في المجتمع. إذ إنه من خلال مناقشة مختلف القضايا وتفكيك الرأي السائد حول بعضها وإعادة تشكيله يحدث فرز متدرج وواقعي لطبقات المجتمع وفئاته المختلفة. قليلون الآن في الولايات المتحدة الذين لا يدركون أن دوراً أعظم تلعبه كنائس إلكترونية وكنائس أصولية وأخرى شديدة التعصب، والكل مدرك لأهمية دور المال في العملية السياسية في الولايات المتحدة.

* رابعاً: الانتخابات درس متجدد لتلقين الشعب الأمريكي، ونحن أيضاً، حقيقة النفوذ الصهيوني ودور جماعات قليلة العدد من اليهود في صنع سياسات الدولة الأعظم وقرارات تؤثر بالضرر أو بالنفع في الأمم الأخرى. لقد أثبتت الحملات الانتخابية في السنوات الأخيرة أن النفوذ الصهيوني تجاوز الحدود التي تسمح بها توازنات العملية الديمقراطية. ولا يخفي كثيرون في الولايات المتحدة خشيتهم من أن تكون الديمقراطية تنحسر بسبب طغيان جماعات الضغط الصهيوني وممارساتها التي تصل إلى حد استخدام الابتزاز الإعلامي. نقرأ في الآونة الأخيرة، وأكثر من أي وقت مضى، لمن يتنبأ بفاشية من نوع فريد تلقي بظلها على المستقبل السياسي للولايات المتحدة، تقودها المنظمات الصهيونية.

تابعت باهتمام سلوك باراك أوباما خلال الشهور الماضية، وكان اعتقادي منذ البداية أنه لن يتحمل ضغطين ثقيلين في وقت واحد، ضغط المؤسسة الحاكمة الأمريكية التي تضع القواعد والمبادئ وايديولوجية الحكم في أمريكا. وضغط المؤسسة الصهيونية. كلاهما لم يكن مرتاحاً لنجاح أوباما في تخطي الحواجز الأولية في مرحلة الترشيح، أحدهما لم يكن مرتاحاً لنجاح أوباما وتحالفاته والتفاف الشباب حوله واحتمال استقطابه نسبة عالية من الأفارقة الأمريكيين بكل ما يعني هذا من احتمال أن يتكثف النشاط السياسي إلى حدود لا يتحملها النمط الأمريكي للديمقراطية، كذلك لم يكن مرتاحاً لبعض أفكاره واتجاهاته في السياسة الخارجية ودور أمريكا في الخارج.

أما المؤسسة الصهيونية، فلم تكن مرتاحة إلى دماء إسلامية تجري في عروق مرشح لمنصب الرئاسة قد تدفعه يوماً ما إلى تكوين رؤية مستقلة ولو نسبياً عن الرؤية التي تقوم على غرسها المنظمات الصهيونية، سواء تعلقت هذه الرؤية بتوازنات القوة الداخلية في عمليات صنع القرار، أو بالنسبة لمواقف أمريكا في الشرق الأوسط ومن الإسلام والمسلمين وبخاصة من العراق وأفغانستان. وروسيا.

لقد كانت الحملة التي شنها مؤخراً جون بولتون على باراك أوباما مثالاً حياً على اجتماع الضغطين على المرشح الأسمر، وأقصد ضغط المؤسسة الحاكمة وضغط المؤسسة الصهيونية. جون بولتون، كما نعرف، أحد قادة المحافظين الجدد وزعيم من زعماء التيار الصهيوني المتطرف داخل الحركة الصهيونية الأمريكية، واختاره بوش ليكون مندوباً لأمريكا في الأمم المتحدة فتسبب بعنصريته الشديدة في أن يحصل لأمريكا مزيد من كراهية معظم المندوبين، بما فيهم مندوبو أوروبا. ففي الأسبوع الماضي خرج جون بولتون بتعليق على خطاب الرئيس جورج بوش ألقاه خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، وهو الخطاب الذي أثار جدلاً وخلف مرارة.

جاءت في خطاب بوش فقرة عن الخطأ الذي يقع فيه من يحاول التفاوض مع المتطرفين والفاشيين. واختار المثل الذي يفضله قادة “إسرائيل” واليهودية العالمية، وهو اتفاق ميونيخ بين تشامبرلين وحكومة هتلر في عام ،1936 ويزعم قادة اليهود أن هذا الاتفاق شجع هتلر على غزو تشيكوسلوفاكيا و”حرق” اليهود ثم نشوب الحرب العالمية الثانية. بوش في “خطابه القدسي” اتهم باراك أوباما بأنه يسير على نهج تشامبرلين عندما يصرّ على أفضلية يطرح فكرة التفاوض مع قادة إيران وغيرهم من خصوم أمريكا.

وما كان يمكن لأوباما أن يسكت على هذا السلوك من جانب الرئيس. فالرئيس الأمريكي بما فعله خرج عن الأصول السياسية الأمريكية وتدخل في الانتخابات الرئاسية. ولكن الأهم من هذا، أن بوش جسد في هذا الخطاب، وبشكل صارخ وغير مألوف، اجتماع مؤسسة المحافظين الجدد الحاكمة والمؤسسة الصهيونية في الضغط على مرشح رئاسي. حدث هذا عندما وقف الرئيس الأمريكي كممثل مؤسسة النخبة الحاكمة الأمريكية متحدثاً من فوق منبر الكنيست، أي من فوق قمة المؤسسة الصهيونية العالمية. ومنتقداً مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية. كانت الرسالة لأوباما واضحة ولا يمكنه تجاهلها.

انتهز جون بولتون الفرصة، فتدخل مؤيداً للرئيس ورافضاً توجهات المرشح أوباما السلمية تجاه الدول التي تختلف معها أمريكا. يقول بولتون إنه ضد أن تصبح المفاوضات هدفاً في حد ذاتها، وإنه من الخطأ الجسيم أن يتصور رجل دولة أن المفاوضات يجب أن تشكل 100% من أساليب حل النزاعات الدولية، الصحيح القول إن المفاوضات يمكن أن تمثل 99%، بما يعني إبقاء باب الحرب مفتوحاً. لا يجوز إطلاقاً الإيحاء للخصم بأن بديل الحرب أغلق نهائياً. ويخشى بولتون أن يكون أوباما من هذه المدرسة.

بولتون متشدد ومتعصب ولا يخجل من هاتين الصفتين، ويعتقد أن التجارب أثبتت أنه حين اقتصرت أمريكا على المفاوضات في نزاعيها مع إيران وكوريا الشمالية خرجت الدولتان الآسيويتان أشد قوة. وباستخدام هذا القياس تستطيع أن تقول إنه حين استخدمت “إسرائيل” وأمريكا سياسات فيها مزيج من الحرب والمفاوضات مع العراق وأفغانستان والطالبان والقاعدة خرجتا معاً أقوى، بينما الأطراف العربية التي اختارت المفاوضات بنسبة 100% خرجت أضعف.

يقول بولتون إن للمبالغة في التركيز على المفاوضات سلبيات خطيرة، فالدولة حين تتفاوض مع خصم تعظم من شرعيته وتعترف بأن له حقوقاً لديها يجري التفاوض عليها. وهذا في حد ذاته رصيد لا يجوز التفريط فيه، وحين دعت أمريكا إلى مؤتمر أنابولس خرجت خاسرة لأنها بجلوسها مع “الصقور” من الخصوم أضافت إلى قوتهم وأضعفت من أرصدتها.

هكذا نستفيد ويستفيدون من الحملة الانتخابية كمدرسة لتدريب السياسيين والناخبين على حد سواء، ولذلك نتفق مع بولتون في اقتراحه أن تكون السياسة الخارجية محل تركيز ومناقشات واسعة في الانتخابات بشكل عام، أمريكية وغير أمريكية.
"الخليج"

التعليقات