31/10/2010 - 11:02

نفوذ متزايد للمؤسسة العسكرية الأمريكية../ جميل مطر*

نفوذ متزايد للمؤسسة العسكرية الأمريكية../ جميل مطر*

ستكون السنوات القليلة القادمة، سنوات عهد الرئيس الجديد للولايات المتحدة سواء كان أوباما أو ماكين، سنوات حاسمة بالنسبة لدور المؤسسة العسكرية في النظام السياسي الأمريكي. وأظن أن بوادر هذا الحسم صارت تفرض نفسها على المراقب الذي يتابع التطور المذهل الحادث في النظام الأمريكي على ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وحالة الرعب التي نجح الرئيس بوش في غرسها في الوعي السياسي الأمريكي.

تابعنا، وبشغف خلال الأسابيع الماضية، جانباً من العلاقة بين المرشح الديمقراطي باراك أوباما وجنرالات الجيش الأمريكي. وتابعنا تفاصيل الزوبعة التي أثارها مستشارو ماكين واليمين الجديد تحت عنوان وطنية أوباما ومدى التزامه المصالح الأمريكية وحماية “الوطن” وسلامته في الداخل والخارج. حدث هذا في وقت خرجت فيه إلى الرأي العام تقارير ودراسات تؤكد أن “البنتاجون” مؤسسة تعمل منفردة، أو تهيمن أكثر من غيرها على كثير من تفاصيل الحكم في أمريكا وتستحوذ على نفوذ يتجاوز بكثير ما سمحت به تقليدياً مبادئ الفصل بين السلطات وتوازنها.

كنا نعرف عن نفوذ “البنتاجون”، وعن المؤسسة العسكرية ودورها في صنع السياسة، ولكن المعلومات التي نشرت أخيراً، أو صدرت في شأنها تصريحات رسمية، أضافت الكثير، أو دعنا نقول إنها دعمت ما كنا نعرف ونتوقع. نعرف الآن مثلاً أن موازنة الحرب في العراق بلغت 752 مليار دولار ويتوقع لها أن تصل، وربما تتجاوز 922 ملياراً عام 2009.

ونعرف ثانياً أن ما يخصصه الكونجرس لشؤون الدفاع يشكل حوالي 58% من مجمل ما يخصصه لجميع بنود الموازنة السنوية الأمريكية. بمعنى آخر يخصص للدفاع أكثر مما يخصص وينفق على التعليم وحماية البيئة وشؤون العدل ومعاشات التقاعد ومساعدات الإسكان وشؤون النقل وإعادة تدريب وتأهيل الطاقة البشرية والزراعة والطاقة والتنمية الاقتصادية.

ونعرف ثالثاً أن موازنة “البنتاجون” تبلغ الآن ثلاثين ضعف الموازنات المخصصة لجميع أنشطة وزارة الخارجية والوكالات التابعة لها. وعرفنا في هذا الشأن، وعلى لسان روبرت جيتس وزير الدفاع الحالي أنه يوجد (عام 2007) 6600 دبلوماسي في وزارة الخارجية، بمعنى آخر، يتولى مهام تنفيذ الجانب الناعم من القوة الأمريكية عدد من الأفراد لا يزيد عددهم على عدد أفراد الطاقم المكلف بتسيير وحماية حاملة طائرات أمريكية واحدة.

وقرأنا مؤخراً أن استراتيجية القيادة الجنوبية، أي القيادة العسكرية الأمريكية المسؤولة عن أمريكا اللاتينية، وتُعرف باستراتيجية القيادة 2016 حددت “الفقر والجريمة والفساد في أمريكا اللاتينية كمشكلات أساسية للأمن القومي الأمريكي” واقترحت أن تتعامل القيادة الجنوبية مباشرة مع هذه المشكلات، باعتبار أن إحدى مسؤولياتها “تحقيق الاستقرار والرخاء في أمريكا اللاتينية”.

ونعرف رابعاً، وكنا قد عرفنا من قبل، أن الولايات المتحدة صدرت للعالم أكثر من نصف مشترياته من السلاح، بما يساوي 14 مليار دولار في سنة 2006، بينما لم تزد مبيعات روسيا على 6.5 مليار وتأتي بريطانيا الثالثة في الترتيب.

ما نعرفه كثير، وأكثر منه ما تحتويه التقارير والدراسات غير المنشورة ولكن يتحدث عنها المطلعون على تفاصيل الأنشطة الأمريكية على اتساع العالم. هذا وغيره يعني الكثير وله دلالات متعددة، يعني في الدرجة الأولى أن البنتاجون صار يحتل المرتبة الأولى بين مؤسسات التوظيف في أمريكا، بما له من قدرة على تجنيد مئات الألوف للخدمة في أفرع القوات المسلحة في الداخل والخارج، وتشغيل مئات بل ألوف العمال والخبراء والمستشارين في قطاع الصناعة العسكرية، وهي الصناعة القائدة دائماً في تاريخ الأمم ومسيرة نهضة الشعوب. ول “البنتاجون”، إداريين وعسكراً، هيبة وقوة داخل المؤسسات الأكاديمية مثل الجامعات العظمى التي يتخرج فيها الشباب المؤهل للحكم والمدرب على احترام المؤسسات الحاكمة، ومثل مراكز البحث ومخازن العقول التي يعيش أغلبها بفضل التمويل المخصص لمشروعاتها من البنتاجون. ولا يخفى أن المؤسسة التي تحتل المرتبة الأولى بين مؤسسات التشغيل في أي حكومة أو نظام، هي المؤسسة ذات النفوذ والتأثير الأعظم في عديد من أمور الدولة الداخلية.

ويعني في الدرجة الثانية أن “البنتاجون”، ومن ورائه المؤسسة العسكرية، صار يلعب دوراً أساسياً في صنع السياسة الخارجية الأمريكية. ولسنا في حاجة لأن يذكرنا وزير الدفاع الأمريكي بأن موظفي الخارجية الأمريكية لا يزيد عددهم على عدد طاقم حماية حاملة طائرات واحدة لنعرف حجم هذا الدور وقيمته. يكفي أن نشاهد جنرالات أمريكا وهم يحلون محل كبار الدبلوماسيين الأمريكيين في اللقاءات التي تجري مع رؤساء الدول، وبخاصة دول الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويكفي أن نصدق ما يتردد همساً أو علناً في أوساط الأمن الداخلي في عديد الدول العربية عن أن الدبلوماسيين العاملين في سفارات أمريكا في المنطقة صاروا أقل عدداً من الأفراد العاملين في هذه السفارات لحساب المؤسسة العسكرية ومؤسسات الاستخبارات وأجهزة مكافحة الإرهاب والتجسس على مواطني الدول التي يعملون فيها.

ويعني بالدرجة الثالثة أن خطة التوسع في بناء قواعد عسكرية أمريكية إلى أن يصل عددها خلال سنوات قليلة إلى الألف قاعدة، ليست سوى مرحلة أخرى في مراحل تثبيت الخريطة الجديدة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية على “الأرض” قبل إطلاق استراتيجية عسكرية للفضاء.

ويعني بالدرجة الرابعة أن جماعة اليمينيين الجدد عندما قرروا السيطرة على أمريكا تسربوا كسياسيين وإداريين ومستشارين إلى إدارات البنتاجون قبل أن ينفذوا إلى أي مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة. بمعنى آخر، تعرف القوى السياسية في أمريكا أن مدخلها إلى التأثير المباشر في الحكم هو الهيمنة على البنتاجون.

يخطئ، في ظني على الأقل، من يعتقد أن انحدار السمعة الأمريكية في الخارج أو تدهور شعبية سياساتها وحكومتها مؤشر على احتمال انكماشها العسكري في الخارج أو تقليص نفوذ العسكريين في الداخل. كذلك لن يكون هذا الانحدار أو ذاك التدهور دافعاً كافياً ليعيد قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية النظر في عقيدة “السيطرة الكونية”. ما يحدث الآن، وستتسارع خطواته في المستقبل، هو تطوير أدوات هذه العقيدة ومفاهيمها لتتواءم مع “التحولات الكونية” وهي عديدة.
"الخليج"

التعليقات