31/10/2010 - 11:02

هل الولايات المتحدة في أفول؟../ جلال أمين*

هل الولايات المتحدة في أفول؟../ جلال أمين*
هذا سؤال مهم تحتاج الإجابة عنه إلى تعاون عدد من الناس من تخصصات مختلفة، الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ، ولكن ها هو ذا شخص واحد يحاول الإجابة عنه بمفرده.

أقول هذا بمناسبة مقال مهم نُشر حديثاً في مجلة سياسية أميركية شهيرة، هي مجلة »الشؤون الخارجية« (Foreign Affairs) والمقال منشور في عددها الأخير الصادر في مايو 2008، ويحمل العنوان الجذاب التالي: »مستقبل القوة الأميركية«، وتحته السؤال الآتي: »هل تستطيع الولايات المتحدة أن تستمر في الحياة بنفس القوة بعد صعود قوى أخرى جديدة في العالم؟«.

السؤال يدور في أذهان الكثيرين، إذ أن هناك من الظواهر ما قد يوحي بأن عصر السيطرة الأميركية على العالم آخذ في الأفول، بل أوشك على الانتهاء. والنتائج التي يمكن أن تترتب على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب نتائج خطيرة على الأميركيين وغير الأميركيين على السواء، بل وعلى مستقبل العالم كله، السياسي والاجتماعي والثقافي.

والسؤال ليس جديداً، ولكنه لا يزال يلحّ على الأذهان، ويزداد إلحاحه مع تفاقم المشكلات التي يبدو وكأنها تواجه الولايات المتحدة في الخارج والداخل، فمنذ عشرين عاماً نشر أستاذ أميركي (بول كينيدي) كتاباً حاز شهرة واسعة ويحمل عنوان »صعود وأفول الدول العظمى«، حاول مؤلفه فيه أن يجيب عن السؤال التالي: هل من الضروري أن يعقب ازدهار دولة وصعودها إلى مقام الدول العظمى، هبوط وأفول؟ فإذا كان الرد بالإيجاب فما السبب؟

وقد وصل بول كينيدي إلى أن هذا الأفول بعد الصعود يكاد يكون حتمياً، وأن السبب هو أن الدولة العظمى تميل بعد بلوغها درجة معينة من القوة والسيطرة إلى أن تمد نفوذها إلى أبعد من طاقتها، أي إلى أبعد مما تستطيع الاحتفاظ به، إذ يفرض عليها هذا التوسع نفقات اقتصادية فضلاً عن بعض الأعباء السياسية والاجتماعية لا تقدر على مواجهتها، فإذا بها تنكمش وتضطر إلى تقليص نفوذها. ويحمل هذا الانكماش وتقليص النفوذ كل مظاهر الأفول وفقدان القوة.

طبق بول كينيدي هذا »القانون« على الولايات المتحدة، فإذا به يصل إلى نتيجة متشائمة مؤداها أن الولايات المتحدة قد أصابها بالفعل هذا المرض الذي أصاب الامبراطورية البريطانية في أوائل القرن الماضي، وأن مصير الولايات المتحدة هو مصير بريطانيا نفسه، وهو أن تتحول إلى دولة عادية عاجزة عن فرض إرادتها على العالم.

يأتي هذا المقال الحديث في مجلة »شؤون خارجية« ليثير السؤال نفسه: ولكن كاتبه يصل إلى عكس النتيجة بالضبط: الولايات المتحدة ليست في حالة أفول والتجربة البريطانية في الصعود والأفول مختلفة تماماً في ظروفها عن التجربة الأميركية، وأن الحالة الأميركية مليئة بنقاط القوة التي لم تتمتع بها بريطانيا قط.

كاتب المقال، محلل سياسي أميركي مرموق، من أصل هندي (فريد زكريا) ويحتل الآن منصباً مهماً في الإعلام الأميركي، فهو رئيس تحرير مجلة نيوز ويك الدولية (News week International)، والمقال شديد الجاذبية، أسلوبه قوي وفصيح، لا يعيبه إلا تحيزه الواضح، وإنه يحاول إثبات نتيجة آمن بها سلفاً، وهي نفي الزعم نفسه بأن الولايات المتحدة آخذة في الأفول، هذا التميز ليس بالعيب الهين.

وإن كان شائعاً في الكتابات السياسية، ولكنه لحسن الحظ ليس من الصعب كشفه، من مظاهر هذا التحيز التي يسهل اكتشافها أن تبدأ إحدى فقرات المقال بذكر شيء سلبي عن الولايات المتحدة (مما يظهر ما أصابها من ضعف) وتنتهي بذكر شيء ايجابي (مما يظهر أنه مازال لها من أوجه القوة) فإذا بالفقرة تترك لدى القارئ، وهي مكتوبة على هذا النحو، انطباعاً ايجابياً، بينما لو أعيد ترتيب الفقرة مع تغيير طفيف في الألفاظ، فجاء الجانب السلبي في خاتمة الفقرة، لتركت الأثر العكسي بالضبط.

يظهر التحيز أيضاً في تعامل الكاتب مع التاريخ الاقتصادي انظر مثلاً قوله إن معدلات نمو الاقتصاد البريطاني قبيل الحرب العالمية الأولى كانت أقل من 2% سنويا بينما كانت معدلات النمو في الاقتصاد الأميركي والألماني أكثر من 5%، مما يوحي بأن أفول الاقتصاد البريطاني كان حتميا. ولكنه لا يذكر شيئا مماثلا عن المقارنة بين معدلات النمو الاقتصادي في العشرين سنة الماضية في أميركا والصين، إذ لو كان قد ذكر هذا لتبين ان الفرق بين الولايات المتحدة والصين، في هذا الصدد، أكبر بكثير مما كان بين بريطانيا والولايات المتحدة منذ مائة عام، وان الفارق الآن لصالح الصين، وان هذا في حد ذاته لا يبشر بنتيجة سارة لمركز أميركا في العالم.

كذلك يذكر الكاتب للتدليل على أن أميركا ليست في حالة أفول اقتصادي، أن نصيبها في إجمالي الناتج العالمي يزيد، منذ ثلاثينيات القرن الماضي على الأقل حوالي 25%، ولايزال كذلك حتى الآن، بينما لايذكر ما حدث لنصيب الولايات المتحدة في التجارة الدولية، وهو آخذ في التدهور، وربما كان هذا المقياس الأخير أشد دلالة على القوة والضعف في مركز دولة ما في العالم، من مقياس نصيب الدولة في مجموع انتاج العالم.

كذلك لايذكر الكاتب ما حدث لمكوّنات الناتج القومي الأميركي، من حيث إن نصيب الخدمات في إجمالي الناتج الأميركي آخذ في الارتفاع على حساب الناتج الصناعي، بينما لا يحدث مثل هذا في دولة كالصين. وهذا التحول قد يكون بدوره مؤشراً هاماً على مركز الدولة في الاقتصاد والسياسة الدوليين.

يقول الكاتب أن تدهور مركز بريطانيا في العالم كان سببه اقتصادياً أكثر منه سياسياً، بينما تواجه الولايات المتحدة الآن مشاكل سياسية أكثر مما تواجه مشاكل اقتصادية. فهل هذا صحيح؟ هناك أسباب قوية للشك في صحة هذا التصوير للأمور ولكن هذا يحتاج إلى مقال آخر.
"البيان"

التعليقات