31/10/2010 - 11:02

هل تحقق مضمون وعد بلفور؟../ عوني فرسخ

هل تحقق مضمون وعد بلفور؟../ عوني فرسخ
قبل واحد وتسعين عاما أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور، الذي أقره الرئيس ويلسون وحكومتا فرنسا وايطاليا، واكتسب قوة الوعد الدولي بتضمينه صك الانتداب من قبل “عصبة الأمم” سنة 1922. والوعد وإن بدا خاصا بإقامة “وطن قومي يهودي” في فلسطين إلا أنه حين يقرأ في العمق يدل على قرار استراتيجي بإقامة استعمار استيطاني عنصري صهيوني فيها على حساب الوجود الطبيعي والتاريخي لشعبها العربي، حيث أنكر شخصيته الوطنية وانتماءه القومي، بالنص على أنه “طوائف غير يهودية” مقيمة في فلسطين. كما انه أهدر حقه في تقرير المصير وحقوقه السياسية. والسؤال التاريخي بعد كل الذي جرى خلال الاحدى والتسعين سنة الماضية: هل تحقق مضمون وعد بلفور، أم أن الصراع الذي فجره لما يزل يفرض ذاته على العالم اجمع، وإن كثر المخططون لتصفيته وفق ما يؤمن تواصل أداء الكيان الصهيوني لدوره الاستراتيجي في خدمة القوى الدولية والاقليمية المعادية للمصالح والطموحات القومية العربية؟

ولا أنكر ما بلغته “اسرائيل” من مكانة اقليمية واعتبار دولي، ولكنني ادعي بأن الشعب العربي الفلسطيني هو اليوم أخطر على حاضر ومستقبل المشروع الصهيوني مما كانت عليه الحال غداة صدور وعد بلفور سنة ،1917 أو عشية إصدار قرار التقسيم سنة ،1947 أو يوم استكملت “اسرائيل” احتلال فلسطين من النهر الى البحر سنة 1967. وإن وقفة مع واقع شعب فلسطين العربي والتجمع الاستيطاني الصهيوني عند بداية الاستيطان في الخمس الاخير من القرن التاسع عشر واليوم كفيلة للبرهنة على صحة ما أدعيه.

فبالعودة لما كان عربيا وصهيونيا سنة ،1882 غداة وصول موجة الهجرة الصهيونية الاولى، يتضح ما كان عليه الفارق النوعي بين قدرات وامكانات طرفي الصراع، باعتبار ذلك ما يقتضيه القياس الموضوعي لما أنجزه وعجز عنه كل منهما. كما أن في استعراض المسيرة منذ بدايات الصراع الاولى ما يستند اليه في تحديد المعوقات التاريخية للحراك الوطني الفلسطيني. والذي لا يأخذه بالحسبان غالبية المتحدثين بأسى عن قصور الأداء الوطني الفلسطيني، أو بانبهار عما يعتبرونه إنجازا صهيونيا، أنه حين فوجىء الشعب العربي الفلسطيني بالغزوة الصهيونية لم يكن قد خرج بعد من ظلامات العهد العثماني. إذ كان قاصر الوعي، متخلف المعرفة، مفتقرا عمقه العربي لأي فاعلية. وفي المقابل كان الرواد الصهاينة طليعة نخب يهود روسيا وشرق اوروبا المشاركة في الحراك السياسي والجدل الفكري النشط فيهما، فضلا عن أنهم كانوا مدعومين ماليا ومعنويا من أقطاب الرأسماليين اليهود والانجيليين من البروتستانت في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية، ويحظون برعاية قوى الاستعمار التي التقت على اعتبار استعمارهم الاستيطاني لفلسطين مشروعها الاستراتيجي في تأصيل واقع التجزئة العربي ليتواصل استغلالها الوطن العربي بما يؤمن مصالحها الكونية ورفاه شعوبها.

وليس أدل على ما كان يدركه الصهيانة من خلل استراتيجي في ميزان القدرات والادوار لصالحهم من رفعهم لشعار “ارض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وكان التقدير الغالب لدى صناع قرار التحالف الاستعماري الصهيوني، أن المشروع الصهيوني مرشح لأن يحقق ما حققته مشاريع الاستعمار الاستيطاني الاوروبية المصدر السابقة له. وإذا كان الزمن لم يعد يسمح بالابادة الجماعية، كما جرى في امريكا الشمالية واستراليا، فإن التهجير القسري “الترانسفير” هو ما كان معتمدا منذ البداية. فقد ورد في يوميات هرتزل قوله: “إذا ما انتقلنا الى منطقة فيها حيوانات متوحشة لم يعتد عليها اليهود افاعي كبيرة وغير ذلك فسوف استخدم سكان البلاد، قبل ترحيلهم الى الدول التي سينقلون اليها، من اجل القضاء على هذه الحيوانات”. فيما ورد في مذكرات حاييم وايزمان: “لقد وعدتنا بريطانيا ان تكون فلسطين سنة 1935 يهودية كما هي انجلترا انجليزية”.

ومع الاقرار بأن المفكرين والساسة العرب، لم يتوصلوا بعد لصياغة الاستراتيجية العامة والشاملة والمستمرة لادارة الصراع مع التحالف الاستعماري الصهيوني، إلا أن جماهير شعب فلسطين أكدت منذ البداية التزامها بخيار الممانعة والمقاومة واستعدادها لتحمل تبعاته، مقدمة بذلك المعوض الاستراتيجي للقصور النخبوي العربي. وهذا ما توضحه القراءة الموضوعية للحراك الوطني الفلسطيني على مدى العقود التسعة الماضية، إذ كان كلما بدا واهن القوى ولاحت مؤشرات قصور نَفَس قادة نضاله انتشلته هبة شعبية في اللحظة الحاسمة. وإن في صمود ما يقارب الخمسة ملايين عربي في فلسطين المحتلة من النهر الى البحر وتصديهم لإرهاب الدولة الصهيونية المسكوت عنه دوليا، مقابل عودة الصهاينة الى مخاوف “الغيتو”، على الرغم من كونهم مدججين بالسلاح، كما ذكر يوري افنيري قبل شهور، ما يدل دلالة قاطعة على فعالية ارادة الممانعة والمقاومة المتجذرة لدى جماهير شعب فلسطين واستحالة استلاب ارادته في تحرير ترابه الوطني من دنس الغزاة، برغم ما لهم من دعم غير محدود من عمقهم الاستراتيجي على جانبي الاطلسي.

وكثيرون هم المفكرون والساسة الصهاينة الذين باتوا يقرون بانهم لم يحققوا اي انتصار بعد “حرب الايام الستة” سنة 1967. وهذا ما اكدته نكستهم في عدوان 2006 على لبنان، غير أن الخلل الاستراتيجي في الحراك الوطني الفلسطيني يكمن في التناقض فيما بين ما هو عليه شعب الممانعة التاريخية والمقاومة الاسطورية من سخاء في عطائه بالدم والمال والجهد، وما يعكسه من بخل كارثي في محاسبة ومساءلة قادته السياسيين ونخبه الاجتماعية. وبذلك سهل على الواضح قصر نفسهِم في النضال، والمفضوح تفريطهم بالحقوق الوطنية لقاء مصالحهم الذاتية، الاحتفاظ بأدوارهم القيادية، بل وتمرير ما يبرمونه من صفقات مشبوهة، ومثالها الابرز اتفاق اوسلو الذي ما كان ليبرمه رابين إلا ليلتف على فشل اجهاض انتفاضة الحجارة التي عرّت العنصرية الصهيونية، دون مساءلة موقعيه ومسوقيه وكأنه النصر المبين.

وبرغم توالي مسلسل التنازلات تواصل الخلل الاستراتيجي في الحراك الوطني الفلسطيني بدليل أن ما نشرته الصحف “الاسرائيلية” حول التقاء قادة أجهزة “أمن” سلطة رام الله في مستوطنة “بيت إيل” مع الجنرالات الصهاينة، واتفاقهم على عمل مشترك لتصفية المقاومة في الضفة والقطاع المحتلين لم يستدع محاسبة فصائلية أو وطنية. ومع ذلك يتواصل العطاء الشعبي ممانعة ومقاومة مؤكدا بالممارسة العملية عدم تحقق مضمون وعد بلفور بعد تسعة عقود من إصداره.
"الخليج"

التعليقات