31/10/2010 - 11:02

هل كان "شريك"؟/ أنطوان شلحت

هل كان
فور الاستفاقة من "الصدمة" تمثّل رد الفعل الإسرائيلي الأولي على نتائج انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، التي جرت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2006 وأسفرت عن فوز حركة "حماس" بأكثرية مقاعد المجلس، في ندب حظّ المفاوضات العاثر، من جهة وفي التلويح بالعودة إلى وضعية "انعدام الشريك"، من جهة أخرى، وذلك في تجاهل تام مقصود لحقيقة أن تلك المفاوضات ما برحت في هذه الوضعية ولم تغادرها البتة، بقرار إسرائيلي محض، منذ أن جرى صكّ هذا المصطلح بعد قمة كامب ديفيد في صيف 2000، من طرف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، الذي سلّم "قيادة الدفّة" على طبق من ذهب إلى أريئيل شارون.

ووفق ما توضحه المقالات والتعليقات المتعددة، المضمومة في هذا العدد من "أوراق إسرائيلية" (*)، فقد اجتهد قباطنة السياسة والأمن والجيش في إسرائيل في شرح الاتجاهات السياسية المتوقع لها أن تتعزّز، في ضوء نتائج الانتخابات السالفة، فضلاً عن الإجراءات العسكرية والاقتصادية وغيرها.
مهما تكن هذه الاتجاهات فإن هناك تشديدًا خاصًا على اثنين منها: الأول اتجاه الجمود في المفاوضات، والثاني اتجاه الخطوات الأحادية الجانب.

وبطبيعة الحال ثمة جرعات كبيرة من المزاعم التي لا تمتّ بصلة إلى الواقع، في الكثير من الوقائع التي يعرضها بعض الكتّاب والمعلقين الإسرائيليين باعتبارها "حقائق لا ينتطح حول صدقيتها عنزان"، كما يقول مثلنا العربي. وقد لا يحتاج القارئ إلى جهد خارق من أجل تخليص الحقائق الأصلية من نير المزاعم الأساسية، وبالتالي تحديد الفيصل بين الحقائق وتلك المزاعم في سبيل تشييد تفسير متجدّد للحقائق.

من ذلك مثلاًُ، وعطفًا على ما تقدّم، ما يمكن أن ينطبق على موضوعي جمود المفاوضات والخطوات الأحادية الجانب. وهما، بالذات، اتجاهان مكرّسان أصلاً في الممارسة السياسية الإسرائيلية قبل الانتخابات الفلسطينية بكثير، وبقيا على هذا النحو حتى بعد الرحيل المأساوي للرئيس ياسر عرفات وتوهّم البعض أن يأخذ معه "الذريعة المناوبة" لمقولة "انعدام الشريك" إيّاها.

مع هذا فقد انطوت القراءات الإسرائيلية لنتائج الانتخابات الفلسطينية على أمور أخرى ينبغي الوقوف عندها:
لعلّ الأمر الأول، الذي يطفو على السطح، هو ذلك الاندهاش، المفرط في غيبيته واستفظاعه، من جرّاء فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي ترتسم في عمق الذهنية السائدة بكونها "أجهزة تقدير" لا تغيب عنها شاردة ولا واردة، في التنبؤ بـ"الانقلاب" الكبير الذي أسفرت عنه تلك الانتخابات، إلى درجة شبّه فيها البعض ذلك الفشل بقصور تلك الأجهزة أو تقصيرها إبان حرب "يوم الغفران" في أكتوبر 1973. وقد ذهبت مجموعة من الكتّاب إلى أن "خطورة" هذا الأمر ناجمة أكثر شيء عما يثيره ذلك القصور من تداعيات ليس أبسطها الريبية بالنسبة للتقديرات الاستخبارية المتعلقة بمواضيع أكثر بعدًا وأشّد تعقيدًا، مثل ماهية الترسانة النووية الإيرانية. بينما قالت مجموعة أخرى إن الدولة التي ترى إلى كل شيء فقط عبر فوهة البندقية، كما إسرائيل، هي التي تضع تقارير أجهزة استخباراتها في مصاف "التقديرات الوطنية"، التي تبنى عليها بروج السياسة وبرامجها.

وقد صدق أستاذ الإعلام يورام بيري الذي أكدّ أنه حان الوقت للتحرّر من المفهوم القائل "إنه إذا كانت لدينا استخبارات جيدة، ففي مقدورنا أن نتغلب على كل المشاكل الخارجية والأمنية". وخلص إلى أنه بدل أن نربّي الوهم/ الخداع الذاتي بأنه ينبغي أن تكون لنا استخبارات أفضل في سبيل التنبؤ بما يحصل لدى جيراننا، من المفضل أن نتبنى سياسة جيدة من أجل أن تؤثر على ما يحدث هناك.

هنا يثور السؤال الصميمي، غير المرتبط أساسًا بفوز "حماس" أو عدمه: إلى أي مدى ترغب إسرائيل في أن تؤثر على ما يحدث هناك لمصلحة التسوية السلمية، في منأى عن مصالحها السياسية الضيّقة؟.

وهذا هو الأمر الثاني الذي لا بدّ من الوقوف عنده في هذه القراءات.

يؤكد عامي إيلون، رئيس "الشاباك" الأسبق وأحد قادة حزب "العمل" حاليًا، أن الغاية الإستراتيجية المركزية لدولة إسرائيل لم تتغيّر بالرغم عن كل شيء (ويقصد بالرغم عن نتائج الانتخابات). وهذه الغاية هي، بحرفية قوله "نريد الانفصال عن الفلسطينيين نحو واقع الدولة اليهودية- الديمقراطية"، وأوشك أن يستطرد "بصورة أحادية الجانب أو خلافها، لا يهم".

وهناك أكثر من سبب للاعتقاد بأن هذه الغاية هي في صلب الإجماع الإسرائيلي الصهيوني، حتى من قبل أن تظهر نتائج الانتخابات الفلسطينية. ويكاد هذا الإجماع يشكل أسّ البرامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية الكبيرة كافتها، المنطلق من القناعة بوجوب الانفصال ديمغرافيًا عن الفلسطينيين دون الحاجة إلى تحقيق حلّ عادل ودائم، أي دون الحاجة إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 ودون حق العودة ودون القدس.

حتى "يساريو" حزب "ميرتس- ياحد" هم ضمن من يشملهم هذا الإجماع، حسبما يشفّ عن ذلك مقال رئيس الحزب، يوسي بيلين، المنشور هنا وكذلك برنامج الحزب الانتخابي.

ومن نافل القول إن هذا "الإجماع" لا يأخذ في حسبانه قضية الشريك. ولنفترض جدلاً أنه يأخذها في اعتباره فمن هو هذا الشريك، الذي على استعداد لتحمل قسط في "تسوية" على هذه الشاكلة؟.

إذا بقينا في إطار الانتخابات الإسرائيلية، التي ستجري في 28 آذار 2006، فمن الحتم أن نتطرق إلى أمر ثالث ليس أقل أهمية، تنمّ عنه هذه القراءات.
إن غالبية ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية على فوز "حماس" تبدو متأثرة من مناخ الحملة الانتخابية التي تقودها مختلف الأحزاب، بناء على أحداث السنوات الأخيرة ومستجدات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وبالأخص خطة الانفصال وما حملته من دلالات سياسية وحزبية. وفي ضوء ذلك يتوقع البعض أنه مع انقشاع غبار المعركة الانتخابية قد تخفّ كثيرًا حدّة التصريحات الرسمية لتحلّ محلها دبلوماسية أخرى، ربما تكون مغايرة بعض الشيء. ويسند هذا البعض توقّعه، ضمن أشياء أخرى، بـ"حرص قادة حماس على التموضع في الوسط سياسيًا"، كما أظهرت تصريحاتهم غداة الفوز، وكذلك بـ"اضطرار حماس (آجلاً أم عاجلاً) إلى أن تأخذ في الحسبان موقف الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، لمجرّد كونهم يضخّون الأموال إلى السلطة الفلسطينية".

جوهر ما يقوله هؤلاء هو أن صعود "حماس" قد ينطوي على منفعة ما لإسرائيل، لكن يستحيل أو الأصّح من السابق لأوانه تقييم أبعاد هذه المنفعة قبل انتهاء الانتخابات الإسرائيلية.
بيد أن المنفعة التي قد تعود على إسرائيل، ترتبًا على صعود "حماس"، لا تبدو في بعض هذه القراءات منحصرة في الجانب السياسي الداخلي أو الثنائي الصرف، بل تتعدى ذلك إلى ما يتعلق بصورة إسرائيل وسياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية.
وبمثل ما "نظّر" البعض على هامش الصراع الأخير حول الكاريكاتير، لناحية إبراز دور إسرائيل الحضاري في الشرق "المتخلف" وفوائد هذا الدور بالنسبة لأوروبا والغرب عمومًا، يرى كاتب ما أن الأصولية الإسلامية لا تخيف الإسرائيليين وحدهم فقط. وعلى هذا الأساس فإن فوز "حماس" هو برأيه فرصة مناسبة لتعزيز الائتلاف ضد المشروع النووي الإيراني، وهو كذلك فرصة مناسبة لاستكمال بناء الجدار الفاصل. "فالضغط الدولي لن يقف في طريقنا بشأن هذا الموضوع. كما أن التأييد الدولي سيزداد أكثر في حال رسمنا الحدود وصفينا الاحتلال"، على ما يؤكد هذا الكاتب.

ويضيف: الاحتلال لم يفسدنا فقط، وإنما جعلنا معزولين أيضًا. حتى الآن كان سهلاً (بالأساس من جهة الأوروبيين) رؤية الفلسطينيين ضحايا الاحتلال بوصفهم مندوبي الحرية وحقوق الإنسان. وحماس أوضحت أن هذه حركة تحرّر من صنف آخر تمامًا. لكن الجانب الآخر من العملة أننا سنكف عن كوننا شعبًا محتلاً وقامعًا. وسنجد أنفسنا عندها متحالفين بارتياح مع العالم الديمقراطي، ونخرج من منطقة الكولونيالية الرمادية. وإذا ما تعاظم التقاطب بين الأصولية الإسلامية والديمقراطية الغربية، فسنجد أنفسنا مندرجين جيدًا في الجانب الأكثر نجاحًا من المتراس.

وعليه فإن ما يسعى إليه هؤلاء هو الإفادة من هذا الفوز لتعزيز سجالهم، بالأساس في المحافل الخارجية الدولية. وبكلمات أخرى تجييش صعود "حماس" من أجل إكساب السياسة الإسرائيلية الراهنة، القائمة على الفصل واستخدام القوة والإجراءات الأحادية الجانب، مشروعية فائضة لدى تلك المحافل، باعتبار أن ما حصل يشكّل معينًا لهذا السعي في غمرة مناخ عالمي مؤات يسعفه أيضًا ما يحدث في العراق وأفغانستان ولبنان وعلى جبهة الصراع مع النظام الحاكم في إيران.

_______________________________

(*) تقديم العدد الجديد (32) من "أوراق إسرائيلية" الصادرة عن "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار" في رام الله، ويضم مختارات من القراءات الإسرائيلية في نتائج الانتخابات الفلسطينية.

التعليقات