31/10/2010 - 11:02

هل يؤسس سلام على جثة فلسطين؟../ الياس سحّاب

هل يؤسس سلام على جثة فلسطين؟../ الياس سحّاب
نقلت لنا الفضائيات الإخبارية ظهر الأربعاء الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أن خمس دقائق فقط فصلت بين اجتماعين ترأستهما وزيرة خارجية “إسرائيل” تسيبي ليفني، الأول للجنة أمنية وزارية لمتابعة ما تفعله “إسرائيل” في قطاع غزة حصاراً وضغطاً وعمليات عسكرية، والثاني لإدارة ما يفترض أنه محادثات السلام مع الفلسطينيين. فهل هذا مشهد من مشاهد مفاوضات تاريخية لإبرام تسوية تاريخية، أم مشهد في مسرحية عبثية من الكوميديا السوداء؟

لكن بعيداً عن مشهدي القدس، اللذين كانت النجمة فيهما ليفني، فإن حقيقة ما يجري حالياً على أرض فلسطين هو ذروة التراجيديا التاريخية المأساوية.

فعندما وقعت كارثة الهزيمة العسكرية في العام ،1967 كانت الضفة الغربية تمثل بمدنها وقراها وأراضيها الزراعية، العمود الفقري لما تبقى من فلسطين العربية، بعدما احتلت “إسرائيل” ثلاثة أرباعها في حرب 1948. وكانت الضفة فيما بين 1948 و1967 قد تحولت إلى جزء من المساحة الموسعة للمملكة الأردنية الهاشمية. وبما أن عبد الناصر، أبرز زعماء العرب في تلك الحقبة، كان يدرك أن الصراع بينه وبين “إسرائيل” عبر سيناء قد دخل مرحلة معقدة يصعب التنبؤ بمداها الزمني، فقد أخذ يلح على الملك حسين، في اتصالات سرية وعلنية يومها، ليستفيد قدر الامكان من علاقاته المميزة بالغرب، لاستعادة الضفة الغربية، قبل أن يطول زمن خضوعها لنشاط التهويد الدؤوب، الذي ابتدأ منذ اليوم الأول لهزيمة 1967.

وها ان الزمن قد دار دورته لتبلغ المأساة الفلسطينية الستين من عمرها. معنى ذلك، أن الضفة الغربية قد أمضت عشرين عاماً في الإطار القانوني لدولة الأردن العربية، لكنها أمضت ضعف هذه المدة (أربعون عاماً حتى الآن)، في أسر عمليات تهويد الجغرافيا والطبيعة والموارد والحياة الاجتماعية والاقتصادية.

وفي هذه الأثناء، ومع تطورات سياسية وديمغرافية لا مجال لاستعراضها في هذه السطور القليلة، تحول قطاع غزة إلى بؤرة سكانية مكتظة بمليون ونصف المليون فلسطيني، يشكلون اليوم العبء العربي الأكبر على قلب الاحتلال “الإسرائيلي”، إذا قارنا الكثافة السكانية في البؤر العربية الثلاث: عرب48، وعرب الضفة، وعرب غزة.

أكثر من ذلك، تحولت غزة بعد اجتياح جنين الذي وضع العمل الفلسطيني المقاوم في الضفة الغربية تحت سيطرة “إسرائيلية” نسبية، تحولت غزة إلى بؤرة أساسية لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، بما فيها الفصائل المنتسبة إلى فتح وحماس والجهاد الإسلامي.

هذا التطور الفلسطيني، كان يجد صداه الواضح في كل الأوراق الأمريكية أو الأوروبية لمشاريع التسوية. فكان البند الأول في كل هذه الأوراق (وأشهرها خريطة الطريق)، ينص دائماً (وحتى في سائر الأوراق الأخرى)، على تعهد السلطة الفلسطينية بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، بعد أن تحول اسمها، حتى على لسان السلطة الفلسطينية مؤخراً، إلى “الإرهاب الفلسطيني”.

ومع أن أوراق مشاريع التسوية كانت تتضمن دائماً بنوداً أخرى تتدرج تصاعداً حتى تصل إلى حدود فتح الباب أمام مفاوضات الحل النهائي، إلا أن الضغط الأمريكي والأوروبي والدولي عموماً، ظل مركزاً على البند الأول. ولم يكن الضغط سياسياً فقط، بل اقتصادياً ودبلوماسياً وإعلامياً ونفسياً، حتى أصبح سائداً وشائعاً أن التسوية النهائية التاريخية لقضية فلسطين جاهزة، ومكتملة، وضامنة لكل الحقوق التاريخية لشعب فلسطين، وأنه لا يعوقها سوى حاجز واحد، هو المقاومة الفلسطينية، أو “الإرهاب الفلسطيني”. ولم يعد هذا البند يقتصر على ضرورة تفكيك آلية فصائل المقاومة، بل أصبح المطلوب التخلي نهائياً عن فكرة المقاومة، بل اعتبارها جرماً يعاقب عليه القانون الدولي، و”الإسرائيلي”، والفلسطيني.

ولم يكن هذا وحده مطلوباً، قبل أن يحصل الفلسطينيون على أي حق من حقوقهم، بل إن ما كانت وما زالت “إسرائيل” تفعله منذ سنوات، هو القضاء المتدرج على هذه الحقوق المادية والمعنوية (استيطان الضفة والقدس مثال حي على ذلك) حتى إذا ما تخلى الفلسطينيون عن كل ورقة قوة في أيديهم، فتحوا عيونهم ليجدوا أن كل حقوقهم التاريخية قد تبخرت في الهواء، وأنه لم يبق أمامهم سوى الالتحاق ب “إسرائيل” التاريخية الكبرى، جموعاً هائمة على وجهها من الأيدي العاملة، في مزق مفككة مما تبقى من أرضهم، لا تتجاوز في مجموعها أكثر من 15 في المائة من فلسطين التاريخية. تخيلوا ما سوف يبقى بعد تحقق كل ذلك من قيمة لكلمة الدولة، هذا إذا حصل عليها الفلسطينيون.

لم يبق في وجه الاكتمال العملي لهذا المخطط، سوى تصفية الوضع في قطاع غزة. وليس سلطة حماس، أو تفردها بالسلطة هو المطلوب تصفيته فقط، بل المطلوب تصفيته بالتحديد هو الاحتمال الوحيد الذي ما زال يؤرق “إسرائيل”، وهو احتمال تصفية النزاع الداخلي على السلطة بين فتح وحماس، وعودة النضال الوطني الفلسطيني إلى سكته التاريخية الصحيحة.

لذلك، لم يكن مجافياً للمنطق أبداً انتقال تسيبي ليفني في مدة خمس دقائق فقط، من اجتماع لتصفية الوضع عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في قطاع غزة، إلى اجتماع للبحث في احتمالات السلام مع السلطة الفلسطينية، وهو سلام تتجه كل الأطراف المنخرطة فيه إلى إقامته على جثة فلسطين، أرضاً وشعباً.

فهل هذا الكابوس قابل للتحقق حتى نهاياته؟
"الخليج"

التعليقات