31/10/2010 - 11:02

هل يرث المتنافسون على الرئاسة الاميركية «لمسة» بوش؟../ جميل مطر*

هل يرث المتنافسون على الرئاسة الاميركية «لمسة» بوش؟../ جميل مطر*
نزداد اهتماماً بمتابعة حملة الانتخابات الأميركية مع اقتراب مواعيد الحسم فيها. وللاهتمام مبررات. نهتم بها لأننا موقع من المواقع المهمة على خريطة النفوذ الأميركية. كنا موقعاً مهماً وما نزال وسنظل خلال الأجل المنظور. بمعنى آخر سنبقى داخل دائرة المصالح الإستراتيجية الأهم وهي المصالح التي تتوارثها إدارة عن إدارة ورئيس عن رئيس. إلا أن هذا التوريث «الميكانيكي» لأهميتنا في دائرة المصالح الاستراتيجية الأميركية لا يعني عدم وجود اختلافات في تفاصيل السياسات التي تمارسها هذه الإدارة أو ذاك الرئيس. فلكل رئيس أميركي وغير أميركي، بطبيعة الحال، لمسة تختلف عن لمسة سلفه وستختلف عنها حتماً لمسة خلفه.

أكتب هذه السطور وأنا أحاول استشراف سلوك المرشحين الثلاثة للرئاسة في حال تولي أحدهم السلطة. هل سيختلف أداء أميركا تجاه شعوب هذه المنطقة وحقوقها ومصالحها في ظل حكم أي من هؤلاء الرؤساء عن أدائها في ظل بوش؟ ما نعرفه أن أساس السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط لم يتغير عبر عقود عديدة، ولكن ما نعرفه أيضاً، وأظن أن كثيرين من العرب وغير العرب تيقنوا منه، هو «لمسة» الرئيس جورج دبليو بوش في أداء أميركا الخارجي خلال فترة ولايتيه. هنا في هذه المنطقة نعرف ماذا فعلت بنا هذه اللمسة اللاذعة، نعرف أنها ستترك حروقاً وتشوهات وآلاماً، وستترك أيضاً جروحاً غائرة في جسد الأمة العربية والإسلامية وفي عقلها.

لا أتصور أن من سيأتي بعد بوش ستكون له هذه اللمسة اللاذعة. نعرف أن لا أحد من المرشحين الثلاثة كان قبل توليه المنصب مدمناً للكحول والمخدرات ورجل أعمال غير متمكن ومديراً فاشلاً ورجل سياسة «ريفياً» أي «رجل ولاية» أكثر منه رجل دولة. كما أن لا أحد من الثلاثة يأتي مشحوناً بطاقة من التعصب الديني والشعور بالذنب وتعذيب الذات والاستعداد الذهني للدخول في مواجهة مع عقائد دينية أخرى، وبخاصة مع الإسلام والمسلمين تكفيراً عن ذنوبه ومحواً للمعصية. ولا أحد من الثلاثة، فيما أعلم ربما باستثناء جون ماكين، يقيم صلات صداقة وعمل مع عمالقة صناعة النفط في أميركا. ولا أحد من المرشحين سيصل إلى منصب رئاسة الدولة الأعظم فاقداً أي شعور بالتعاطف مع المواطنين الأميركيين الأقل حظاً في الثروة والمكانة الاجتماعية وفاقداً أي قدرة على التماهي مع فقراء العالم رغم محاولته تعويض هذا النقص برحلة تلفزيونية إلى أفريقيا.

سيكون من واجبات الرئيس المقبل لأميركا خدمة المصالح الأميركية الأعلى، وهذه المصالح لا تتغير خلال سنوات أو عقود، وسيحافظ على استمرار توسع رقعة النفوذ الأميركي في الخارج. فالامبراطورية كانت وستظل حلماً أميركياً غير معلن وإن مختلطاً لدى النخبة المثقفة والأكاديمية بشعور حرج وأحياناً خجل. ينكرون الحلم ولكن يبدعون في صنع مسميات مختلفة لممارساتهم الامبراطورية. يؤرقهم الحلم ولكن يعذب ضمائرهم ما تحقق منه. يدبجون «قيماً عالمية» ويمارسون على أرض الواقع قيماً أقرب إلى قيم غير المتحضرين، وفي أحسن الأحوال نجد من يدافع عن ممارسات غير إنسانية بحجة أنها تمهد الطريق نحو عالم متحضر تسود فيه القيم الإنسانية، فالحرب ضد الإرهاب وتعذيب المشتبه فيهم وتقييد حريات المواطنين واختراق خصوصياتهم وتهميش شعوب بأكملها أو تجويع أخرى، كلها وغيرها ممارسات غير إنسانية من أجل إقامة عالم متحضر تسود فيه العدالة واحترام الحقوق والحريات.

نتحدث عن الطبقة الحاكمة في أميركا، وبالتحديد عن القطاعات الأشد تأثيراً فيها. فمن رجال ونساء في هذه الطبقة ستتكون حاشية تحيط بكل مرشح من المرشحين الثلاثة. رأينا السناتور جو ليبرمان الزعيم الديموقراطي، وأحد أقطاب المعارضة السياسية في مجلس الشيوخ الأميركين في اكثر مناسبات الحملة الانتخابية للمرشح ماكين يقف إلى جانبه أو خلفه ليهمس في أذنه مصححاً المعلومات الخاطئة التي يدلي بها وما أكثرها كما اكتشفنا، ومضيفاً إلى معلوماته، وما أقلها كما اكتشفنا أيضاً. رأيناه في رحلة الشرق الأوسط يصنع «لمسة» المرشح الجمهوري ماكين، اللمسة التي ستصبغ الأداء السياسي للرئاسة «الجمهورية» المقبلة، كاللمسة البوشية التي شارك في صنعها ريتشارد تشيني وبرنارد لويس وريتشارد بيرل ودانيال بايبس. رأيناه وهو الزعيم الديموقراطي المخضرم يضع للمرشح الجمهوري حدود التحرك وقواعده لمدة ثمانية أعوام مقبلة، إن امتد العمر به، حتى لا يخرج قيد أنملة عن إرادة إسرائيل والحركة الصهيونية. يعرف الجميع أن المرحلة المقبلة ستكون مصيرية بالنسبة الى أوضاع جماعات الضغط اليهودي ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضاً في كل أنحاء الغرب. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال آخر لأهميته البالغة.

وسواء تولى باراك اوباما أو هيلاري كلينتون الرئاسة، فستكون لكل منهما لمسته على سياسة أميركا في العراق. سيكون ممتعاً متابعة التغيرات اللفظية والإيماءات التي ستدخل على الخطاب السياسي لكل منهما خلال الأيام المقبلة. لا اختلاف أتوقعه في الجوهر، فأميركا «الامبراطورية» لن تخرج من العراق، ولكن أميركا ستسحب قوات لها في العراق. أميركا بالمعنى التاريخي لن تخرج من العراق كما لم تخرج من ألمانيا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية. لن تخرج لأن النفط في العراق لن ينضب قريباً والسباق من أجله ازدحم بمتسابقين جدد. ولن تخرج لأن إيران المقيمة على حدود طويلة مع العراق لن ترحل، ولأن الإسلام في العراق وفي المنطقة لن يذوي أو يختفي مهما دب فيه من انقسامات وفتن، ولأن إسرائيل لا تريد أن تعيش مع الفلسطينيين، والمقاومة ضدها لن تموت، ولن تخرج لأن الدوائر التي تتحرك فيها الصين والهند وروسيا تضيق عاماً بعد عام مقتربة من الدائرة الأهم، دائرة الشرق الأوسط.

لا أحد بين المرشحين الثلاثة يعترف بأن أطراف المصلحة في إقامة أميركية طويلة في العراق تقبل منهم موقفاً صريحاً أو واضحاً أو محدد المواعيد في شأن الخروج من العراق. لن يقدر أوباما أو كلينتون على إحداث قطيعة مع أركان النظام السياسي الأميركي. وكلاهما جزء لا يتجزأ منه، وكلاهما يأتي إلى الحكم لخدمته وخدمة مصالحه والقوى وراء هذه المصالح، وفي مقدمتها - كما أسلفنا - القوة المستفيدة من توسيع رقعة النفوذ الدولي لأميركا.

ما سبق كان مثالاً على سياسات شبه ثابتة لن يغير فيها الرئيس الجديد، ولن يفلح إن حاول، كما سبق أن حاول بتكلفة باهظة كل من جون كيندي وجيمي كارتر. كل ما يستطيع الرئيس الجديد عمله هو إضافة «لمسة» شخصية تجعل تنفيذ هذه السياسات أصعب وأكثر تكلفة كما فعل الرئيس بوش خلال ثمانية أعوام، هي أعوام الخسائر الباهظة في الأرواح والسمعة العسكرية وشرف الأمة وفي الخزانة والاقتصاد ومستوى معيشة المواطنين الأميركيين، أو يستطيع الرئيس الجديد إضافة لمسة شخصية تجعل تنفيذ هذه السياسات أبسط وأقل كلفة كما فعل بيل كلينتون ورونالد ريغان.

وأظن، مستنداً إلى تصريحات المستشارين الذين يحيطون بالمرشحين وكتاباتهم، أنه لا يوجد توافق عام حول مستقبل السياسة التي اعتمدتها إدارة بوش حين قررت بموجبها الدخول في مواجهات حول قضايا الحريات والديموقراطية. وأستطيع أن أفهم وجهات النظر المختلفة. ترى إحداها أن دعم الديموقراطية والضغط على حكومات أجنبية لإجراء «إصلاحات سياسية»، قضية هامشية يمكن التخلي عنها للتركيز على قضايا أشد التصاقاً بمصالح أميركا المادية. يساعد على هذا أنه ليس بين المرشحين الثلاثة من يزعم أنه مبعوث إرادة عليا لإنقاذ البشرية من الدكتاتورية. بينما ترى وجهات نظر أخرى أن تطور توازن القوى في السنوات الأخيرة، وخلال السنوات القليلة المقبلة، سيدفع بهذه القضية إلى الصدارة، إذ أن السباق الدولي بين الصين وروسيا من ناحية وأميركا وبقية دول الغرب من ناحية أخرى لن يجد قضية جوهرية تصلح محوراً إيديولوجياً لصراع جديد سوى المواجهة الناشبة حالياً في أنحاء كثيرة من العالم بين الديموقراطية الليبرالية التي يبشر بها الغرب و»الديموقراطية السيادية» Sovereign Democracy حسب التعبير الذي استخدمه الرئيس بوتين ويبدو أن دولاً كثيرة بخلاف روسيا والصين ستتبناه.

هنا، في هذه القضية، كما في قضايا أخرى، ستتدخل قوى ضغط لصالح تصعيد المواجهة مع روسيا والصين وحلفائهما من الدول المتمسكة بـ «الديموقراطية السيادية»، أو تتدخل لتثبيطها، وسيعتمد نوع التدخل وهدفه على العائد المتوقع لصالح هذه القوى في الحالتين وفي مقدمها المجمع العسكري - التكنولوجي وجماعات الضغط اليهودية وتيارات «المحافظين الجـدد» والمصالح النفطية، وكلها كما نلاحظ تحاول الآن ضبط إيقـاع المرشحين الثلاثة على نغمة رئيسية.

وعلى كل حال، لا يوجد حتى الآن من المؤشرات ما يشجع شعوب العالم على الاطمئنان الى مستقبلها ومستقبل السلام العالمي في ظل قيادة أميركية جديدة. فالإدارة الأميركية الراهنة تعمل بكل طاقتها لتوريث «لمسة» رئيسها وليس فقط سياساته، وتثبيت «انجازاته» في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال وإسرائيل والحرب على الإرهاب وإعادة شحن طاقة العداء في أميركا والغرب ضد روسيا والصين.

في مقابل هذا تنشط قوى أخرى لإزالة لمسة بوش وآثارها. يقول الكاتب اللامع أنطوني لويس في العدد الأخير من مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» تحت عنوان «رئيس الإرهاب»، إن جيلاً كاملاً من الأميركيين نشأ ونضج على فكرة أن التعذيب على الطريقة النازية لن يتكرر. ولكنه يتكرر الآن في أميركا، والأدهى أنه في ظل إدارة الرئيس بوش أصبح التعذيب حسب قوله «سياسة دولة». من جهة أخرى يكتب آخرون أن الظروف التي جاءت بالرئيس بوش وبلمسته الحارقة تغيرت ولن تعود. فالتاريخ الذي قيل إنه انتهى بانتصار الليبرالية واقتصاد السوق، يبدو حسب اعتذار فوكويوما نفسه ومقال روبرت كاغان الأخير في «مجلة نيوريبابليك»، كما لو أن الحياة دبت فيه من جديد واستأنف مسيرته.
"الحياة"

التعليقات