31/10/2010 - 11:02

وقفة مع "مزالق إثارة الإعجاب وطلب الاعتراف".. لـ د.عزمي بشارة../ ناصر السهلي*

وقفة مع
أعتقد بأن قراءة ما يكتبه الدكتور عزمي بشارة تثير العقل، بالمعنى الايجابي لإثارة خلاياه، ففي قراءته الدقيقة لـ" مزالق إثارة الإعجاب" تعبر المقدمات والاستنتاجات عن حالة عايشها ويعيشها جيل كامل من الشباب العربي الباحث عن أجوبة لكل ما تثيره السياسة العربية من ممارسات وتصريحات مضحكة ومخزية في ذات الوقت.

فقد أثارني كقارئ التحليل الصائب، بعد المقدمة، الذي تناول فيه الدكتور بشارة مسألة "الدونية".. وهي من المسائل التي ظلت تثيرني، وأنا مثل الآخرين أرقب المشاهد الثقافية والسياسية والتربوية في الكيانات الأبوية الرعوية العربية.. نظرة متفحصة، وهي على كل غير مكلفة، لما هو حولنا من تقليد ليس لما لدى الغرب من ثقافة وفلسفة ومنطق، بل في أخذ "نفايات" قد لا تستحسنها المدن الألمانية والفرنسية وغيرهما من العواصم.. إن التجوال في بعض المدن العربية وقراءة أسماء المحال التجارية والمقاهي وما يحمله من تشويه للغة المنقولة يحمل في جوهره ترسيخ التقليد غير المتبصر.. وهو ما تقوم عليه ركائز الاعتقاد الواهم الذي تثيره الحالة العربية العامة التي يريد لها طبقة تشكلت في العقد الأخير أن تبث نوع ما من الهزيمة الذاتية.. على الصعد كافة..

نعم، في السياسة ( التي تعكس نفسها على كل نواحي الحياة) لا يمكن إلا اكتشاف أي نوع من الدونية المستوردة من الطبقة السياسية التي تتحالف بذات الوقت مع طبقة ثقافية انتهازية تبرر بشتى الوسائل عملية إدخال روح الهزيمة والتقليد الأعمى لما سماه الدكتور بشارة "المتفوق".. ومن الوقائع الحية التي يشاهدها الشباب العربي في العمل السياسي تلك الطريقة المهينة لاستقبال بعض الزعامات العربية التي تتعامل مع الرأي العام الغربي من ثقب الحاكم الغربي المنتخب وكأنهم يوهمون أنفسهم، كما ظلوا يفعلون مع بوش وكلينتون، بأن التزلف لهذا الرئيس الغربي وذاك يمكن أن يغير في المعادلة شيئا..

نضيف إلى ذلك لغة الجسد التي تنم في كثير منها إلى سخرية الخطاب والحركة المزدوجة.. فهنا أيضا تكمن ملاحظة أي جهد يحاول أن يظهر من خلاله البعض وكأنهم نسخة طبق الأصل لما هو متوقع منه في حضرة "المتفوق" أو "القوي".. أظن شخصيا بأن الكثير من المؤسسات الغربية الحاكمة توظف لديها علماء نفس لديهم المقدرة على قراءة " الأنا" المتورمة عند الدوني الذي لا يملك سوى أن يكون في مستوى مذل من الرضوخ الجسدي واللغوي.. حتى لكأنك أحيانا تشعر بخجل من منظر هؤلاء على عتبات البيت الأبيض أو الاليزيه..

فإذا كانت ممارسات فردية، كما جاء في الفقرة أ من قراءة المفكر بشارة، تحاول بكل ما تمكنها لغتها السياسية وسطحية معرفتها بالنظام السياسي الغربي تحاول بجد التملق كسبا لرضا هؤلاء المستضيفين، وحين تفشل تعود مكشرة أنيابها بوجه "شعبها" وكأنه قطيع عليه أن يردد ما يقوله القائد والزعيم بشكل أعمى.. وقد حرك فيَ/ وفي غيري على ما أظن، الملاحظة الثاقبة في سخرية الزعيم الأوحد.. الذي لم تلد البلاد كلها من هو بمثله.. ليسير الرعية وفق مزاجه الشخصي.

كم راهن العرب مثلا على أوباما واعتبروه "مخلصا"، لا لشيء إلا للعجز الواضح في فهم الثابت والمتحرك في استراتيجيات الإدارات الأميركية الخاضعة لنظام صارم من النفوذ والمصالح، وقد انعكست تلك المراهنة، القائمة على شيء يمكن أن نقوله بدون تردد وهو يعود لأصول نصف إفريقية للرجل.. ورفع شعار "التغيير" في الحزب الديمقراطي، على الشعب العربي والمسلم، وكم أضحكني أن البعض اعتبر " باراك حسين أوباما" من قبيلته.. وأعادوا أصول الرجل رغم أنفه إلى هذه أو تلك من القبائل! وبمثل هذه العقلية يجري حقا تغييب العقل والوعي لتستمر عجلة الخضوع للنظام العربي المعجب بنفسه أيما إعجاب أمام جماهيره التي يعاملها معاملة "أبوية" و"رعوية"..

صرفت العربية السعودية ملايين الدولارات بعيد 11 سبتمبر 2001 ثمنا لحملة دعائية في شوارع نيويورك وواشنطن لـ" تحسين صورتها".. وقدمت تلك الحملة على أساس تعريف الأمريكيين بـ " الحقيقة المغيبة عن السعودية والإسلام".. لكن بعد أعوام ما زلنا نكتشف حجم البؤس الذي يبحث عن مخارج فردية لأزمة "الصورة".. فمجلس "الشورى" لم " يُعط" ( فكل شيء هبة من حكامنا العرب) لعيون وعقل الناس.. بل لعيون متفحصة ودارسة لمكامن الضغط الذي من خلاله تعرف السياسة الغربية كيفية التعامل الضاغط مع النظام العربي.. وهو مثل يمكن سحبه على كل ما نسمعه منذ سنوات طويلة عن وصول النظام السياسي العربي إلى سن الرشد.. فمثل هذه الممارسات الدالة على صب كل الجهد باتجاه "التماهي" مع "هذا الغرب العنصري" تنتج لنا فضائح كثيرة.. ليس أقلها أن آمال الجماهير العربية أثناء وبعد العدوان الهمجي على غزة تعلقت بشخصية " أردوغان" بينما ممثل العرب في لقاء دافوس أصابه الارتباك في الخطاب ولغة الجسد وإيماءة من يد بان كي مون ليبقى جالسا في مكانه..
***********************
إن الواقع العربي الذي شخصه د. عزمي بشارة في بحثه الدوني عن "الاعتراف" به من خلال "تجاوزها العادي والطبيعي" تحولت مع الأسف إلى استنتاج جاء في مقدمته بتحول البحث عن هكذا اعتراف "إلى تشوهات في الشخصية"..

سأسمح لنفسي أن آخذ تجربة الدكتور بشارة نفسه مع سلطة دولة احتلال، احتلت مدينته "ترشيحا" ولم تسمح منذ 61 عاما بتطبيق قرار دولي أو محلي واحد لعودة اللاجئين.. بل مارست أبشع ممارسات إحلال مواطن مستورد ومحاصرة الشعب الأصيل في بلده بمدن وقرى ممنوع عليها أن ترفع صوتها إلا إذا رضخت تماما لمسألة "الأسرلة" التي تناولها المفكر والسياسي تاليا عزمي بشارة عديد المرات.. في هذه التجربة المثيرة حقا جرى أن دفع بشارة ثمنا فادحا ما زالت آثاره متواصلة إلى يومنا هذا، لكن وبالرغم من ذلك، فقد قدم بشارة نموذجا مختلفا للعربي الفلسطيني الرافض لمسألة الدونية والرضوخ.. النتيجة الملموسة في الانسجام بين الفكر والممارسة وغياب الأنا المتورمة أنتجت بكل تأكيد ثقافة وطنية وقومية ملموسة عند جيل عربي فلسطيني في مدن الداخل الفلسطيني ترفض وبإباء كل محاولات إرضاخ وترويض وأسرلة العقل.. وقبل أن أنتقل لمقاربة تهمني شخصيا.. أود أن أُعطي مثلا على ما ذكرته..

في السنوات التي سبقت تجذر الوعي وتغلغل ثقافة أن "البلاد بلادنا" وأن الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.. يعرف من هم في الداخل ما كانت تمارسه العقلية الخاضعة والتي كانت تشعر بدونية مخيفة تجاه الاستدعاءات والملاحقات الأمنية التهويلية من سلطة لا ترى في العربي إلا "بقايا احتلال".. فكانت مسألة رفع العلم الفلسطيني تشكل تحديا تندفع القوى الراضخة للمثابرة على "إظهار" أن هؤلاء الذين يرفعون العلم الفلسطيني "مشاغبون لا يمثلوننا".. فما بالك بالكوفية الفلسطينية.. قبل أسابيع قليلة تم استدعاء إبن صديق لي من قبل المخابرات الإسرائيلية للتحقيق معه، وهو شاب يافع وناشط سياسي في ثانويته ومنطقته.. كان أبوه قد سبقه بسنوات إلى الزنازين والمعتقلات والإقامة الجبرية.. وافق الشاب على الذهاب إلى التحقيق.. ففوجئ عناصر الاستخبارات بالشاب يرتدي الكوفية .. طلبوا منه نزعها.. فأصر بأنه لن يدخل إلا والكوفية على كتفيه... فمن رضخ للآخر؟.. دخل بالكوفية ورمى لهم ببطاقة الهوية عندما سألوه عن اسمه الكامل ومكان إقامته.. في نهاية المطاف صُعق المحققون من صلابة لم يعهدوها..

رمزية التصرف تدل على الكثير من المتغيرات التي أدخلها الفكر الذي يرفض الشعور بالنقص والدونية والتماهي مع السلطة القوية.. وهنا أعود لقضية الدكتور عزمي بشارة متسائلا: إذا كانت الإسهامات الفكرية الفردية، الثقافية والسياسية ، لم تتكئ على نماذج اللهث وراء "الاعتراف".. بل خلق حالة من الانقلاب في الوعي.. وعي ينفض عن نفسه طبقة سميكة من الموروثات التاريخية المرتجفة والمترددة قبل أن تحسم موقفها من مسائل تأخر البعض عن اتخاذها.. وأحيانا يشعر المراقب بأن الحسم المتأخر، أكان تجاه العلم الفلسطيني أو أية رمزية أخرى للانتماء، جاء في سياق غير طبيعي.. بمعنى أنه محاكاة لمتغيرات فرضها بمعاناة وقسوة من دفع الثمن.. وأحيان تجدها في سياق التساوق مع "الاعتراف المتبادل" بعد 1993 .. وفي الحقيقة كل النقاش الدائر اليوم عن إعادة صياغة قضية الاعتراف بـ" يهودية دولة إسرائيل" يمكن أن يكشف المزيد من السطحية التي تعامل بها البعض استخفافا تارة و "مناكفة" تارة أخرى مع فكر يمكن الاختلاف عليه لا تحويله إلى عداء مع من يتعرضون لذات محاولات فرض شروط أسرلة وتهويد الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر.. من النقب جنوبا وحتى عكا شمالا..

ثمة ما يحير من لا يدرك الخارطة السياسية الفلسطينية حين التمحيص عما فعله "الفكر الملتزم بديمقراطية الدولة وعدالتها" في قضية د.عزمي بشارة.. وكثيرا ما كنت أتساءل: ما الذي فعله ساسة يخوضون انتخابات الكنيست لزميل وإبن بلد قررت "العدالة"، المطالب بشارة بالمثول أمامها، من فعل حقيقي قبل أن تصلهم رسالة أفيغدور ليبرمان ومن هو على شاكلته.. أسئلة كثيرة ومخجلة أن تُطرح في العلن.. لكنها بأية حال أصبحت واقعا ملموسا حين تجد أن كل حالات الاستجداء والتماهي لم تجد نفعا لدرء أن يلاحق البعض بمثل ما لوحق به د. بشارة.. المطلوب منه أن يعود " للدفاع عن نفسه أمام القضاء"! أو يثبت "براءته أمام القضاء".. وأي "براءة" وأي قضاء؟ القضاء الذي تجيز فيه "المحكمة العليا" ما لا يمكن لعقل أن يتخيله في القضاء..

فلسطينيا، وأقصد على الساحة السياسية والثقافية في الضفة الغربية أجد من حقي الإدعاء بأن حالة غير مقبولة برزت في السنوات الأخيرة في القطع مع فلسطينيي الداخل، إلا من هو من لون مقبول لطرفي المعادلة في السياسة الفلسطينية والإسرائيلية.. حتى أني لدهشت أن امرأة سبعينية من عائلتي تدرك الفرق بين " المرضي عنه وغير المرضي عنه".. هنا وهناك.. في إشارة لبروز شيء يجعل من مسألة التوكيد على الانتماء الواحد ترفا في مخاض حرب إسرائيل لتأكيد يهوديتها وتدفيع عرب 48 الثمن لمثل هذا التصرف الذي يبحث عن أي اعتراف مهما كان شكل "التخلص" من " معضلة العرب في إسرائيل" حسب قراءة المخططين للتوصل لحلول ترانسفيرية تعيد اقتلاع البشر من أرضهم.. والسؤال المحير عن دور "الطبقة المثقفة" ودورها الذي عول عليه ادوارد سعيد في مسائل رمزية بمثل قضية د.عزمي بشارة.. وأشمل بمثل يهودية الدولة.. وحين نعيد صياغة السؤال على البعض من هؤلاء، تجدهم يتحدثون بخجل وبصوت منخفض عن مثل هذه القضايا المثارة.. وكم من مرة يجب تكرار السؤال عن دور المثقف.. المدرك.. الواعي.. الممسك بالبوصلة.. وكم من مرة يأتي الجواب مخيبا وصادما..

لقد أصاب إصابة مباشرة د. بشارة حين كرس في مادته هذه جزءا مهما لكشف قناع الدونية والباحثة بنرجسية مقيتة عن أقرب كاميرا والتمرغ بالتراب للدلالة على " أنا أناضل.. أنا أطالب.. أنا جزء من الدولة.. أطالبها الاعتراف بي.. أنا ثم أنا"!

التعليقات