31/10/2010 - 11:02

يتحدثون عن انتفاضة ثالثة؛ كيف؟ وماذا عن تفاعلاتها داخل الخط الأخضر؟../ عوض عبد الفتاح

يتحدثون عن انتفاضة ثالثة؛ كيف؟ وماذا عن تفاعلاتها داخل الخط الأخضر؟../ عوض عبد الفتاح
لا تشتعل الثورة، ولا تندلع الإنتفاضة أو الهبات الشعبية بالأوامر ولا بقرارات معزولة عن الواقع أو عن نضوج شروطها. كما أن استمرار زخمها، وتحولها إلى جزء من حياة شعب، مرهون بوجود رأس قيادي يفكر بشكل جماعي ويعتمد إستراتيجية مواجهة ثورية ولكن عاقلة. والأهم هو القدرة والنجاح في قطف ثمار الثورة أو الإنتفاضة أو الهبات الشعبية وإلا فإن كل التضحيات تذهب هدرًا.

هذه الشروط، شروط اندلاع الثورات وصعودها وصولاً إلى انتصارها الحاسم أو وصولاً إلى إنجازات نوعية تكون مقدمة لحسم المعركة مع العدو، نجدها في صفحات تاريخ الثورات العالمية والعربية والفلسطينية، إذا ما أجدنا التمعن جيدًا في هذه الصفحات وأشغلنا العقل والفكر وبقليل من العاطفة وإن كان تأجيج العواطف والمشاعر بين الجماهير الشعبية ضروري لحشد الجماهير في المعركة.

لا يمكن ولا يجوز نسخ أي ثورة، ولكن في التجربة البشرية مخزونًا هائلاً من الدروس تستلهمها حركات وطلائع الشعوب والجماعات المقموعة والساعية إلى الإنعتاق من نير الإستعمار والإضطهاد الطبقي والوطني.

تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث ضد المشروع الكولونيالي الصهيوني حافل بالنضال والتضحيات والعطاء. كما أنه حافل بالأخطاء والقصورات. ويُشير العديد من دارسي تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى غياب عنصر التعلم لدى نخبها وقادتها من تجاربها. أي أن عنصر التراكم في المعرفة والإستفادة من التجارب السابقة، وبالتحديد أخطائها، لا يحظى باهتمام أو إدراك أو وعي به. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك إلى حدّ القول وكأن الشعب الفلسطيني يخوض نضالاً سيزيفيًا، نسبة إلى أسطورة بطل الفيلسوف الوجودي الفرنسي البير كامي، سيزيف، الذي يدحرج الصخرة من أسفل الجبل نحو قمته ولكن الصخرة تعود وتتدحرج إلى الأسفل بعد كل الجهد الذي يبذله البطل. ويعود على نفس الكرّة دون أن يحصد شيء سوى الجهد المهدور. وبناءً على هذه القراءة فإن هؤلاء يقولون إن القصور ليس في الشعب الفلسطيني بل في قيادته السيزيفية.

ولكن وللأسف حتى الآن لا يوجد قراءة موحدة متفق عليها داخل الحركة الوطنية الفلسطينية لعوامل قصور التجربة الفلسطينية، ولا يوجد استعداد عند تيارها المركزي للإعتراف علنًا بالمسؤولية عما آلت إله الأوضاع الفلسطينية.

هناك ثلاثة توجهات على الساحة الفلسطينية اليوم لمواجهة تبعات انهيار الأوهام على التسوية:

التيار الأول: المتمثل بالسلطة الفلسطينية التي واجهت حكومة نتنياهو بوقف المفاوضات ولكنها غير قادرة ولا راغبة بإعلان الطلاق الكامل مع نهج الإعتماد الكامل على الولايات المتحدة بإدارتها المتعاقبة، وذلك يعود إلى خطيئة أوسلو وتبعاتها المتلاحقة.. وأخطرها تبلور وتشكل شبكة مصالح تستند إلى صناعة التسوية واستمرارها.. وبالتالي إفراز ذهنية تستمرئ المفاوضات حتى لو كانت عبثية، وتمقت كلمة مقاومة حتى لو كانت غير عنفية. إذاً، هذا التيار أو هذه الطبقة على الأصحّ، عاجزة وغير راغبة في حسم أمرها باتجاه المشاركة الحقيقية في بلورة بديل مقاوم إلى جانب المفاوضات واتهام القيادي الفتحاوي، المقدسي، حاتم عبد القادر، للسلطة الفلسطينية بمنع الناس من المشاركة في الهبّات أو المناوشات مع قوات الإحتلال في القدس خاصة، يؤكد هذا التشخيص.

التيار الثاني: هو التيار الإسلامي الجهادي، ومركزه حركة حماس. إنّ تعزز قوة هذا التيار وتحوله إلى أحد الطرفين المركزيين للحركة الوطنية في العقدين الأخيرين يعود إلى دخوله إلى ساحة المقاومة بعد أن كان مستنكفًا انتظارًا لاستكمال أسلمة المجتمع أو عودته إلى "الدين الصحيح"، والأهم هو تحدّيه الفعلي لاتفاقية أوسلو وإفرازاتها وتعففه من دخول السلطة في المرحلة الأولى، وبالتالي عدم تورطه في نظام فلسطيني فسد وترهّل بسرعة قياسية وقبل أن تقام الدولة الفلسطينية.

ساهم هذا التيار في زعزعة واقع التعايش مع الإحتلال في مرحلة أوسلو، وفي إبقاء خيار المقاومة حاضرًا في الذهنية الشعبية الفلسطينية ساعده في ذلك رغبة الشهيد ياسر عرفات في الإستفادة من نضالات حماس في الضغط على إسرائيل وبالتالي امتناعه (وطنيًا وأخلاقيًا) عن الدخول مع هذه الحركة في معركة كسر عظم، خاصة بعد أن أدرك حقيقة الموقف الإسرائيلي الرافض للحدّ الأدنى من المطالب الفلسطينية، وبعد أن أدرك أن أوسلو لم يكن بالنسبة لإسرائيل إلا مشروعًا لتكريس السيطرة الأبدية على كل الضفة والقطاع والقدس بشكل غير مباشر.

ولكن هذا التيار رغم الضربات التي وجهها للإحتلال الإسرائيلي، فإنه أخفق في إدراك أهمية أن تكون مقاومته رشيدة وجزءًا من إستراتيجية موحدة مع كافة فصائل وأطر المقاومة الشعبية. كما أنه أخطأ في دخوله الحكومة وفي دخوله نظام (أوسلو) ناهضه وشكك فيه طيلة الوقت، وبالتالي صعوبة الجمع بين سلطة ومقاومة تحت الإحتلال، الذي لا يزال قطاع غزة مرتبطـًا به، عبر المعابر وغيره. هذا ناهيك عن ممارسات حكومة حماس، أو بعض أجهزتها الأمنية في ملاحقة كوادر الفصائل الأخرى، كما تفعل سلطة رام الله، والتضييق عليهم.

التيار الثالث: هو تيار غير واضح الملامح، ولم ينجح في التبلور بعد، وليس واضحًا ما إذا كان سيخرج إلى النور أصلاً بالصيغة التي يريدها المبادرون. هناك من يتحدث عن توحيد فصائل اليسار، الجبهة الشعبية، الديمقراطية، وحزب الشعب وربما حزب المبادرة الشعبية حديث الولادة وحديث النهج. والكلام عن مبادرة التوحيد جارٍ منذ سنوات طويلة. يبدو أن الكلام يدور عن توحيد ميكانيكي بعيدًا عن معطيات الواقع، والمتغيرات التي حصلت على مفهوم اليسار، وعن متطلبات النهوض بالحالة الشعبية.

فاليسار الفلسطيني في الذهن العام، أقرب إلى السلطة الفلسطينية ورئيسها منه إلى الشارع. وهو في حالة خصام مع حركة حماس (وإن بتفاوت) أكثر منه مع السلطة ونهجها. وتأخذ المسألة الأيدلوجية عند اليسار مكانة متقدمة على المسألة الوطنية. واليسار، لم ينجح لا أثناء حقبة أوسلو الأولى في التصدي لنظام الفساد، ولا في حقبة الإنتفاضة الثانية، التي قدم فيها الكثير من التضحيات، (خاصة فصيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – اغتيالات واعتقالات لقيادات من الصف الأول ودون ذلك) من التحول إلى عنوان يُحسب له حساب في الساحة الشعبية. بطبيعة الحال هناك كوادر أساسية من داخل هذه الفصائل، ناقدة وتطالب بالتغيير وبتعديل النهج.. ولكن ليس في الأفق القريب ما يشي بإمكانية أن تحدث هذه التغييرات داخل الفصائل التي تعيش حالة جمود على المستوى الفكري، أي على مستوى التنظير للمرحلة الجديدة؛ ليس فقط على مستوى وضع الوصفات والخطوط العريضة حول الوحدة والمقاومة وغيرها، بل في كيفية تنظيم الناس والتصدي الفعلي للنهج التسووي وتحريك الشارع، والتشبيك مع حركات المقاومة العربية وحركات التضامن العالمية.. وطرح رؤية سياسية واجتماعية لطبيعة المشروع الوطني الفلسطيني.. وعلاقته بالمشروع القومي العربي.. والعلاقة مع اليهود الإسرائيليين أو موقعهم ضمن هذا المشروع.
السؤال الأصل هو هل يمكن أن يكون احتلال بدون مقاومة؟ وهل حصل أن سقط احتلال أو نظام عنصري بمحض إرادته؟

كانت المقاومة دائمًا القول الفصل.. بأشكالها المختلفة؛ السياسية، الثقافية والاقتصادية والميدانية. وهذا ما سيكون مع المشروع الإحتلالي الإسرائيلي. صحيح أن هذا المشروع أكثر تعقيدًا ربما من أي احتلال أو مشروع استيطاني آخر. لكونه مشروعًا كولونياليًا غربيًا وإجلائيًا، ومرتبطـًا حتى الآن عضويًا مع مشروع الهيمنة الغربي على المنطقة العربية. ولكن لن يكون مصيره أفضل من غيره.. وخاصة من مشروع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا السابق.

ولكن هذه المسألة ليست حتمية، فانهياره مرتبط بالمقاومة، والأهم مرتبط بكيفية تطوير إستراتيجية المقاومة بحيث لا تؤدي إلى تحميل الشعب أكثر مما يحتمل ولا يؤدي إلى هدر أرواح وطاقات.

المقاومة حق شرعي، والأهم واجب على كل فلسطيني وعلى كل عربي.. وعلى كل مناصر من أجل الحرية وقيم العدالة والمساواة، كلّ بطريقته وكلّ بإمكانياته ومن موقعه.

هذه الأمور مفهومة للجميع بل مفروغٌ منها. ويبقى السؤال الأصعب هو كيف يجدد الشعب مقاومته؟ لا يجوز أن يسأل "أقطاب الحركة الوطنية الفلسطينية، هل نحن على أعتاب انتفاضة ثالثة أم لا. هذا سؤال للمراقبين الحياديين. يجب أن يكون السؤال؛ كيف تشعل الحركة الوطنية الأرض تحت أقدام المحتلين؟ كيف تخطط لإطلاق الإنتفاضة الثالثة؟ أو على الأقل كيف تخطط لتحويل الهبات الشعبية الآخذة في التصاعد إلى عمل شعبي عارم؟ من أين تبدأ؟ وكيف تنتقل من مرحلة إلى أخرى؟ كيف تديره؟ ومن هي القوى التي ستقود الإنتفاضة؟ يجب أن تكون الإنتفاضات السابقة، بإنجازاتها وبأخطائها حاضرة أمامها. ليس بالضرورة أن تكون الإنتفاضة نسخة كربونية عن سابقاتها، والإنتفاضة لا تنزل من السماء، ولا تندلع بالنداءات. ربما تحتاج إلى أن تكون المرحلة الجديدة هبات شعبية تدريجية غير مستعجلة، ولكن ضمن خط تصاعدي، تُبنى خلاله البنى التحتية (الشعبية) مدماك فوق مدماك، وتـُمنح كل مرحلة فترة لنضوجها. وقد يكون نموذج الإنتفاضة الأولى هو المطلوب، والذي كان أكثر تنظيمًا وأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي وإلى حدّ ما الإسرائيلي.

يجب أن تكون هذه المرحلة الجديدة من المواجهة مع المشروع الكولونيالي الصهيوني، أرقى من مراحلها السابقة، وبالتحديد على مستوى إدارتها السياسية والميدانية.. وبحيث تتمكن من تحريك الشارع العربي، ومن توسيع حركة التضامن العالمية. وعلينا كفلسطينيين ألا يقع بعضنا في وهم التخلص من الإحتلال بضربة واحدة، ومن نظام التمييز العنصري الصهيوني، بل عبر مراحل طويلة من النضال المتشابك، لأنه تبيّن أن زج كل طاقات الشعب الفلسطيني بدون تخطيط هو مدمّر، ويترك آثاره الوخيمة على قدرة الإستمرار وعلى الروح المعنوية، إذ يسود الإحباط والقنوط لفترة طويلة يقوم خلالها الإحتلال بتصعيد عملية تدميره لمقومات شعبنا البشرية والطبيعية.
نعود إلى السؤال السابق، والذي يطرحه المراقبون والنشطاء السياسيون إذا كان الشعب الفلسطيني على أعتاب انتفاضة؟

هناك أسباب وعوامل وجيهة كثيرة لاندلاع انتفاضة أو مقاومة شعبية طويلة الأمد. أهمها تغوّل المشروع الإستيطاني الصهيوني وانعكاس مخاطر هذا المشروع الهائلة على حياة وأمن الإنسان الفلسطيني. ومؤخرًا، جلاء الأمور بخصوص وجهة دولة الإحتلال، خاصة في ظل حكومة نتنياهو-ليبرمان التي أراحت الفلسطينيين من عبء التعلق بالأوهام، وسمحت بفتح أبواب جديدة للعمل على تحشيد العالم ضدها.

ولكن هناك معوقات أمام اتساع دائرة المقاومة لا بدّ من العمل على إزالتها أو تذليلها باعتبار هذا العمل جزءًا حيويًا من عملية الإعداد الجيّد لإستراتيجية مقاومة طويلة. المعوّق الأوّل، هو استمرار الشرخ العميق داخل الساحة الفلسطينية، واستمرار الشرخ الذي ليس هو شرخ تنظيمي بل سياسي وتكتيكي واستراتيجي نابع أساسًا من تبلور نهجين على الساحة: نهج المقاومة ونهج التسوية، وإن تحوّل مؤخرًا إلى صراع على سلطة وهمية تحت الإحتلال، بسبب استمرار الحصار على قطاع غزة.

المعوّق (الثاني)؛ هو الأزمة داخل حركة فتح، والمرتبط تمويلها ببقاء السلطة، وبالتالي هناك قيادات وكوادر ترغب في الخروج من هذا المأزق، ولكن ليس واضحًا كيف ومتى.

المعوّق الثالث: السلطة الفلسطينية وتعاونها الأمني مع الإحتلال الإسرائيلي ووقوفها حاجزًا بين شعبها والإحتلال. هي تقوم مؤخرًا، أو بالأحرى رئيس السلطة، أبو مازن، بحملة شرح وكشف للمواقف الإسرائيلية أمام دول العالم. وهذا مهم ولكن ليس كافيًا.

إن الضغط المستمرّ على السلطة الفلسطينية بهدف عدم العودة إلى المفاوضات بدون بديل مقاوم، على الأقل على مستوى مواجهة إسرائيل سياسيًا داخليًا وخارجيًا، وعدم تفعيل قوات أمنها ضد المتظاهرين، هو جزء من عملية الإعداد هذه. إن تصعيد المأزق القائم في ما يسمى بالمفاوضات أو "عملية السلام"، ضروري، لأن العودة إلى المفاوضات يعرقل تبلور البديل المقاوم.. ويعرقل إمكانية توسع المساندة الشعبية العربية، والتضامن العالمي.

ولكن من هي الجهات التي تقوم بالتحركات الأخيرة، خاصة الإشتباكات التي بدأت قبل أسابيع في القدس وتصاعدت في الأيام الأخيرة؟ إنها اشتباكات محدودة، ولكنها بدون شك بدأت تقلق الإحتلال الإسرائيلي. لا يمكن أن يعزو أي فصيل فلسطيني لنفسه المسؤولية عن ذلك. أي أن الهبات الأخيرة، وابتداء من المظاهرات ضد الجدران منذ سنوات، (ابتداءً من بلعين ونعلين) هي نتاج مبادرات نشطاء في فصائل وحركات سياسية وأطر شعبية انطلقت كمبادرات محلية يساندها نشطاء سلام إسرائيليون وأجانب. وقد تحولت مظاهرات الجدار التي تمتدّ اليوم إلى أكثر من 25 قرية وبلدة في منطقة الضفة الغربية والقدس إلى مقدمات لشكل الإنتفاضة القادمة التي يبدو أنها ستتخذ شكل الإنتفاضة الأولى أو نشاط شعبي متقطع ولكن دائم. أما تصعيدها في القدس واتخاذها شكل المناوشات الساخنة مع قوات الإحتلال في الأسابيع الأخيرة فيعود إلى انضمام أوساط من الفصائل المختلفة (فتح وحماس) إلى هذا النمط من المقاومة الشعبية.

لا شك أن للهبات المتفرقة وشبه اليومية التي تحدث في القدس، وإن كانت لا تزال المشاركة الميدانية فيها مقتصرة على الشباب الصغار، لها أهمية خاصة إذ أن هذه المدينة الفلسطينية التي تتعرض لأشرس الحملات والمخططات الإستيطانية والإجلائية منذ عشرات السنين تميّزت حتى فترة قريبة بالسكوت واللامبالاة بسبب شراسة هذه المخططات. ولذلك فإن هذه الهبات هي بمثابة بداية لإعادة الإعتبار لدورها والذي من المفترض أن يكبر ويتسع لما لهذه المدينة بمكانتها وعروبتها ومقدساتها الدينية من طاقة التحشيد فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا وعالميًا.

ليس واضحًا إلى أين ستؤول هذه الهبات، خاصة وأن الإحتلال يتعامل مع سكانها وحركتها الوطنية، بمستوى قمعي أكثر عنفًا وتضييقًا على المقاومين وعلى الناس. كما أنه أيضًا مرهون بمدى العون الذي يقدم إلى المدينة وأهلها فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا.

ربما قد تنشأ قوى جديدة تقود نضالات لمرحلة جديدة، تأتي من الأجيال الجديدة، ومن بعض المحبطين من فصائلهم، وقد يؤدي ذلك إلى اضطرار فصائل أخرى تجاوز خلافاتها وإلى التعاون فيما بينها لمواجهة أخطار المشروع الإحتلالي المتصاعد.

وقد نحتاج في هذه المرحلة لبذل الجهد الفكري والعملي، لوضع تصورات نظرية وميدانية تتطابق مع المتغيرات أو الناجمة عن التآكل في أداء وبنى الفصائل الفلسطينية المختلفة، التي من شأنها تحفيز بعض القيادات الحالية للخروج من ترهلها، وفتح المجال لوجوه جديدة لأخذ دورها ومساندتها في بناء ذاتها كقيادات واعدة للمرحلة الجديدة التي من المفروض أن يكون قد بدأ مخاضها بعد انسداد أفق التسوية الذي استهلك من عمر الحركة الوطنية ومن الشعب الفلسطيني 18 عامًا من المعاناة والخسارة.

من المفروغ منه القول إن لأي حدث كبير في الأراضي المحتلة عام 67، يتعلق بالمواجهة مع الإحتلال، سيكون له تداعيات وامتدادات مباشرة وغير مباشرة بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.

لقد اتخذ العمل الوطني أو السياسي والتنظير بين هذا الجزء من شعبنا منذ عام 1948 شكلاً مستقلاً مطابقًا لخصوصية موقعهم (المواطنة الإسرائيلية) وكنتاج الإخفاق العربي والفلسطيني في التعامل معهم كجزء من القضية الوطنية بصورة فعلية.

ربما لهذه الأسباب استطاع عرب الداخل بناء تجربتهم الخاصة في النضال من أجل البقاء. وتطوير ثقافتهم وكيانهم، ولكن أيضًا لهذه الأسباب لحقت بهم تشوهات، لا تزال تعاني منها أحزاب سياسية وشرائح مجتمعية لا تفرق بين التعامل مع الواقع وبين الإستسلام له. وتعود تشوهات البعض إلى إرث تاريخي قوامه بناء علاقة تلفيقية بين الصهيونية والإشتراكية.

في الإنتفاضة الأولى كانت ردودهم متواضعة ولكنها عكست تفاعلاً شعبيًا (وجدانيًا) واسعًا مع الأهل في الضفة والقطاع. اقتصرت الردود على مظاهرات متفرقة ومساعدات مادية وغذائية متواصلة.

أيضًا شملت إضرابًا عامًا – أعلنته لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب تحت عنوان يوم السلام – عكس عدم رغبة القيادات بالتصعيد. (القوى الوطنية غير البرلمانية أطلقت عليه يوم فلسطين).

أما الردود على الإنتفاضة الثانية، وهي المواجهات التي أغرقتها إسرائيل بالدماء والتي استمرت لمدة أربعة أيام في مدن وقرى الجليل والمثلث والنقب والساحل، فقد كانت حصيلة خليط من العوامل: إرتفاع الروح المعنوية على أثر اضطرار الجيش الإسرائيلي الإنسحاب من لبنان بفضل المقاومة، أيار عام 2000، والإنتفاضة الثانية نفسها وما تخللها من مقاومة شرسة وبطش إسرائيلي غير مسبوق، والعامل الثالث حالة الإحباط والغضب الناشئة عن التمييز والتهميش ومصادرة الأرض.

جميع هذه العوامل لا تزال قائمة (إذا ما اندلعت انتفاضة ثالثة). إن سلطات الإحتلال الإسرائيلي تتهم عرب الداخل، بالمساهمة إلى جانب الأوساط الفلسطينية في المناطق المحتلة عام 67، بإذكاء المواجهات في مدينة القدس، وشخـّصت الحركة الإسلامية الشمالية بهذا الدّور.

لو أمعنا النظر فيما يجري داخل الخط الأخضر، فإن إسرائيل في الواقع تدفع، دون أن تقصد، إلى تعزيز التعاون والتنسيق حول الخطوات النضالية بين الفلسطينيين من على جانبي الخط الأخضر.

إن مدينة القدس ومكانة الأقصى في الوجدان الديني والشعبي تجمع الجميع، أي أنها عنصر توحيدي للمشاعر والجهود. ومن السهل نسبيًا تحشيد الجماهير دفاعًا عن عاصمة فلسطين العتيدة لما لها من عناصر العروبة والتاريخ والدين والثقافة. وبطبيعة الحال فإن إسرائيل تدرك ذلك. ولكن مركزية هذه المدينة في الأسطورة اليهودية والفكرة الصهيونية تدفعها إلى عدم المساومة.. مستندة إلى ضعف العرب ونهج السلطة الفلسطينية التي لم تنتبه إلى القدس إلا مؤخرًا وبصورة جزئية. إسرائيل تراهن على هذا الضعف على أنه أبدي ولن تتغير هذه النظرة الصهيونية إلا بعد أن يستجمع الفلسطينيون والعرب قواهم وإرادتهم ويقوموا بتنظيم هذه القوة التي من شأنها أن تجعل المشروع الإحتلالي مكلفًا جدًا له.

استنهاض عناصر القوة العربية في ظل هذا التواطؤ العربي الرسمي، يجب أن يبدأ في استنهاض عناصر القوة الفلسطينية الداخلية. يجب إحراج الشارع العربي وإحراج أنظمة العار. وهذا يمكن أن يحصل فقط عبر تصعيد النضال الشعبي الفلسطيني في قلب القدس وفي محيط القدس وفي جميع أنحاء الوطن التاريخي.. يمكن التمهيد لحالة فلسطينية جديدة، ولحالة عربية جديدة. كل ذلك الجهد لا يقاس بالأيام ولا بالأشهر بل بالسنوات. المهم أن نضع الأجيال الجديدة على السكة الصحيحة في مشوارها للدفاع عن وجودها وبقائها، هويتها ومستقبلها. وهنا لا بدّ من التأكيد على أهميّة الخطاب السياسي – العروبي والإنساني والديمقراطي للقضية الفلسطينية، بما فيها القدس، ليس باعتبارها مدينة مقدمات فحسب، وإنما فيها بشر يتعرضون لمخطط تطهير عرقي وتدمير منهجي لكيانهم الإجتماعي والمعيشي.

أما عناصر القوة الفلسطينية المطلوب استنهاضها فيجب أن تشمل ذلك الجزء من شعب فلسطين في الداخل الذين يحملون المواطنة الإسرائيلية.

أصلاً هذا الجزء من شعبنا، ومن أمتنا، في حالة نقاش داخلي، أقصد نخبه وممثليه وصناع الرأي، حول السبل الكفيلة في مواجهة حالة الحصار الإسرائيلي الذي يضيق عليهم كل يوم. بل إن مرحلة التشديد على يهودية الدولة العبرية وازدياد الوضوح في التعامل معه على أنه عائق ديموغرافي أمام مشروع التهويد، وخطر ديموغرافي وبالتالي أمني، يدفع الفلسطينيين في الداخل إلى زيادة تمسكهم بهويتهم الوطنية والقومية باعتبارها خط دفاع أساسيًا عن وجودهم وكيانهم كمجموعة متميزة، بل كمجموعة مهددة بالترحيل أو على الأقل بالحصار وباختزال حقوقهم أكثر مما هي مختزلة.

باختصار فإن هذه السياسة الإسرائيلية تزيد وتوثق التقارب بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، ليس فقط على الصعيد الوجداني الذي هو أصلاً موجود، بل على الصعيد السياسي بحيث أصبحت أوساط واسعة منهم تشعر أن وضعها ونظرة الإسرائيليين لهم أكثر شبيهة بإخوانهم في الضفة والقطاع بل أحيانًا أكثر سوءًا، خاصة أن هذا الجزء ليس مطروحًا لا من السلطة الفلسطينية ولا من منظمة التحرير الفلسطينية ولا من المجتمع الدولي كجزء من الحلّ الإقليمي.

ترى ألم يحن الوقت، بعد كل هذا الذي جرى وبعد أن انهارت الأوهام الكبيرة، لإحداث نقلة في التفكير الإستراتيجي لحل القضية الفلسطينية، ولاستراتيجيات النضال وتفعيل كل أجزاء الشعب الفلسطيني تحت مرجعية واحدة، ورؤية سياسية واحدة، وخوض نضال شعبي طويل الأمد في سبيل حل وطني وديمقراطي وإنساني ينصف الجميع؟ ليس المطلوب طرح الرؤية البسيطة لحلّ الدولة الواحدة فقط، بل كيف ننهض بالشارع، كيف نقرب عموم الشعب الفلسطيني إلى رؤية واحدة وتحت سقف واحد؟ يمكن القيام بذلك بدون التنصل من اقتراح حلّ الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، ولكن ليكن هناك فعل منظم وليكن هدف استراتيجي للجميع في نهاية المطاف.

الفلسطينيون في الداخل على سبيل المثال، وضعوا اليوم من جانب الدولة العبرية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تأدية الخدمة المدنية وإعلان الولاء لإسرائيل، وإما اختزال المواطنة أكثر مما هي مختزلة. وهذا يعني أن يبقى العربي الفلسطيني مهمشًا يُحتجز تطوره كفرد وكجماعة، مواجهًا خطر انسداد الأفق أمامهم وما يترتب على ذلك يهدف إلى تنامي حالات العنف الفردي والجماعي الداخلي والإنحلال الأخلاقي. كل ذلك بهدف إشغالهم بقضاياهم الداخلية وإبعادهم عن السياسة وعن النضال ضد المخططات الإسرائيلية.

كما هو معروف وضع مؤسساتهم التمثيلية، القطرية (القومية) والحزبية أفضل نسبيًا من أوضاع الفلسطينيين في الضفة والقطاع والشتات. لدينا مرجعية قطرية واحدة على الأقل هي لجنة المتابعة العربية لشؤون المواطنين العرب، ولدينا تجربة غنية بكيفية مقارعة المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها، وفي كيفية الحفاظ على كياننا الجماعي. وهناك نضالات شعبية تتصاعد، وهناك لجان شعبية ضد هدم البيوت ومصادرة الأرض تظهر بين الآونة والأخرى. ولكن مصادر هذه الأقلية المادية تضمحلّ بسبب الإمعان في نهب الأرض وفي إفقار الناس. والمخططات الإسرائيلية تزداد شراسة، بحيث لا تقوى مؤسساتنا على وقفها أو منعها خاصة فيما يتعلق بهدم البيوت بالجملة. فالتوجه الإسرائيلي الجديد خاصة بعد هبة القدس والأقصى، هو ضمّ هذا الجزء من الشعب الفلسطيني إلى ساحة المواجهة الأمنية. لدى هذا الجزء قدرات وخبرة في الصمود والتحايل على مخططات فرض الولاء ومحاولات تفكيك كياننا الجمعي، ولكن لا شك أن هذا الحصار والعداء إما أنه سيؤدي إلى انفجار شامل أو إنفجارات شعبية بين الحين والآخر أو أنه سيؤدي إلى استنزافنا في قضايا داخلية؛ إما في التعاطي مع قضايا العنف الداخلي، أو في معالجة الهموم اليومية؛ مثل السكن والمعيشة والتعليم.

في ضوء ذلك سيتعيّن على كل القوى المعنية في الداخل الدخول في حوار جدّي حول كيفية تطوير الآليات التي ساهمت في تحقيق إنجازات نوعية هامة، وابتكار آليات جديدة تتصل بالعمل الشعبي المنظم وتنظيم عرب الداخل على أساس قومي، أو المضيّ قدمًا في مواجهة الدولة العبرية في المحافل الدولية والمساهمة الفاعلة والمنهجية في حملات المقاطعة العالمية وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. هذه القضايا تجمع كل الحركات والأطر الفلسطينية في الداخل والخارج.

التعليقات