20/11/2010 - 09:18

ماذا تريد إسرائيل جراء الإلحاح على الاعتراف ب"الدولة اليهودية"؟../ أنطون شلحت

-

ماذا تريد إسرائيل جراء الإلحاح على الاعتراف ب
مع أن مطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة قومية للشعب اليهودي" يستلزم قراءة عربية متعمقة غايتها سبر غور المكنونات التاريخية والسياسية لهذا الاعتراف التي تتكشف شيئاً فشيئاً، منذ أن طرح في سنة 2003 في أثناء لقاء العقبة، واتسم حتى الآن بحدة آخذة في التصاعد. وفي واقع الأمر لم تنعدم قراءات من هذا القبيل، إلا إن القراءات الإسرائيلية بهذا الشأن تنطوي بدورها على أهمية خاصة في السياق نفسه، ذلك بأنها تصب في الغاية ذاتها، وهي كشف تلك المكنونات، أكانت متحمسة لهذا المطلب أو مستأنفة عليه.

وبناء على ذلك فإن هذه المقالة ستتوقف بقدر من التفصيل عند أبرز هذه القراءات، من خلال حقل المعاني الناجم عن محاولة تلمس ما تنضح به من عملية مجاهرة بالخفايا وتحرير للسرائر، وما تنطوي عليه من تيسير تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية عبر توظيف الوقائع الواردة فيها عمداً أو عفو الخاطر.

ولعل أول ما يجدر بنا ملاحظته هو جوهر قراءة "غيورا أيلاند" لهذه المسألة باعتباره أحد أبرز "منظري" الأمن القومي الإسرائيلي في الوقت الحالي، فضلاً عن كونه جنرالاً في الاحتياط ورئيساً سابقاً لكل من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) و"مجلس الأمن القومي الإسرائيلي". فهو يرى أن مطلب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في هذا الخصوص بات شرطاً ضرورياً لإحراز تسوية نهائية مع الفلسطينيين. وفي رأيه فإن ثمة سببين مهمين يقفان وراء ذلك:
الأول مرتبط بالمطلب الإسرائيلي المتعلق بنهاية النزاع ووضع حد للمطالب الفلسطينية في المستقبل، حيث ان الفلسطينيين يميزون بين حقيقة وجود إسرائيل كأمر واقع وبين الاعتراف بأن لها الحق في الوجود. ويظهر أن التيار الموالي لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ليست لديه أي مشكلة بأن يعترف بإسرائيل من ناحية دبلوماسية كي يضمن حصوله على مطالبه منها في الوقت الحالي. أما بالنسبة إلى المستقبل فما من شيء يبدو مضموناً. وما يجب قوله هو أن مصطلح "هدنة" يستند، حتى من ناحية هؤلاء الفلسطينيين، إلى مقاربة فحواها أن من الصحيح التوصل إلى حل وسط مع إسرائيل في الزمن الراهن وتحقيق ما يمكن تحقيقه منها، لكن من دون التخلي عن الكفاح في المستقبل بغية تحقيق ما هو أكثر. وبناء على ذلك فإن الطريق لوضع حد أمام مطالب فلسطينية في المستقبل، وخصوصاً في ما يتعلق بمسألة اللاجئين، كامنة في انتزاع التزام فلسطيني فحواه قبول حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية. في الوقت نفسه ثمة مصلحة كبيرة في أن يشمل اعتراف الدول العربية بإسرائيل لاحقاً، وفقاً لـ"مبادرة السلام العربية"، اعترافاً بالحق في وجود دولة يهودية هنا.

أما السبب الثاني فإنه مرتبط بمكانة الفلسطينيين في إسرائيل، ذلك بأن هؤلاء في معظمهم يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تكون "دولة جميع مواطنيها"، ولذا فلا حاجة لأن تبقى متمسكة بطابعها اليهودي القومي. وإذا لم تعترف الدولة الفلسطينية التي ستقام بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، فإن احتمال تسليم الفلسطينيين في إسرائيل بذلك سيبقى ضئيلاً للغاية، وإذا لم تصرّ هذه الأخيرة على ذلك الآن يمكن، بعد جيل واحد أو جيلين، أن تلقى نفسها في خضم وضع يطالب فيه الفلسطينيون في إسرائيل (وربما بواسطة اللجوء إلى العنف) بالحصول على حقوق قومية متساوية. ولا شك في أن الدولة الفلسطينية ستؤيد مثل هذا المطلب تلقائياً، بل حتى سترى فيه ذريعة كافية لخرق اتفاق السلام مع إسرائيل. وعليه فإن الطريق لكبح هذا الخطر، أو على الأقل لإيجاد وضع تحظى فيه إسرائيل بتأييد دول العالم، كامنة في أن يكون واضحاً من خلال اتفاق الجميع على أنها الدولة القومية للشعب اليهودي.
 
من ناحية الوقائع الجافة فإن عملية "ترسيخ الدولة اليهودية" كمفهوم في الحلبة الدولية أخذت بُعداً واسعاً في مؤتمر أنابوليس الذي عُقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007. وثمة من يرى أن إيهود أولمرت هو أول رئيس حكومة إسرائيلية يطرح علناً، بصورة حادة وواضحة للغاية، مطلب الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي، في حين جرت العادة على أن يتم الاكتفاء بمقولة "دولتين لشعبين" من دون تحديد أن الحديث يدور على الشعب اليهودي.

في حينه رأى الباحث الإسرائيلي عاموس غلبواع (من "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب) أن التطرّق إلى الدولة اليهودية في البيانات والقرارات الملزمة هو أمر نادر. ومنذ القرار رقم 242، الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، والذي يشكل حتى الآن القاعدة الدولية الرئيسية لأي تسوية إسرائيلية ـ عربية، فإن جميع الصياغات تتكلم على "الاعتراف بوجود دولة إسرائيل" أو "الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود" من دون الإشارة إلى أن الحديث يدور على دولة يهودية أو على دولة الشعب اليهودي. وهذا الأمر ينطبق على اتفاقيتي السلام بين إسرائيل وبين مصر والأردن، وعلى اتفاقات أوسلو المختلفة (وأيضاً على خطة خريطة الطريق). وقد كان الرئيس جورج بوش هو أول مسؤول أميركي رفيع المستوى يقرّ، على نحو واضح وعلني، خلال قمة العقبة سنة 2003، أن "من شأن قيام دولة فلسطينية ديموقراطية تعيش في سلام كامل مع إسرائيل أن يدفع قدماً أمن دولة إسرائيل وازدهارها باعتبارها دولة يهودية".

ويؤكد غلبواع أن هناك بضعة أسباب تقف خلف عدم استعداد الدول العربية والفلسطينيين (ومعهم بضعة يهود إسرائيليين) للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي. من هذه الأسباب أن اعترافاً كهذا يعني عملياً التنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى إسرائيل. وهناك سبب آخر هو "الفلسطينيون العرب مواطنو دولة إسرائيل"، إذ أن قياداتهم تعلن على رؤوس الأشهاد أنها لا تعترف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، وبحسب رأيها فإن إسرائيل هي دولة ثنائية القومية.

ولا بد من الإشارة إلى أن موقف أولمرت، خلال مؤتمر أنابوليس، وأساساً إزاء الحصول على الاعتراف بأن إسرائيل هي "دولة الشعب اليهودي"، كان متطابقاً مع موقف وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس حزب العمل، إيهود باراك. أما خليفة أولمرت في رئاسة حزب كاديما، وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، فإن موقفها يتلخص في اعتبار تكريس إسرائيل كـ"دولة يهودية" الهدف الأعلى لسياستها الخارجية والداخلية في الوقت الحالي، ويتعين أن تكون مبادئ تلك السياسة مشتقة من هذا الهدف.

كما كان لافتاً أن مسألة هذا الاعتراف تصدرت جدول أعمال المعلقين وأصحاب الأعمدة الصحافية الإسرائيليين في الأيام التي سبقت عقد ذلك المؤتمر. بل إن أحد هؤلاء، وهو بن درور يميني، محرر صفحة الرأي في صحيفة "معاريف"، أكد أنها يجب أن تكون القضية الرئيسية للمؤتمر نظراً لما تعنيه من "معركة على شرعية إسرائيل". وكتب يميني في هذا الصدد يقول: "سيكون مؤتمر أنابوليس حلبة صراع على شرعية إسرائيل. ولذا على إسرائيل أن تقول نعم لوقف الاحتلال ونعم لدولة فلسطينية ونعم لحل مشكلة اللاجئين بصورة عادلة. لكن الفلسطينيين يقولون لا منذ الآن، فقد أوضحوا أنهم يعارضون صيغة دولتين لشعبين وأنهم مستعدون لصيغة دولتين فقط، أي دولة فلسطينية على نحو مباشر الآن، ودولة فلسطينية أخرى بعد تطبيق حق العودة".

أما يهودا بن مائير، الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب والنائب الأسبق لوزير الخارجية الإسرائيلية، فكتب: تقول تقارير صحافية إن الفلسطينيين يعارضون صيغة دولتين لشعبين في أي تسوية مستقبلية مع إسرائيل ويصرون على تأييد صيغة دولتين فقط.
 
إن الحديث هنا يدور على لبّ النزاع لا على مجرّد مناقشة تتعلق بالصياغة أو بالكلمات. إذا كان هناك موضوع لا يجوز لإسرائيل أن تتنازل فيه أو حتى أن تتجادل بشأنه، تحت أي ظرف وفي أي حال، فهو هذا الموضوع لأنه يتعلق بوجودنا الحقيقي. هناك قدر كبير من الاستعداد لتقديم التنازلات لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل، غير أن هذا الاستعداد كله مبني على رغبة هذا الجمهور القوية في إنهاء النزاع وضمان وجود إسرائيل كدولة يهودية. وقد أثبت بحث معمّق أجراه معهد دراسات الأمن القومي في آذار/ مارس 2007 أن 63 في المئة من السكان اليهود البالغين في إسرائيل يؤيدون حلّ دولتين لشعبين. لكن ما دامت القيادة الفلسطينية ترفض الاعتراف بصورة واضحة بدولة إسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي فلن يكون هناك حلّ للنزاع. إن إعلان دولة إسرائيل، بصورة واضحة، عن تأييد الحق في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على الغالبية الساحقة من أراضي الضفة الغربية وجميع أراضي قطاع غزة وحتى على أراضي الأحياء العربية في شمال القدس الشرقية وجنوبها، هو تنازل تاريخي مهم وذو دلالة. لكن لا يجوز للشعب اليهودي أن يقدم على هذا التنازل إذا لم يترافق مع إعلان فلسطيني واضح غير قابل للتأويل بأن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي. إن قبول صيغة دولتين لشعبين ينطوي أيضاً على حلّ لقضية حق العودة أو مشكلة اللاجئين، إذ إنه ليس في وسع الفلسطينيين أن يتنازلوا عن هذا الحق في الظروف الراهنة.

طبعاً لم يكن من الصعوبة التقويم بأن هذا المسار الإسرائيلي جاء، في الأساس، في ضوء ثلاثة تطورات جوهرية، جعلت المؤسسة السياسية الإسرائيلية تركز، أكثر شيء، على غاية "ترسيخ الدولة اليهودية" (حتى إشعار آخر، كي لا نقول حتى إنجاز هذه الغاية). وهذه التطورات هي:

1 ـ وجود ظروف دولية مؤاتية لفرض هذه الغاية على جدول أعمال العالم، من خلال الاستعانة بصورة رئيسية بإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش؛
2 ـ تواتر محاولات ابتزاز الجانب الفلسطيني المنخرط في عملية التسوية، من خلال تجييش الانقسام الحاصل في ساحة العمل الفلسطيني الوطني والخلافات الحادة على صعيد العمل العربي المشترك؛
3 ـ تحدي المواطنين الفلسطينيين في الداخل لطابع إسرائيل اليهودي، الذي اتخذ أبعاداً جديدة خلال تلك الفترة تتمثل في ما عُرف باسم مبادرات الرؤى المستقبلية التي صدرت خلال سنتي 2006 و2007.

غير أن ما يتعين الإشارة إليه، وهو أمر لم تهمله القراءات الإسرائيلية التي استأنفت على هذا المطلب، هو أنه باستثناء زعيق زعماء إسرائيل في هذا الشأن، فإن ذكر الدولة اليهودية ورد مرة واحدة في قرار الأمم المتحدة رقم 181 (قرار التقسيم) الذي نص في حينه (في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947) على تقسيم فلسطين إلى ثلاث دول: دولة يهودية ودولة عربية و"دولة القدس". لكن لا بد من رؤية حقيقية أن هناك بوناً شاسعاً بين مصطلح "دولة يهودية" ومصطلح "دولة قومية للشعب اليهودي"، ذلك بأن الأول يعني دولة لليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين في حين أن الثاني يفترض أن تكون هذه الدولة لليهود في العالم كافة.

لا توجد دولة واحدة في العالم تعترف بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وعلى ما يبدو لن تكون هناك أي دولة في العالم يمكن أن تقدم على مثل هذا الاعتراف في المستقبل. وبالتالي فإن مطلب إسرائيل في هذا الشأن ينطوي في العمق على دلالة نصب فخ قاتل للجانب الفلسطيني اللاهث وراء التسوية علّ وعسى أن يكون نقطة عمياء أخرى من جملة نقاط عمياء تهيئ الظروف لأن يقع فيه ويوفر بذلك مكسباً سياسياً عظيم الأهمية لا للدولة الإسرائيلية فحسب، وإنما للمشروع الصهيوني برمته ضمن محاولاته الرامية إلى انتزاع شرعيته المفقودة التي لم تنقطع يوماً منذ بدء تطبيقه.

التعليقات