26/11/2010 - 11:35

نظرة على تاريخ العلاقة النضالية بين الشمال والنقب../ عبد الكريم عتايقة*

-

نظرة على تاريخ العلاقة النضالية بين الشمال والنقب../ عبد الكريم عتايقة*
منذ انتهاء فترة الحكم العسكري على الجماهير العربية عام 1966 الذي قيّد حرية التنقل والحركة وقمع العمل السياسي، لم تتوقف السلطات الاسرائيلية عن جرائمها تجاه المواطنين العرب في النقب، وممارسة أبشع الجرائم بحقهم، وذلك من خلال المصادرة والمضايقات المتواصلة. ولكن في فترة السبعينيات، ما بعد يوم الأرض، بدأت تتبلور حالة وطنية شبه منظمة جديدة في هذا الجزء من الوطن. وكان لدور التعليم قسط في رفع مستوى الوعي السياسي. جاء ذلك بعيد الانفتاح النسبي وحرية التنقل للجماهير العربية في البلاد، حيث بدأ عدد كبير من الطلاب العرب من أبناء النقب يتوجهون في بداية السبعينيات لإتمام دراستهم الثانوية في مناطق المثلث والجليل وذلك لانعدام المدارس الثانوية في النقب .
 
وكان التحول الآخر الهام الكبير عندما وصل طلاب من قرى ومدن الجليل والمثلث لتلقي تعليمهم الجامعي في جامعة بئر السبع في أواسط السبعينيات. كانت لدى بعض هؤلاء الطلبة مشاعر وطنية قوية وطاقات وإرادة للعمل والعطاء. وقد أحزنهم مشاهدة الأوضاع المزرية التي يعانيها أبناء المنطقة من سياسات ظالمة وقاهرة، ورأوا فيها امتدادا لنفس السياسات، بل أكثر وحشية، المعتمدة في الجليل والمثلث. من هنا بدأ طلاب الجامعة العرب بالتفكير بالمبادرة للعمل على تعزيز وبلورة الهوية العربية الوطنية والقومية للطلاب العرب في الجامعة بما فيهم طلاب النقب، وكان من أبرز الطلاب في تلك الفترة السيد عوض عبد الفتاح وصالح نجيدات وسليمان أبو ارشيد وميسرة السيّد الذين عملوا كمجموعة وطنية مستقلة عن طلاب جبهة الطلاب العرب (الحزب الشيوعي الاسرائيلي) التي كان من أبرز قادتها ابن النقب شحدة بن بري، وابن المثلث ثابت أبو راس، هذه المجموعة من أبناء الجليل التي لم تتفق سياسيًا مع الجبهة فكرا وبرنامجا ولكنها حافظت على علاقة احترام مع قادتها، بادرت إلى تنظيم ومحاولة إقامة لجنة من مشايخ القبائل للدفاع عن الأرض.
 
وقد جاب أعضاء هذه المجموعة في نهاية كل أسبوع (أيام العطل الدراسية) مضارب عرب النقب وصولاً إلى عقد اجتماع لشخصيات وشيوخ زاد عددهم في تلك الفترة عن 60 شخصية تمّ تجنيدها في تلك الفتره رغم الظروف الصعبة التي كان يعانيها الطلاب. وقد استمع وأصغى شيوخ القبائل لهؤلاء الشباب لأنهم ظهروا أمامهم كقادة وصادقين، وهو أمر لم يكن مألوفًا آنذاك، أن يستمع الشيوخ للشباب. ولكن يبدو أن الظروف في النقب لم تكن ناضجة بعد لإنجاح هذه المبادرة إذ أن العنصر الشاب من أهل النقب كان غائبًا بسبب التأثير الكبير لشيوخ القبائل. ولكن في السنوات التي تلت بدأت أفواج الخريجين من أبناء النقب تعكس تأثيرها على المستوى الميداني والجماهيري والثقافي فتشكلت الهيئات واللجان والجمعيات المختلفة. وحلّ هؤلاء محلّ المشايخ في حمل راية التصدّي المنظم أو شبه المنظم لمخططات الدولة.
 
حتى تلك اللحظة، مثلت تلك الأنشطة الوطنية انعكاسا لمبادرات واعية ومؤثرة ولكنها بقيت غير مؤطرة تنظيميا وينقصها التواصل الفكري والميداني مع التيار الوطني الرئيسي والممثل وقتها بحركة أبناء البلد. في أواخر السبعينات (وتحديدا بداية 1979) توجت تلك الجهود بتشكيل الفرع الطلابي لحركة أبناء البلد بمبادرة من الدكتور عمر سعيد حيث كان الكادر المنظم (حركة أبناء البلد) الأول في الجامعة، وبهذا التطور الهام انتقلت الحركة الوطنية الطلابية إلى مرحلة التوسع والتأثير المدروس, وباتت تمتلك رؤية نضالية أكثر انسجاما مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعا نضاليا بديلا عما كان سائدا. لقد لعبت تلك المجموعة دورا رئيسيا في ترسيخ أقدام الحركة الوطنية في النقب سواء كان ذلك في التثقيف الوطني والتحريض والتواصل النضالي أو من حيث استقطاب كوادر محلية بارزة ما زالت تؤدي دورا نضاليا هاما حتى هذه اللحظة. وليس من قبيل الصدفة أن تستخدم المخابرات سلاح الاقامات الجبرية بصورة واسعة لإبعادهم عن النقب حيث صدر ضد عمر سعيد عشرة أوامر في الإقامة الجبرية المتواصلة (خمس سنوات).
 
لم تتوقف الحركة الطلابية الوطنية عند تلك المبادرة بل واصلت تطوّرها في الجامعة في بئرالسبع وتم ربط علاقات جيدة مع طلاب عرب من النقب والذين التحقوا بالجامعة خاصة بعد تبلورت. وكان الامتحان الفعلي الأول لهذا التفاعل الميداني بين أبناء الشمال وأهل النقب هو عندما أقدمت السلطات في سنة 1979 على تجريف الأشجار في قرية اللقية لعائلة أبو قرن ومحاولة هدم بيوت. فعند وصول الأنباء عن المواجهات على أرض القرية تجنّد طلاب الحركة الوطنية للدفاع عن بيوت وأشجار أبو قرن وشارك العديد منهم في التصدي للجرافات وقوات الشرطة التي كانت تحميها. ولم تتوقع السلطات تلك المواجهة إذ فوجئت من ردة الفعل الشعبية التي استمرت ثلاثة أيام، ولم تستطع الدولة هدم أي منزل، وكان ذلك بفضل صمود أهالي اللقية في الأساس ومعهم طلاب من الشمال. من أبناء الحركة الوطنية. عندها تم اعتقال عدد من أبناء الحركة الوطنية وهم عوض عبد الفتاح وصالح نجيدات ونواف مطر، والاعتداء عليهم كونهم من الشمال واعتبرتهم أجهزة المخابرات في تلك الفتره محرضين وغير ذلك من تهم.
كما اعتقل العشرات من الطلاب العرب في اليوم الثاني من ساحة الجامعة بحجة التظاهر غير القانوني احتجاجًا على هذا الاعتداء.
 
لم ترتدع الحركة الوطنية الطلابية في تلك الفترة، بل واصلت عملها رغم ملاحقتها من قبل أجهزة المخابرات وعملائها. وكانت المفاجأه الأخرى للمؤسسة الاسرائيلية عندما خرج الطلاب في المدرسة الثانوية (مدينة رهط) بمظاهرة ضد اتفاقية كامب ديفيد التي وقعت بين النظام المصري وإسرائيل عام 1979. عندها كان السيد عوض عبد الفتاح معلم جديد للغة الانجليزية في هذه المدرسة، في عامه الأخير من الدراسة الجامعية – 1979 وعلى أثرها تم فصله من التعليم  بحجة التحريض، بعد ثلاثة أشهر من بدء عمله.
 
إن تواجد ابناء الحركة الوطنية ودورهم البارز ترك بذورا قوية تتمثل بالكوادر الكثيرة القادرة على حمل الرسالة حيث تجند طلابها للدفاع عن أهالي تل الملح والتي تعرضت للمصادرة لإقامة مطار على أراضيها، وتم اعتقال عدد كبير في تلك الفترة من صفوف طلاب الحركة الوطنية.
 
وفي سنة 1982 عندما أقدمت إسرائيل على غزوها للبنان وعدوانها على مخيمات الفلسطينيين خرج أهالي رهط شيبًا وشبانًا بقيادة الحركة الطلابية ومجلس الثانوية الذي شكلته الحركة الوطنية في الجامعة (أبناء البلد) وبلورته كجسم يمثل الطلاب في ثانوية رهط. وكانت هذة المظاهرة من أكبر المظاهرات التي شهدها النقب منذ قيام إسرائيل، ولم تكن هذه المظاهرة بالنسبة للمخابرات والدولة مظاهرة عادية بل رأت فيها تطورًا خطيرًا لدور الحركة الوطنية، وتم اعتقال عدد من طلاب الجامعة ومنهم الدكتور عمر سعيد الناشط والقيادي آنذاك في فرع حركة أبناء البلد في الجامعة. والذي كان له دور بارز في قيادة هذه المظاهرة وأيضًا محمود الأديب إغبارية وغيرهم من طلاب الجامعة.
 
إن عطاء أبناء الحركة الوطنية لم يتوقف تجاه قضايا عرب النقب بل تواصل على مدار السنين اللاحقة مثلاً فإن عوض عبد الفتاح ظل يتردّد على النقب ويتواصل مع قضاياه، سواء عندما أصبح قياديًا في حركة أبناء البلد أو في حزب التجمع الوطني، كما أن للسيد خالد خليل وهو من أبناء الحركة الوطنية دور كبير في قضية القرى غير المعترف بها، وعمل لمدة عشر سنوات (منذ بداية التسعينيات) على تنظيم أهالي هذه القرى من خلال مؤسسة لجنة الأربعين وبالترابط مع موظفيها ونشطائها في النقب.
 
إننا نشهد على الدور المميز للحركة الوطنية والتي عملت بما يمليه عليها واجبها إلا أن بعض الأحزاب والتيارات التي أعادت اكتشاف النقب مؤخرًا ووجدت بأنها قصرت بحق هذه المنطقة وهي تعترف بذلك علنًا وتعمل الآن بتنشيط وأخذ دورها فنحن نقول إن الساحة مفتوحة للعمل للجميع ومن يرى أنه أخفق بالماضي لا بأس أن يشمّر عن سواعده ويعمل مع من كانوا وما زالوا يعملون. ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أن ما يجب أن يحفزنا ليس الأصوات لانتخابات الكنيست بل الدافع الوطني والإنساني. لقد ناضل ابناء الحركة الوطنية طيلة العقود الماضية بدافع الاهتمام الوطني، وأما الأصوات فهي تحصيل حاصل.
 
كلمة أخيرة
 
لا شك أن معركة النقب هي معركة كل المواطنين العرب في البلاد، وهي معركة صعبة جدًا، وتحتاج إلى جهد أكبر وتنظيم أرقى ومزيد من التفاعل بين الشمال والجنوب بين جميع أهالي البلاد العرب للتصدي للمخططات الاسرائيلية الخطيرة. لا بدّ أن نفكر مجددًا في كيفية تطوير النضال الشعبي. وأن نطوّر نموذج العراقيب بقيادة الشيخ أبو صياح الطوري، وهو النموذج الذي يجب أن يكون في كل مكان. ولا بد في الخاتمة أن أشير إلى أن ما يحصل في العراقيب هو ما يحصل من هدم واعتداء هو ما يجري في مناطق وقرى عديدة في النقب وهناك أيضًا صمود أسطوري على الأرض وإن كان الإعلام لا يفي حق تلك القرى الصامدة بأهلها – شبابها وشيوخها ونسائها.
 
عبد الكريم عتايقة – عضو اللجنة المركزية للتجمع-النقب، وناشط في الحركة الوطنية منذ أواخر السبعينيات.

التعليقات