24/12/2010 - 11:39

الغيتو الكبير والخروج منه../ الفضل شلق

-

الغيتو الكبير والخروج منه../ الفضل شلق

يتوسّط بحرنا المتوسط المجال الغربي - الشرقي ثقافياً، لكن القسمة الجغرافية هي شمالية جنوبية. أما القسمة السياسية - العسكرية فهي حرب الإرهاب. يتوسط البحر المتوسط مناطق تضم بحوراً أخرى شبه مغلقة مثل البحر الأسود والخليج العربي والبحر الأحمر.

الدول على الجانب الشمالي الأوروبي، قديمة بضعة قرون في معظمها وثابتة الحدود. الدول على الجانب الجنوبي حديثة مشتقة من الدولة العثمانية والاتفاقيات السرية للدول الكبرى الأوروبية في مؤتمر فرساي، تطبيقاً لاتفاقات سايكس بيكو السرية عام 1917، وتطبيقاً لوعد بلفور في الوقت نفسه. خاضت كل من دول جنوب المتوسط حرباً من أجل الاستقلال على دولة أوروبية؛ وهي الآن تتعرض للانحلال والتفكّك، سواء عن طريق مؤامرات أو لأسباب داخلية. دول أوروبا تصيبها أزمة مالية نتيجة تطورّها أو تقدمها أو «نموها». يصل بين هذه الدول بحر زاخر بالتاريخ، ويفصل بينها وبينه حاجز (بل حواجز) أيديولوجية وثقافية. الأزمة بينهما لا تُحل بما هو متداول من «شراكات» وما يشبه ذلك.

تنشئ كل حضارة أو ثقافة "الآخر" لها؛ تُظهر نفسها من خلال إنشاء "الآخر"، إذ تضع في "الآخر" كل ما لا تريده لنفسها. جعلت الحضارة الغربية اليهود "آخر" لها وطردتهم منها عقب الحرب العالمية الثانية، ولم تستقبلهم أميركا؛ كان عليهم أن يؤدوا مهمة، وهي أن ينشئوا إسرائيل في فلسطين، في قلب الأمة العربية. طردت أوروبا من عندها كل ما يتعلق بالجشع والتآمر وكل ما يتعارض مع الحداثة وما بعد الحداثة ووضعتها في إسرائيل الضعيفة، داوود الذي يغلب غوليات (العرب). ووضعت إسرائيل الإرهابية كل صفات الإرهاب عند العرب والمسلمين لتحويل الوعي الإسلامي إلى غيتو ذهني يعيشه كل عربي مسلم في كل بلدانه وأصقاعه. لا يخلو بلد عربي من شعار يكون فيه دين الدولة الإسلام، كأنّ إسلامية الدولة الإسلامية ضرورية من أجل يهودية الدولة اليهودية. كان ضياع بل تشتت الوعي العربي ضرورة قصوى من أجل تطهير الوعي الإسرائيلي.

انتهت المواجهة إلى ثنائية الإمبراطورية ضد أمة العرب والمسلمين، وما على أوروبا وإسرائيل إلا مؤازرة الإمبراطورية الأميركية وحلف الأطلسي في حربه ضد الأمة. أنهت الامبراطورية تطيرهما عن طريق العملية الثلاثية ووضعت كل الصفات غير المرغوبة في الإسلام؛ وجعلت الإسلام موضوع الحرب، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعدم الحاجة للإسلام لأن يكون بجانب الإمبراطورية كما في أفغانستان في مواجهة العدو الأكبر الشيوعية. لما انهار الاتحاد السوفياتي، لم يعد إلا الإرهاب متماهياً مع العرب والإسلام هدفاً للحرب. صار العرب هدفاً للحرب باسم الإرهاب. استفاق العرب على هذا الأمر متأخرين، وكان ذلك من العوامل الإضافية في تشتيت الوعي. لم ينقص العرب والمسلمين ما يحرّكهم، لكن المطلوب منهم الآن هو أن يتحرك عدد منهم (قاعدة أو غير قاعدة في حرب الإرهاب) من أجل أن تستطيع الإمبراطورية جني الأرباح العسكرية والنفطية لإعادة توزيعها على العالم.

عاد البحر المتوسط مغلقاً. ما زالت السفن تمخر عبابه للتجارة ونقل البضائع، لكن العقل، الوعي، الذي يترافق مع ذلك من الجانب العربي هو وعي مأزوم، والبلدان العربية في مأزق بأجمعها أو معظمها وبعضها يتفكك وبعضها في طريق التفكيك، وقد فعل التفكيك فعلاً في الفكر والعمل الذهني. والإحساس بتشتت الوعي وبأن الحرب تخاض بشكل غير متكافئ بين جيوش نظامية إمبراطورية وخلايا غير نظامية سرية.

في الثلاثية الأوروبية ـ اليهودية ـ العربية، نرى أوروبا هي الرابحة ويخوض طرفا المثلث الآخران حرباً بعد حرب، ويبدوان كالبلهاء لا يستطيعان حل مشاكلهما التي تستحق كل هذا العناء، ولا تستحق كل هذا الاهتمام. لم تعد أوروبا بحاجة الى حروب صليبية، صارت تستغني عنها، والصليبية يقوم بها اليهود رافعين علم داود. تربح أوروبا اذ ترى شريكي المثلث يطهرانها ويمارسان كل صفاتها غير المرغوبة فيها. وهما، بالإضافة الى ذلك، يفيدانها مادياً اذ يشترون كميات سلاح كبيرة غير مجدية وتؤمن حروبهما تدفق البترول الذي تحتاج اليه أوروبا.

في هذه العملية الرابح الأكبر هو الإمبراطورية القوية الأميركية التي كان كل طرف من أطراف المثلث نقيضاً أو ذاتاً لها: أوروبا القديمة المريضة، إسرائيل الجشعة المتآمرة، أمة العرب والمسلمين الإرهابية. الإرهاب عنوان المرحلة العالمية. تخوض الإمبراطورية حرباً عالمية ضد الإرهاب بعد أن طهرت نفسها من ترهل أوروبا التي لا تعرف ما يطلب منها في قوات الأطلسي؛ وإسرائيل الجشعة التي تبدو دائماً مستعدة لحروب لا تريدها أميركا إلا على المدى الطويل؛ وإسلام العروبة الذي يمثل الإرهاب بكل أشكاله وصوره. تجد الإمبراطورية أنّ هذا الإرهاب الإسلامي يحتاج إلى معالجة خاصة فتنشأ محاكم خاصة لتفكيك الدول، وحروب خاصة للإحتلال وتفكيك دول المنطقة؛ كما تحتاج إلى إعادة ترتيب المنطقة في شرق أوسط جديد يحصر من العروبة.

ما عاد البحر المتوسط منفتحاً تجوب آفاقه سفن تحمل أفكاراً إضافة إلى البضائع المتنوعة؛ ما عاد صلة وصل بين حضارات متنوعة بعد إغلاق الوعي الإسلامي.

كل ذلك يعقد الأمور ويسهلها في آن معاً. التعقيد في المثلث الأوروبي - اليهودي - العربي لم يعد مهماً، إذ أن نزول الإمبراطورية الأميركية إلى الساحة جعل من السهل عليها إدخال أوروبا وإسرائيل تحت اللواء الأميركي في حرب الإرهاب من أجل تفكيك بلدان المنطقة وإعادة ترتيبها في دول «حديثة ديمقراطية ليبرالية»، الخ.

العدة الفكرية عند الغرب سواء كان أوروبياً أو أميركياً أو إسرائيلياً موجودة: مراكز البحث كثيرة، وهم يستخدمون أفضل باحثيهم فيها، أما عدة العرب الثقافية فهي عروبة ليس لها فكرة صاغتها نخبة عارفة (على قلة هؤلاء)؛ هي أمة متشتت وعيها تحتاج أكثر ما تحتاج إلى نخبة ثقافية ـ عسكرية - ثقافية - سياسية واعية تستطيع أن توحد وتخطط ولو على صعيد الدول، من أجل بناء منظومة عربية قوية. ولا يقوى مجتمع إلا بقدرته على الإنتاج الحقيقي في الزراعة والصناعة، مجتمع يعمل في الاقتصاد والحقيقي لا في بورصات المال حيث يمكن أن يربح ويخسر؛ ولكنه في غالب الأحيان يخسر. من مظاهر تشتت وعي الأمة أنّها تبدد أموال البترول وتستخدم أموال السلاح لإنشاء منشآت مكشوفة، وتستخدم سلاحاً ليس له فعالية ولا أسرار.

لا تستطيع النخب العربية الجديدة أن تستعيد جديتها إلا بأن تستعيد الأمة لتصير الأمة سواء كانت قومية أو غير قومية، أمة ناس لهم حقوقهم واحترامهم التي يجب أن تفرض على كل حاكم عربي، بأن تستعيد موقفها من المنظومة العربية لتفرض على الدول العربية أن تلتزم بشعوبها، بعملية الإنتاج، إنتاج السلع لبناء مجتمعات متماسكة تتلافى الحروب الأهلية، وتحقق التفاهم بين قوى عربية وإسلامية هي في الأصل غير مختلفة، ولا يجب أن تكون مختلفة.

تحتاج الإمبراطورية إلى حرب الإرهاب العالمية لتبرير حروبها ضد المنظمات الإرهابية. يبدأ الوعي العربي بنبذ الإرهاب. الإرهاب لن يحقق شيئاً من مطالب العرب بل سيجعل منهم فقط هدفاً لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

الحل عند العرب هو الدولة التنموية، التي لا يمنع أن تكون إسلامية لوضع حد لامتناع الإسلاميين. الدولة التنموية هي الوحيدة التي تساهم في إيجاد مجتمعات متماسكة، والنمو الاقتصادي يجب أن يكون هو المطلب الذي يطرح في كل قطر عربي.

مشكلتنا مع الإسلام السياسي الراهن هو أنه إسلام مأزوم، مستورد من شرق آسيا، هو غير الإسلام الذي تعودنا عليه في منطقتنا العربية. يجب أن تحل مشكلتنا مع هذا الإسلام. عندها فقط نستطيع الجلوس مع أوروبا كأنداد، وعندها نواجه إسرائيل مواجهة تجعل إسرائيل تطلب الإحالة إلى دولة عربية، وعندها فقط يصير للعرب اليد الطولى في فرض مسار الأمة.

يمكننا حل النزاعات والصراعات العربية الإسرائيلية بخوض صراعات متكافئة القوة والعدد. عندها لا يعود لإسرائيل وجود وعندها يفتح العقل العربي ويتعامل مع دول أوروبا والإمبراطورية تعامل الند للند. عندها تستعيد الأمة زخمها وقوتها وتفرض حلولها وتقرّر مصيرها، وتنتقل من مرحلة الى أخرى، ويعود البحر المتوسط من بحر منغلق إلى بحر مفتوح وتصبح الشراكة ضرورية. لا شراكة أقطار كل على حدة، بل شراكة لأمة، لكيان موجود ومتطوّر ويحمل كل عدة المواجهة دون خوف أو وجل. سيضطر يهود اسرائيل إلى القبول بدولة واحدة في فلسطين.

نستطيع المواجهة شرط توفر شروط المواجهة والشروط تبدأ بالوعي والأفكار والبرامج.
"السفير"
 

التعليقات