06/01/2011 - 11:31

دفاعا عن التخلف والتعصب../ نصري الصايغ

-

دفاعا عن التخلف والتعصب../ نصري الصايغ


I ـ شياطين الديانات وأبالسة المذاهب

جريمة الاعتداء على كنيسة القديسين في الاسكندرية تسأل العاقل: ماذا بعد؟ من بعد؟ أي معبد هو التالي؟ أية مجموعة هي الضحية القادمة؟ هل تصل موجات التفجير إلى لبنان؟

هذه جريمة متصلة بما قبلها، وتوسع الطريق لما بعدها، وهنا موطئ الكارثة. فالأمة كلها، مثقلة بهاجس "شياطين الديانات" و"أبالسة المذاهب"، وأبوابها مشرعة على العنف، والحلول مغيَّبة، لا غائبة.

تبارى «الخيِّرون» (بلغة الدين) في استنكار الجريمة. حاول النظام المصري أن يغسل يديه. وسائل الاعلام الرسمية حرفت المسؤولية. اتهمت «الأجانب». من هم هؤلاء الأجانب الناطقون بلغة الضاد، ومذاهب الضاد؟ أصوات الأحزاب والقيادات لعلعت واستنكرت واستفظعت. أصوات الأقباط حطت في قبضات المصلين، وراحت تنتقم لضحاياها من أبرياء، وصبت غضبها على شرطة، فقدت شروط الحماية، عندما تخصصت بشروط القمع.

وتفتقت عبقرية «إسلاميين معتدلين» بالرد على المجزرة: «ان تهنئة المسيحي في وقتنا الحالي أمر واجب» (التهنئة بعيد الميلاد). وأفتى علماء ازهريون، «بأن البر واجب مع غير المسلم»، فلا مانع من تهنئة الأقباط بالعام الجديد، «فاستحسن» الدكتور أحمد كريمة، استاذ الفقه في جامعة الأزهر، «تهنئة المسلم لغير المسلم، خاصة المسيحيين، فالأصل فيها الجواز». (أين نحن يا قوم؟) وأيّد «استحسانه» بعدد من الآيات وبوصية الرسول: «ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيراً، فإن لكم منهم ذمة ورحماً». ورفض قول الغلاة من المسلمين المتشددين، وقال ان هؤلاء لا يمثلون صحيح الإسلام، فمن يمنع التهنئة للأقباط دعاة فتنة.

و«استحسن» الدكتور مصطفى الشكعة، عضو مجمع البحوث الاسلامية تهنئة المسيحيين في العيد... ومن ثم لا بد من أن نجاملهم، «فهذا من الاسلام، وخاصة اننا شعب واحد، وكلنا متشابهون». وانضمت إلى لائحة «الاستحسان» بالتهنئة الدكتورة آمنة نصير، استاذة العقيدة في جامعة الأزهر، محذرة من الاستماع إلى الفضائيات التي عاثت فساداً في عقلية الشعب المصري، وكذلك استحسن الدكتور أحمد السايح الاستاذ في الأزهر والدكتور حامد أبو طالب عضو مجمع البحوث العلمية.

II ـ يا نعيش سوا... يا نموت سوا

هل هذا يكفي؟ هل الاستحسان أقصى ما نصل إليه؟
يبدو أن الخوف من المستقبل وعليه، لا تطمئنه هذه الأقوال، التي لم تجترح إلا ما هو دون العادي. وأفضل مما قام به هؤلاء «العلماء»، هبة الأبرياء المصريين المسلمين، الذين قادهم احساسهم بحجم الكارثة، إلى اطلاق شعار: «يا نعيش سوا... يا نموت سوا».

هذا الموقف الشعبي من شبان مصر، الذين أفتى لهم عقلهم وقلبهم وإنسانيتهم ومصريتهم ووطنيتهم، بأن يدعوا إلى تأليف "دروع إسلامية تحمي كنائس مصر".

أفضل من فتاوى أهل العلم وأهل المجالس الدينية العليا، دعوة عدد من شباب مصر وشاباتها إلى «وقفة صامتة بالملابس السوداء حداداً على ضحايا الارهاب». وانضم حوالى ستة آلاف مواطن مصري (من المسلمين) «إلى الوقوف في اليوم السابع من كانون الثاني/ يناير (عيد الميلاد وفق التقويم الشرقي) في تمام الساعة الرابعة على كل كورنيش للنيل في جميع انحاء مصر، وحددت أماكن الوقفة الصامتة، تضامناً مع ضحايا حادثة الكنيستين». كما انضم أكثر من 5 آلاف مؤيد إلى حملة «الوقوف بالشموع والورود أمام الكنيسة، بعد صلاة الميلاد.

المواطنون المصريون الطيبيون، خميرة مصر الدائمة وضميرها الإنساني والقومي والوطني، أملى عليهم واجبهم وانتماؤهم والتزامهم، فعلاً استثنائياً توحيدياً، لإحباط الفتنة. ولم يكتفوا بـ:"يستحسن".

III ـ مصر بألف خير لولا...

مصر هذه بألف خير. مصر النظام، ليست كذلك. لقد سقط هذا النظام مراراً وتكراراً. أما سقطته المريعة، فهي في عدم قدرته على المحافظة على وحدة الشعب المصري راهناً، وعدم استطاعته المحافظة على وحدة الأراضي المصرية مستقبلاً.

وليس في هذا الكلام اعتداء. فالنظام لم يحرك ساكناً لحماية شعبه. أقام الدنيا وأقعدها، عند كشف «خلية حزب الله». اعتبر الخلية، انتهاكا صارخاً للأمن القومي المصري. رأى في حصار غزة وتشديده إبان العدوان الاسرائيلي، مصلحة للأمن القومي. فماذا سيقول، عندما سيلجأ متطرفون أقباط، من داخل مصر ومن خارجها، إلى تدويل قضيتهم، والغرب في معظمه سيؤيد، واسرائيل ستفرك يديها غبطة وفرحاً؟
النظام ليس بريئاً. وهذه أدلة:

الاسكندرية، معقل للاخوان المسلمين. شوارعها موطئ أقدام مظاهرات «إسلاميين» من كل اتجاه، تطالب بإطلاق سراح امرأتين أسلمتا و«منعتا بالقوة عن اسلامهما». كان ذلك يحصل على مرأى ومسمع وبحماية رجال الأمن المصريين. كانت الاسكندرية مكان الاحتشاد «الاسلامي» التي منها تزحف الجموع، هائجة، تطالب «بتحرير الأسيرتين». وكانت هذه المظاهرات، تلتقي مع مطالب بيانات «شقيقات القاعدة»، التي لا تشغلها اسرائيل بالمرة. وتقيم الدنيا على رسوم مسيئة إلى الرسول في الدانمرك، وعلى النقاب والحجاب في فرنسا وألمانيا، و«لتحرير السيدتين» من "معتقل" الكنيسة القبطية.

النظام ليس بريئاً، ودعاة الأسلمة ليسوا أبرياء، ودعاة التعصب القبطي ليسوا أبرياء. المشاركون في الجريمة هم الذين أسسوا لها ثقافة وسياسة وأمناً وتمذهبا.

IV ـ الفتنة معلقة في رقاب رجال الدين


قبل المجزرة بأسابيع، أجرت مجلة مصرية استطلاعاً لمثقفين وكتاب لمعالجة ظاهرة الانقسام الطائفي في مصر، بعد دخول الدكتور عادل العوّا، طرفاً في التحريض على الأقباط. وقد كان العوّا يقدم كنموذج فذ في حلقات الحوار الإسلامي ـ المسيحي (أي حوار هذا الحوار الكذاب؟).

مثقفون واجهوا الفتنة بعدد من الآراء.
مكرم محمد أحمد قال: "لا ينبغي لرجل الدين المفاضلة بين دين وآخر، أو جرحه... ولا بد من ترجمة حقوق المواطنة في قوانين جديدة تجرّم التمييز وتعاقب المحرّض عليه... الفتنة معلقة في رقبة رجال الدين".
الدكتور رفعت السيد رأى ان الفتنة موجودة في الأساس... لكنها كامنة. «فالمسيحيون يستشعرون ظلماً وبعض المتأسلمين استقووا عليهم... ولدى المسيحيين مطالب عادلة تتفق والدستور وصحيح الدين الاسلامي». لكنه «ينعى النخبة» لأن معظم أهلها هجر الثقافة إلى الدين. وبات يخاف الحديث خارج مفهوم الدين الرائج، وهو الدين الشعبي، حيث التدين فيه كحد السيف، لا يرحم مخالفا.

الدكتور جابر عصفور أكد وجود احتقان طائفي، وحذر من الفضائيات التي تلعب دوراً تحريضياً، ودعا إلى سن قانون صارم ضد التمييز بكل أشكاله. الدكتورة فريدة النقاش نعت أهل الفكر السائد: «أموال البترول أصبحت أقوى من أصحاب الفكر. وهذه النخبة، هي أحد اسباب الفتنة. وإن تلكؤ مجلس الشعب عن إصدار قانون دُور العبادة الموحد أدى إلى إشعار المسيحيين بالاغتراب، وكل هذا، يجعلهم ضيوفاً، أو كأنهم غرباء... التكفيريون في مصر، انقضوا على نصر حامد ابو زيد... والنخبة لم تقدر على مواجهة موجة التطرف، بسبب الوهابية ونفطها» (أليست «القاعدة» إحدى بنات الوهابية؟).

منير فخري عبد النور رأى ان المشكلة تقع على عاتق الدولة، وليس على عاتق المواطن. وللأسف، فإن الدولة، تلجأ إلى المؤسسات الدينية لتبرير موقف ما أو قانون ما... "ان الدولة تتعامل مع الأزهر، كأنه موظف لديها".

تضخم دور المؤسسات الدينية في مصر يشكل خطراً على الوحدة الوطنية. سعد هجرس أشار الى ان «فيروس التطرف أصاب النخب المصرية، شأنها شأن العامة من الناس». وحذر من ان مصر جزء من مشروع يهدف الى تقسيم المنطقة على أساس طائفي (السودان نموذجاً، والعراق كذلك، ولبنان أيضاً). فهذه دول ينتعش فيها التطرف.

Vـ الدين أفيون البسطاء؟

هل يكون الدين أفيون العامة ومخدّر البسطاء؟ هل وظيفة رجال الدين في هذا الزمن العربي، تلقين العامة عقيدة التميز، وامتلاك الحق، وتكفير الآخر؟ هل وظيفة المؤسسات الدينية، الحرص على النقاء المذهبي والدعوة الجوفاء الى ان «دين الدولة الإسلام» (وهي دعوة مدانة، إذ ماذا ينفع تنصيب الدين «إلها» في الدولة، وهذا «الإله»، يشاهد عن قرب، دكتاتورية الحكام واستبدادهم وفسادهم وفجورهم وحقارتهم وتعاملهم مع أعداء الإنسان (والإنسان أعز خلق الله؟).

عندما يتحوّل الدين الى أفيون البسطاء وعامة الناس، يصبح منطقياً حصول مجزرتي صبرا وشاتيلا، وتهجير أهالي النبعة والدامور والجية والجبل في لبنان، ويصبح منطقياً، الاعتداء على الكنسية في الاسكندرية، وعلى سيدة النجاة في بغداد... عندما يتحوّل الدين الى أفيون المذاهب والطوائف، يصير منطقياً جداً، تفجير المواكب الحسينية في كربلاء، وتفجير المساجد والحسينيات، والاعتداء على الآمنين الشيعة في بيوتهم. وعندما يصير الدين أفيونا سياسياً معمماً، يصير أهل السنة هدفاً للشيعة في العراق، يُعتدى عليهم بأسلوب منظم، تتقنه أجهزة رسمية تسمح لعصابات الانتقام باختراقها وتنفيذ عملياتها. عندما يصبح الدين عقيدة رثة، انتزعت منه روحانياته ومثله وقيمه وإنسانيته، يتحول الى سيوف وخناجر وسيارات مفخخة ومجازر منتقاة... وعليه، فالقاعدة الناتجة عن هذا التأفين: «القاعدة» موجودة في كل مكان، وفي كل المذاهب المتطرفة والمتعصبة، وأساليب اعتداءاتها واحدة: قتل الأبرياء وإرهاب الضعفاء.

ان الأمة تعيش ظلاماً معرفياً، وتنتعش فيها ثقافة الجهل. ومعيار ثقافة الجهل، انحيازها الغريزي الى جماعاتها، القبلية والمذهبية والدينية. ثقافة الجهل، أساسها التميز والتعصب والتشبث بقراءة أحادية، للماضي والحاضر. ثقافة الجهل، ثقافة تأثيم الآخر وتجهيله وتبليسه (من إبليس). قال الإمام علي بن الحسين: "العصبية التي يأثم صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية ان يحب الرجل قومه، لكن ان يعين قومه على الظلم".

VIـ دفاعاً عن التخلف (...) وعن بطرس حرب أيضاً

نصل الى لبنان... فهذا بلد أتقن السلوك الطائفي، وتفوق فيه. الدولة عندنا مرهونة للطوائف. أجيرة لزعمائها. خادمة لغاياتها. فلا دولة في لبنان. لبنان، دولة طوائفه.

لو أن لبنان وطن، لكان من الواجب اعتبار مشروع بطرس حرب، أداة فتنة، وحالة تقسيم. لو أن لبنان دولة ديموقراطية، تحترم دستورها، لوجب التشهير ببطرس حرب، واعتباره مذنباً كبيراً.

من قال ان لبنان، دولة «سويدية»؟ أو «أوروبية»؟ فلبنان دولة طائفية بالتمام والكمال. والمنطق السياسي في الطائفية، يمارس من خلال تقديس حصة كل طائفة. المناصفة محاصصة. «هذه لي وليست لك». وما هو لي، أنا حر في صيانته والذود عنه. ولا يحق للآخر ان ينتقدني أو يملي عليَّ عقيدتي المذهبية. فأنا حر في أن أكون مع ولاية الفقيه، وأنت مع ولاية الفاتيكان، والآخر مع ولاية الكعبة، والبعض يفتش عن ولاية تناسبه. لا يحق لك، منطقياً، ان كنت في طائفة، أن تملي عليَّ قانونك الكنسي أو الشرعي. افعل بطائفتك ما تشاء، تزويجاً وتوريثاً وتوظيفاً وتطهيراً. واتركني أفعل مثلك ولو ضدك. شرعي يمنع توريث المسيحي، وعليه، فإن المسيحي من حقه أن يمنع توريث المسلم. (يا ناس... هذا نحن! في قاع التخلف). عقيدتي تقول بألوهة المسيح فلا تجعل منه «عبد الله» أو نبياً. سأتدخل لدى الأمن العام ضد كل عمل إبداعي لا يوافق عليه شرعي، وافعل أنت مثلي.

لو كان لبنان، مطابقاً نصه الدستوري، لما وصلنا مراراً إلى حافة العنف، الذي فرز لبنان إلى مناطق عقارية سياسية بامتياز. فكما في السودان، وفي اليمن، وفي العراق، كذلك نحن في لبنان. نحن هنا، حوثيون وجنوبيون، وزنوج وإحيائيون وكرد وشيعة وسنة... لدينا مارونستان، (جغرافيا وسياسيا) وشيعستان ودرزستان وسنستان وارمنستان... نحن الطليعة والآخرون مقلدون. نحن الأصل وهم الفرع. فإذا كانت بلاد الكرد قد حصلت على ما يشبه الانفصال، وجنوب السودان على انفصال قريب، فإن لبنان، مؤلف من دويلات طائفية عقارية منفصلة، ولم يبق لها ما يصل بينها، إلا السعودية وسوريا وإيران و... أميركا.

نحن لم نتقسم بعد، لأن خارطة الطريق التي ترسم في الخارج عادة، لم ترسم تفاصيل الانفصال... فلو رسمت، لكنا ودعنا لبنان من زمان الحرب الأهلية. فلا مصلحة لأميركا واسرائيل بتقسيم يورث الفوضى على حدود إسرائيل.

إن وظيفة أمراء الطوائف، هي الحفاظ التام على مصالح الطائفة، كل مصالحها، كي لا ينقطع حبل السرة، تأييداً واستتباعاً. وعليه، فإنه من المنطقي، طائفيا، أن يقف أمير الدروز وليد جنبلاط، ليشهر بالهجمة الشيعية الشرسة، لشراء عقارات على بوابات الشوف، من جزين إلى الشويفات. وهو الذي قيل عنه، والعتب على الراوي، ان جنبلاط، حفاظاً على الدروز، دمر القرى المسيحية المهجرة كي لا يلجأ إليها المهجرون الشيعة موقتا.

غريب ان اول من رفع سيف التشهير بالشيخ بطرس حرب، هو وليد جنبلاط، الحامي الأول لعقارات الدروز في لبنان، ولم ينتقده أحد. عندما تهجر المسيحيون من الجبل وسواه، لم يأخذوا عقاراتهم معهم. تركوها، وهي برسم البيع، لمن يشتري. والشاري في قرية مهجرة او متروكة، ليس من ابناء الطائفة المهجّرة، بل من سواها. وعليه، فإن مشروع بطرس حرب، ضد أملاك المسيحيين التي لم تعد صالحة لإقامة أصحابها المسيحيين فيها... هذا مشروع رمي أملاك المسيحيين الميؤوس منها في الإهمال والنسيان.
فارأفوا بالشيخ بطرس حرب. فهو ليس نائباً في السويد، أو في فرنسا. انه لبناني أصيل، والأصالة اللبنانية معيارها الالتزام بالطائفية.

فماذا فعل الشيخ ومن معه من مشايخ الطائفة الأجلاء، وهم يعاينون ضمور الفراش الزوجي المسيحي، وانتعاشه لدى الطوائف "المنافسة"؟ وماذا تفعل خزائن المال المسيحية، أمام تدفق المال النفطي والغازي السعودي والقطري والإيراني، الذي فتح شهية أصحاب المال، على الجنس العقاري المسيحي؟

مثل هذا البلد، من المنطقي ان يراعي قواعد التخلف والتعصب. وعليه، فإن هذا المشروع دليل على عمق الأزمة التي بلغها النظام السياسي في لبنان. لبنان على شفير أن يتحوّل إلى عقار سياسي، لا غير.
يا الله، أنقذ دياناتك منا... لننجو منها.
"السفير"
 

التعليقات