18/01/2011 - 23:08

الثورة في تونس: لماذا سعادة المواطن العربي../ ناصر السهلي

-

الثورة في تونس: لماذا سعادة المواطن العربي../ ناصر السهلي
من المهم  الانتباه إلى أن ثورة تونس، الشعبية بامتياز، أصابت الكثيرين بالدهشة والصدمة المترافقتين بأعراض ما بعد الصدمة، تلك الأعراض التي عرفها ضحايا المعتقلات والتعذيب وامتهان الكرامة.. بصمت وخوف راقب ساسة الغرب ما كان يجري لنظام لا يختلف كثيرا عن أنظمة أخرى في فلك النفاق والازدواجية الغربية التي تطبعها قراءة إمبريالية استعلائية ترى في الكثيرين مجرد موظفين وأدوات تحت عبارة "أصدقاء وحلفاء" .. ( بعض "زعماء العرب" تخونهم اللغة فيصفون هذا وذاك بالأخ، كساركوزي وقبله بوش وبلير وورثتهما في الحكم..أخوة الحبل السري المعروف المصدر والمجهول النسب للكثيرين)..
 
ما تفتقت عنه السياسة الأوروبية، من ساركوزي إلى ميركل، قبل فرار بن علي: لا تستخدموا القوة المفرطة!.. شاركهم بان كي مون ذات الرأي.. ويا للمفارقة، جملة تعيد للذاكرة ما كانت تنضح به حالة النفاق الغربي: أيها الإسرائيليون أضربوا الشعب الفلسطيني واقتلوه كما شئتم.. لكن لا تحرجوننا باستخدام القوة المفرطة.
 
حين فر طاغية تونس سقط قناع النفاق وتعرت تماما سياسة كنا نسميها: الكيل بمكيالين.. فبن علي لم يكن أكثر من شاه آخر وماركوس آخر.. في دولة مثل فنزويلا لم يكن الصمت عنوانا، لا للنخب الأميركية ولا الأوروبية، لحظة انكشاف محاولات الانقلاب على هوغو تشافيز.. وكذا الأمر فيما تعلق بإيران وغيرها من الدول التي تريد شيطنتها "الديمقراطية الغربية"..
 
لو أن الدبابات الفرنسية أو الأميركية وجدت طريقها لتونس، كما وصلت لبغداد، لكان المشهد السابق والتالي لسقوط بن علي مختلفا إعلاميا ودبلوماسيا.. لكنها الحقيقة التي عرتها ثورة الكرامة في تونس، لا ثورة الخبز والجوع كما أراد أن يسوقها من يرسل مواطنيه سائحين في بلاد جميلة ويصدر التقارير المزورة عبر مراكز أبحاث محددة الأهداف والمسارات عن حالة متخيلة لخداع يبقي على الأدوات والموظفين في خدمة "إلى الأبد".
 
ثمة مفارقات أيضا جمعت متناقضات النظام العربي تحت مظلة الصمت والرعب وتحسس الرؤوس مما كان يجري على مدى أسابيع في حركة الشعب التونسي، ربما كان القذافي الأكثر صدقا في تعبيره عما يجول في خاطر وتفكير النخب الحاكمة، فهؤلاء ، أو لنقل بعضهم ، حين تيقنوا من أن طائرة بن علي كانت تبحث عن مطار يستقبله خرج موقف: نحترم خيار الشعب التونسي ( لسان حال أمين عام جامعة الدول العربية)!.. لكن أي خيار؟
 
الخيار الذي يبقي الأوضاع كما تريدها الأنظمة في "تونس الجميلة" و " تونس السياحة" وتونس التي تشبه بعضهم في الولاء للمضمون ضمن منظومة العلاقات مع "الأخوة" في الغرب وفي تل أبيب، والظاهر في شعارات الانتماء العربي.. فلا نستغرب حملة التخريب الممنهجة لإجهاض ثورة الشعب التونسي ليقال له: لا تفكر بالتغيير، فالفوضى آتية.. أليست "الفوضى الخلاقة" من ثوابت واشنطن في تدخلاتها السافرة؟ أينما حلت حل الدمار والخراب لمصلحة الشركات العملاقة العابرة للقوميات كسماسرة للمافيات.. إعادة إعمار يسمونها بلغة النهب والتخريب..
 
لكن يبدو لي أن سعادة المواطن العربي، شرقا وغربا وجنوبا، لما صنعته من هزة عنيفة ثورة شعب تونس، هو الأمر الأكثر إيلاما والأكثر رعبا لأنظمة عربية ترى في البلاد مقاطعات وفي الشعب قطيعا يمكن رشوته بكلمة: فهمتكم!.. بتقديم وعود لا تستحق سوى وصف التافهة بخفض سعر المواد الغذائية أو السماح بانترنت وصل لجزر معزولة في العالم..
 
سعادة المواطن العربي المُعبر عنها صراحة (والتفافا في بعض الدول) استدعت من باريس وواشنطن وتل أبيب جلسات مكثفة لبحث ما يمكن فعله لوقف مسلسل سيتلو هذه السعادة.. فمشهد الحج نحو سفارات تونس للتهنئة والتعبير عن الفرح بسقوط طاغية لا ينم عن جهل بل وعي سبق برامج وسياسات الأحزاب التي تدعي المعارضة في بلدانها.. ظن بعض عسس الأنظمة أن المواطن العربي صار يمشي بجانب الجدران خوفا ورعبا وخنوعا، فوجدوا أنفسهم يكتبون تقارير تعكس حالتهم هم لا حالة المواطن العربي..
 
السعادة المرتكزة على فهم ما تمثله هذه الأنظمة الاستبدادية لا تقوم على عاطفة وحسب، فالأغلبية التي فرحت كانت تدرك كيف تقوم مسالخ المعتقلات العربية وبالنيابة عن حماتهم في الغرب بسلخ جلد الإنسان العربي الذي يحمل في الطائرة ليرمى به في عواصم العرب تحت بند "محاربة الإرهاب".. يعرف هؤلاء أيضا ما يعنيه هراء السيادة الوطنية بينما بلدانهم مستباحة بالاستخبارات والقواعد الغربية، بل بوقاحة التدخل في التركيبة الداخلية وتنصيب وإقالة هذا وذاك..
 
سعادة المواطن العربي تحمل ذاك النوع من الحسد الإيجابي الذي يمكن أن يكون معديا بشكل يكون مفاجئا، تماما مثلما أخذتهم ثورة تونس على حين غرة وهم يركنون إلى كتبة انتهازيين ومدعي الثقافة تارة بتمجيد قوة الغرب وتل أبيب.. وعليه الواجب يكون بالخنوع.. وتارة بتصوير الأوضاع كما لو أنها "جنة" لا يجب أن تُخرب..
 
يعرف المواطن العربي من لا يريد له الديمقراطية، ليس بالشكل وإنما بالجوهر، وليس هو بجاهل بأن قيمة آلاف المعتقلين السياسيين في بلد ملك عربي تساوي قطعة لحم صغيرة أزيلت عن العضو التناسلي لصبيه.. يوم طهوره "تكرم" هذا الملك العربي بإطلاق سراحهم احتفاء بإزالة تلك القطعة الصغيرة... وقبلها أقيمت الأفراح أسابيع "احتفالا من الشعب" بمولد الصبي..
 
سعادة تخيف؟
نعم هي تخيف وترعب من يصر على قراءة البلاد إقطاعيات وملكيات واعتبار الفساد والنهب شطارة وفهلوة.. ترعب لأنها ستحمل في المستقبل الإنسان العربي من صورة نمطية إلى أخرى تعرف كيف تكنس بلادها من شوائب الحاضر والتاريخ.. وليستمر هؤلاء الذين ارتهنوا بالكتابة تمجيدا بالحاكم لأنهم يساهمون حقا في اقتراب الموعد وافتضاح الصورة والحقيقة..

التعليقات