29/01/2011 - 09:40

بما يخصّ تعميم الحالة التونسية عربيا../ ماجد كيالي

ثمة استنتاج متسرّع، أشاعته مناخات الانتفاضة الشعبية التونسية، مفاده أن العالم العربي مفتوح على إمكانيات التغيير السياسي الداخلي، وأن عدوى ما حصل في تونس لابد ستسري في باقي البلدان العربية؛ عاجلا أم آجلا

بما يخصّ تعميم الحالة التونسية عربيا../ ماجد كيالي
ثمة استنتاج متسرّع، أشاعته مناخات الانتفاضة الشعبية التونسية، مفاده أن العالم العربي مفتوح على إمكانيات التغيير السياسي الداخلي، وأن عدوى ماحصل في تونس لابد ستسري في باقي البلدان العربية؛ عاجلا أم آجلا.
 
لكن مشكلة هذا الاستنتاج أنه يحوّل الاستثناء إلى قاعدة، ويتعامل بسطحية مع الوضع المعقّد، ويعمّم الخصوصية التونسية على الواقع العربي، ما لايفيد إدراك عمل آليات التغيير بشيء، لاسيما وأن الأحوال، في عالمنا العربي، لاتتغيّر بمجرد الأمنيات، أو الرغبات، أو المقايسات.
 
 مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن ثمة بعض من المشروعية في هكذا استنتاج، ليس لأنه يأتي في غمرة الحماس للحدث التاريخي التونسي، والاحتفاء به بالطريقة العربية العاطفية، وإنما بسبب الجوع المزمن للتغيير، وأيضا بسبب الحاجة الماسة له؛ باعتباره الطريق الذي يمكن أن يضع العالم العربي على سكة التطوّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
 
 معلوم أن العالم العربي لم يشهد، منذ عقود مديدة، أية تغييرات حقيقية في نظمه السياسية السائدة، حتى أن المواطن بات يقضي عمره بدون أن يتعرّف على ما يسمى بالتداول السياسي، وحتى دون أن يتعرف على ماهية مفهوم المواطنة. فالأنظمة، في هذا الركن من العالم، تكاد تكون بمثابة سلطة شمولية، في المعنى والمبنى، لاتعرف التغيير البتّة، والتغيير الوحيد فيها، إذا حصل، فهو شكلي، ويتركز في رأس الهرم، فقط، وهو يحصل إما بقضاء الله وقدره، أو بانقلاب عسكري. والمعنى أن هذه المنطقة من العالم لم تتعرف على التغيير السياسي الذي يحصل بنتيجة تحركات شعبية، أو بسبب تغيّر في موازين القوى الحزبية أو البرلمانية، لأنه ليس ثمة مواطنين (بالمعنى السياسي والحقوقي للكلمة)، وليس ثمة أحزاب وازنة أو فاعلة، وبسبب هيمنة السلطة على المجالين المجتمعي والدولتي.
 
طبعا، هذا لايعني بأن العالم العربي لم يشهد أية تغييرات سياسية، ومثلا، فقد تحولت الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى نوع من سلطة تحت الاحتلال، في الضفة وغزة، وحصل انقسام مريع ومدمر في الكيان السياسي الفلسطيني. وقد شهدت بعض أطراف النظام السياسي العربي تغيرات كبيرة، وحادة، وجذرية، فقد تم تقويض سلطة نظام صدام حسين في العراق، لكن بقوة الغزو الخارجي، ما أدى إلى انهيار الدولة وتشظي المجتمع في هذا البلد.
 
وهاهو السودان يقف على عتبة نوع آخر من التغيير، وهو ما يتمثل في انفصال جنوبه عنه، مع احتمال حصول انقسامات أخرى مستقبلا. وفي لبنان ثمة انقسام بيّن، ليس في الجغرافيا، ولكن في المجتمع، وعلى خلفية التمزقات والاستقطابات المذهبية والطائفية، المعشعشة فيه، والمعطوفة على مداخلات خارجية دولية وإقليمية.
 
ومما تقدم يمكن ملاحظة أن الواقع السياسي في العالم العربي يقف بين حد البقاء على عتبة الاستقرار، المحمول باستمرار واقع سلطة الاستبداد والفساد، أو الذهاب نحو الفوضى، المحمول إما على أجندة وروافع خارجية، أو على قاعدة تقسيم البلاد والعباد، على الطريقة السودانية واللبنانية، أو بالطريقين معا (كما حصل في العراق).
 
وبديهي أن هذه "التغييرات"، التي تحمل معنى سلبيا ونكوصيا بمعنى ما، إنما هي تؤكد على انسداد احتمالات التغيير الداخلي في العالم العربي، ولاسيما في منطقة المشرق منه، حيث لايمكن إحداث حالة تغييرية (ايجابية) فيه، بسبب تشظي مجتمعاته، واحترابها، على خلفيات مذهبية وطائفية واثنية، كما لايمكن المراهنة على عملية تغيير تأتي بصورة قسرية، من قبل قوى، وأجندات، خارجية (دولية أو إقليمية).
 
في هذا السياق بالضبط قد يصحّ الحديث عن خصوصية الحالة التونسية، فإذا ابتعدنا عن منطقة المشرق العربي، إلى الغرب منه، فسنجد أن هذه البلدان، على تفاوت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيما بينها، من مصر إلى المغرب، انبنت على أسس كيانية قوية، إذ ليس ثمة مشكلات حدودية، ولا هوياتية، كما ليس ثمة مشكلات تتعلق بشرعية الدولة الوطنية؛ لدرجة أن توسّل العمل العربي المشترك، في هذه البلدان، يجري تبريره بالمصالح، وليس على أسس أيدلوجية، أو عاطفية.
 
وفي إطار الحالة المغاربية هذه يمكن ملاحظة أن ثمة خصوصية تونسية نابعة من التاريخ الحديث لهذا البلد، المتأسّس على "الثورة البورقيبية"، التي يمكن اعتبارها بمثابة الحالة التغييرية الوحيدة، التي شهدها العالم العربي، في عهد مابعد الحقبة الاستعمارية. صحيح أن هذا العالم انشد لفترة من الزمن إلى زعامة الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن "الناصرية" التي أشعلت وجدان جماهير العالم العربي، بالشعارات والمظاهرات والطموحات، لم تحفر، ولم تعمّر طويلا، لا على الصعيد العربي ولا في مصر ذاتها.
 
بالمقارنة مع "الناصرية،، ولعل هذا من مكر التاريخ، فإن "البورقيبية" في تونس، والتي بدت مرذولة في العالم العربي، بسبب واقعيتها، ونبذها للشعارات، استطاعت الحفر عميقا في مجتمعها؛ إلى درجة أن نظام بن علي (المخلوع) لم يستطع تجاوزها. ومثلا، فقد كرست "البورقيبية"، التوانسة كشعب، عبر ترسيخ شرعية الدولة الوطنية، كوعاء للاندماج المجتمعي، بدون أي نازع تشكيكي، بمشروعية هذه الدولة، على خلفية قومية أو اسلاموية، أو أممية. كذلك فإن "البورقيبية" تكرّست كثورة من خلال سنها قوانين الأحوال المدنية، وعلمنة المجتمع، وإعلائها من شأن حقوق المرأة، واهتمامها بالارتقاء بمستوى التعليم، واعترافها بحرية العمل النقابي، ما يعني أن "البورقيبية"، التي عززت انتماء التوانسة لمجتمعهم ودولتهم، كان لها أكبر الأثر في تمكين التونسيين من عملية التغيير.
 
تأسيسا على ذلك، فربما أن أسباب الانتفاضة، أو أسباب التغيير، في أي بلد عربي، هي أكثر منها في تونس، إن من جهة شدة الفقر، أو من جهة نسبة العاطلين عن العمل، أو شدة التسلط والقهر وامتهان الحقوق، ولكن الانتفاضة حدثت في تونس، قبل غيرها، لأسباب تونسية. وهذا يعني انه لا يصحّ تحويل الاستثناء إلى قاعدة، مهما كانت الرغبات قوية ومهما كانت الأمنيات نبيلة.

التعليقات