29/01/2011 - 16:06

نهوض قومي ثوري عربي؟../ ناصر السهلي

ما يسترعي الانتباه في كل هذه الثورات والانتفاضات العربية، من تونس ومصر والأردن واليمن..إلخ، مؤشرا قد نصيب وقد نخطئ في تقييمه، فإلى جانب التناقض الواضح بين النظم السياسية الحاكمة وشعوبها العربية في القضايا الممتدة من الخبز والأسعار وتطبيقات سياسة اقتصادية ممتثلة لشروط البنك الدولي واحتكارية تصب في خدمة ومصلحة النظام ومن يستغل ثروة الشعب إلى المطالب الواضحة بالحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية في دولة العدالة والمواطنة نجد أن تناقضا واضحا قد برز، حتى لو لم يجر التركيز عليه كثيرا، فيما يتعلق بشعارات حركات التغيير الشبابية

نهوض قومي ثوري عربي؟../ ناصر السهلي
ما يسترعي الانتباه في كل هذه الثورات والانتفاضات العربية، من تونس ومصر والأردن واليمن..إلخ، مؤشرا قد نصيب وقد نخطئ في تقييمه، فإلى جانب التناقض الواضح بين النظم السياسية الحاكمة وشعوبها العربية في القضايا الممتدة من الخبز والأسعار وتطبيقات سياسة اقتصادية ممتثلة لشروط البنك الدولي واحتكارية تصب في خدمة ومصلحة النظام ومن يستغل ثروة الشعب إلى المطالب الواضحة بالحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية في دولة العدالة والمواطنة نجد أن تناقضا واضحا قد برز، حتى لو لم يجر التركيز عليه كثيرا، فيما يتعلق بشعارات حركات التغيير الشبابية.
 
لم تغب لا في تونس ولا في مصر مسائل الانتماء العربي القومي عن وعي حركة الشارع، وهي مفارقة تؤشر إلى نوع محدد من المستقبل الذي ينظر إليه الشباب العربي. ففي حين بدا أن سرعة الشعب قد تجاوزت البرامج السياسية والاجتماعية للنخب والأحزاب السياسية برز وبشكل جلي أن هذا الجيل العربي الجديد الذي راهنت القوى المحلية الرجعية والمتحالفة مع الرأسمالية العالمية على تجهيله وتغييبه قد خدع الجميع ورفع قبضته ملوحا بصور ثورية وشعارات أكثر من ثورية. تراوحت بين لوحات لتشي جيفارا وصور جمال عبد الناصر.. ويبدو واضحا من متابعة منتديات النقاش الدائر بين الشباب العربي ما يثير ذهول من راهن على "سلبية وغياب" هؤلاء الشباب وصلت حد تبادل الخبرات في كيفية التعاطي مع قنابل الغاز وشل حركة مدرعات الشرطة وسيارات رش الماء. هؤلاء ناقشوا أيضا وبكل وضوح تبني ذات الشعارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعن اليمن وسايكس بيكو.
 
هذا الوعي ليس وليد لحظة الانفجار أبدا. هو في عمقه يحمل دلالات تراكمية ضخمة، ففي حين كانت أجهزة الأمن بمختلف أذرعها، متحالفة مع النظرة البوليسية الإمبريالية وعلى رأسها الأميركية والبريطانية وغيرهما، على "الإسلاميين" في التحالف المسمى "حربا على الإرهاب" ومراهنة على أن "العولمة" سوف تقوم بمهمة التعامل مع البقية من شباب المجتمعات العربية، أثبتت التجربة العملية فشل كل المراهنات على تغييب الوعي في خلق عقل عربي جديد معولم ومغيب في ماديات غريزية لا تهتم كثيرا لا بتوزيع الثروات ولا بقيمة العمل.
 
الصورة التي ظهرت عليها السياسات الغربية في نفاقها الواضح عن مسائل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير لم تنطل أبدا على هذه الحركات الشعبية. فقد سقطت فرنسا في الفخ التونسي وسقطت كلينتون وسقط أوباما في الموقف من ثورة تونس ومن انتفاضة الشارع المصري. الشعارات التي تداولها المدونون العرب ونشطاء الحركة الشعبية تكشف حجم الوعي الثوري بتلك المواقف الغربية التي تحتفظ بنظرة امبريالية لمصالحها وعلاقاتها مع الأنظمة التي تحرص على تقديم الخدمات والحفاظ على مصالح هؤلاء من خلال نخب اقتصادية وسياسية فاسدة حد النظر بشكل دوني لمجتمعاتها. وقد فهم ربما هذا الجيل الجديد نظريات سمير أمين عن الاقتصاد وعن تركز الثروات بيد حلفاء ووكلاء الغرب والرأسمالية وهم في حالات كثيرة لا يشكلون أكثر من 10 % في بعض المجتمعات.
 
من المفهوم جدا هذا القلق الذي اجتاح العواصم الغربية وتل أبيب نتيجة ما يجري، وليس على خلفية كذبة "الإسلام والإرهاب"، إذ يستند على رغبة واضحة وضوح بوصلة الانتفاضات العربية على أكثر الأنظمة تحالفا معه. والعامل الأكثر تأثيرا في هذا القلق هو الكشف عن حالة إنكار مشوه لوجود أزمة في سياساته وعلاقاته مع الأنظمة والشعوب العربية، والتركيز على علاقات التبعية بغض النظر عن آمال وتطلعات الشعوب للخروج من حالة الذل والمهانة التي تفرضها مثل هذه العلاقات المختلة والتي يكون فيها النظام الرسمي العربي في حالة استرخاء كامل باعتماده على شبكة أمنية غربية وماكينة إعلامية دعائية تصور العلاقات البينية العربية كنوع من الاستحالة وحصرها في العلاقات مع الغرب، حتى في مسائل متعلقة بالعمالة والاستثمار.
 
الحالة الثورية عند الشباب العربي أظهرت نوعا من الوعي الذي لم يرغبه التحالف العربي الرسمي والغربي الداعم له. وهي حالة تنقل بشكل واضح الأفق الذي انفجر بعد مجموعة التراكمات الكبيرة التي تداخل فيها الوطني بالقومي، رغم عدم اعتراف بعض النخب بوجود مثل هذا الوعي، وما حالة الفوضى التي تفرضها الأنظمة التي تشعر بأنها مهددة بالزوال إلا دليلا على أن تلك النظم السياسية عملت وعلى مدى سنوات طويلة لتجنب مواجهة الاحتقان الداخلي بتشكيل ميليشيات تكون مهمتها الانقضاض على الانجازات وحرف الثورات عن أهدافها وتشويه مساراتها.
 
لا أبالغ إذا ما ذكرت بأن العصر الجديد للشعوب العربية يحمل نفسا قوميا نهضويا وتعدديا بامتياز، وقد أخطأت مرة أخرى السياسات الغربية الإمبريالية في فهم البوصلة الثورية للجيل الشاب واستفزته مرحلة الإمعان في النظر إليها نظرة قاصرة وأحيانا تهويلية في التخويف منها.
 
مصر التي أفقدتها سياسات نظامها السياسي دورها القومي التاريخي وتقزيم هذا الدور إلى مستوى غير لائق لا بالحجم ولا بالتاريخ الذي مثلته، ليس فقط في مجمل الأوضاع العربية على النسق الأميركي والغربي عموما، بل حتى فيما يتعلق بعلاقتها مع القضايا العربية وقضايا أمن قومي مصري وعربي في أفريقيا والاستعاضة عن الدور الفاعل إما بالتفرج أو الحياد والسلبية. ولا داعي الآن لأخذ بعض الأمثلة الكثيرة والتي لا تغيب عن هتافات وشعارات ثورة الشباب المصري..
 
لا يمكن أيضا التوهم بأن الانتفاضات والثورات العربية ستسير بدون محاولات تخريب وارتداد غربي وداخلي عليها، لما تشكله من أهمية للمصالح الإمبريالية والرأسمالية هذه البلاد التي حولتها إلى أسواق استهلاكية واستباحة للسيادة والأمن بشكل يفوق ما كانت عليه تدخلات الإمبريالية الأميركية في بنما وكوستاريكا ودول الموز جميعها، لكن دعونا نقرأ ما تعنيه حمل الإشارات الواضحة التي يرسلها شباب الثورة العربية عن مواقف الغرب وسياساته في المنطقة. فحمل قنبلة غاز والقول للصحفيين "هذه صناعة أميركية".. فهذه رسالة من الصعب أن تفهمها الإمبريالية وهي رمزية لفشل ذريع استند على مجموعة من الدراسات المخادعة المقدمة لهذا الغرب عن أوضاع العالم العربي.
 
من يتابع حالة التضامن الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج مع ثورة الشباب والشعب المصري وقبله التونسية والفلسطينية يُدرك بأن عصر الخداع ما عاد قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فقد تلمس الشباب الثائر مشاكله وحلولها، وهو شباب يدرك بأن القضايا لا يمكن أن تُحل بالأدوات والبرامج المرتجفة. صحيح أن البعض يقوم بعملية تخريب (وفي أغلبهم معروفو المصدر والدوافع) إلا أن العجلة دارت ولا عودة لها إلى حالة بث التخدير بشعارات تستدر العطف القطري الضيق وافتعال أعداء وهميين.
 
 لقد أخطأ السيد أحمد أبو الغيط خطأ فادحا حين قال عن الحالة التونسية "هذا هراء ولا يمكن أن تحدث في مصر" ولم تمر أيام إلا وحدث الانفجار، بل مصر هي المرشحة قبل تونس. لننتظر المزيد من النهوض الثوري العربي الذي فاجأ حتى "الثوريين" التقليديين الذين عجزوا عن تسويق شعاراتهم وحلولهم. ولا يمكن للانتهازيين وبسهولة ركوب الموجة الثورية لسبب بسيط يتعلق بكل ما تحدثنا عنه عن الوعي الذي لم يستوعبه لا الغرب ولا القوى المحلية المعجبة بسياساته الإمبريالية من المحافظين العرب الجدد.

التعليقات