04/02/2011 - 04:29

الثّورة المصريّة: البداية "كفاية".. والخلاصُ "رحيل" / علي نصوح مواسي

لقد شهدت مصرُ في السنوات الستّ الأخيرة، كما تونس عشيّة الثورة، مرانًا احتجاجيّا مكثّفًا في الشّارع، وحركة معارضةٍ نشطة، أنتجت جيلاً جديدًا مبدعًا وابتكاريّا في أساليب وأدوات احتجاجه، والتي لطالما قمعها النّظام أو استخفّ بها، دون أن يدركَ ما ينتجُ الشّارعُ من عمليّة حشدٍ وتعبئةٍ تراكميّة.

الثّورة المصريّة: البداية

* كاتب من فلسطين

ليست الثورة المصريّة المجيدة التي نشهدها اليوم، كما يخيّل للبعض، نتاج مصادفة أو مفاجأة، أو فعلاً ناتجًا عما يمكن تسميته مجازًا "عدوى تونس" وحسب، وإن كان للثّورة التونسيّة أكبر أثرٍ في تحفيز الشارع المصريّ خصوصًا، والعربيّ عمومًا، على الانطلاق نحو البعيد البعيد، متّخذين منها نموذجًا يحتذى في تقنيّاتها وأسلوبها ومجرياتها، وفي سقف مطالبها الاجتماعيّة والسياسيّة والحقوقيّة.

لقد شهدت مصرُ في السنوات الستّ الأخيرة، كما تونس عشيّة الثورة، مرانًا احتجاجيّا مكثّفًا في الشّارع، وحركة معارضةٍ نشطة، أنتجت جيلاً جديدًا مبدعًا وابتكاريّا في أساليب وأدوات احتجاجه، والتي لطالما قمعها النّظام أو استخفّ بها، دون أن يدركَ ما ينتجُ الشّارعُ من عمليّة حشدٍ وتعبئةٍ تراكميّة.

وأنا إذ أكتب اليوم، فلألقي الضّوء على المتقدّمِ من فصولِ الثّورةِ المصريّة، والّتي تعيشُ اليومَ فصلاً من أروع فصولها، أتمنّى ويتمنّى أحرارُ العالم جميعًا أن تستمرّ وتنتصر على الطّواغيت، وهدم مبنى النّظام كلّه، لا بعض رموزه. 

البداية "كفاية"..

عام 2004، قامت مجموعة من المثقفين والعلماء والسياسيين المعارضين المصريين، إضافة إلى شخصيات عامة مصرية، بتوقيع وثيقةٍ  تطالب بتغيير سياسيّ حقيقيّ في مصر، وبإنهاء الظلم الاقتصاديّ، والفساد في السّياسة الخارجيّة، داعينَ الرئيس مبارك إلى إلغاء نظام الطوارئ، وعدم الترشّح مجدّدًا لمنصب الرئاسة المصريّة، والمباشرة بإجراء تغييرات جوهريّة تحت عنوان (تغيير - حرية عدالة إجتماعيّة)، وطالبوا بعودة مصر إلى الحاضنة العربيّة وحسم الموقف من الكيان الصهيونيّ وغزو العراق وقضايا الشعوب العربيّة.

هذا التجمع من الشخصيات أطلق على نفسه اسم "كفاية – الحركة المصريّة من أجل التغيير"، والذي سرعان ما تحوّل إلى حركةٍ شعبيّة كبيرة تنتشر في قطاعاتٍ واسعة من الشارع المصريّ، وخصوصًا الشبابيّ منه؛ ولعل من أهمّ دوافع ذلك، أن رموز الحركة أعلنوا دومًا رغبتهم عن السلطة ونيتهم عدم التنافس عليها، وأن دورهم يقتصر على المطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية لأبناء الشعب المصري. ومن بين رموز الحركة: المرحوم عبد الوهّاب المسيري، والأستاذ جورج إسحق، والدكتور أمين اسكنر، والأستاذ أبو العلا ماضي، والأستاذ أحمد بهاء الدّين شعبان، والأستاذ كمال خليل، والأستاذ الديدامون أبوالعينين، وغيرهم كثر..

غطت نشاطاتُ "كفاية" الاحتجاجيّة، والتي تمثلت أساسا بالاعتصامات والمظاهرات، 22 محافظة مصريّة من أصل 26، وساهم ظهورها في صعود موجةٍ كبيرةٍ من المطالب العماليّة والحرّياتيّة والسياسيّة ذات السقف المرتفع، وراح الشارع ينتجُ حركاتٍ ومبادراتٍ خلال زمنٍ قياسيّ بعدها، فخرجت حركات مثل "شباب من أجل التغيير"، "عمال من أجل التغيير"، "صحفيون من أجل التغيير"، "طلاب من أجل التغيير"، وغيرها، نسقت مع "كفاية" أو انخطرت فيها.

وكان عام 2005، عصر "كافية" الذهبيّ، حيث نظّمت عشراتُ الاعتصاماتِ ووقفاتِ الاحتجاجِ على مدارِ العامِ وبشكلٍ مكثّف، في مختلف محافظات ومدن مصر، شارك فيها عشرات الالافِ من الناشطين ودعاة التغيير.

ردّت السّلطات المصريّة على امتداد وتوسّع حركة "كفاية" ونجاح اعتصاماتها بالتّرويع والسّجن، والضّرب، والتّعذيب، والسّحل، الأمر الذي جعل المؤيدين للحركة، وعلى عكس ما توقّع النّظام، يزيدون من إصرارهم على تحقيق مطالبهم، لإحساسهم أنّ لحركتهم تأثيرًا كبيرًا يزعج النّظام.

واهتمّت وسائل الاعلام المصريّة المعارضةُ بالحركةِ، وساعدت كثيرًا على الترويج لها، ومنح رموزها وأعضائها مساحةً لمخاطبة الشعب المصريّ بما يتبنّونَ من مضامين وأفكار ومقترحات؛ كما أسست الحركة منتدًى خاصّا بها على الانترنيت تحت عنوان "مندرة كفاية"؛ مثل عمليّا المقرّ الفعليّ والأساسيّ لنقاشاتها، ومداولاتها، واتّخاذ قراراتها، وبحث مستجدّات الشارع المصريّ والعربيّ، وحشد كوادرها وتحفيزهم.. وهو منبرٌ ساهم في طرح المضامين الحقوقيّة والاصلاحيّة والدّيموقراطيّة ومفاهيم العدالة، بقوّة، على طاولة المثقّفين والشّباب المصريين.

لكن، ومع نهايات عام 2009 وبداية 2010، فقدت "كفاية" الكثير من أوجها وتألقها، ويرجع البعض ذلك إلى خلافاتٍ داخل الحركة نفسها، أو لأنّ شعاراتها استهلكت ولم يتحقّق منها شيء خلال 5 سنوات، أو لأنّ النظام تمكّن من لجمها وتقييدها وخنقها تمامًا، ونرجّح أنّ الاسباب تلك مجتمعةً ساهمت في تراجع فاعليتها.

"الفايس بوك" وأربعة أعاصير أخرى..

بدأ إعصارُ "الفايس بوك" يجتاحُ العالم بقوّة خلال عاميّ 2007 و2008، وتحديدًا بعد أن قامت مجموعةُ جامعةِ "هارفرد" المؤسّسة له، بإعلان العاصمة الإيرلنديّة "دبلين" مقرّا دوليّا للموقع في أكتوبر/تشرين أوّل 2008.

 

ضرب إعصارُ "الفايس بوك" العالمَ العربيّ بقوّة شرسة، ترافقهُ أربعة أعاصيرَ أخرى، كلّ واحدٍ منها يستمدّ قوّته من الآخر، وهي الـ"youtube"(2005-2006)، والمدوّنات "Blogs"(انطلقت عام 1997 وتفشت في العالم العربي خلال عامي 2004 – 2005)، و"google"؛ وثمّة إعصار خامس، لم يتمّ تناوله بالبحث والدّراسة العميقة على أنّه أداة مهمّة من أدوات الاعلام الاجتماعيّ والانتاج الاحتجاجيّ، ومن محرّكات الثّورات، أو تمّ تهميشه وتغافله وسط الانبهار بغيره من الأدوات الجديدة، ألا وهو التّليفون المحمول، فبالإضافة إلى خاصّيّة الرسائل، فإنّ الأجيال المتقدّمة من الهواتف المحمولة، منحت لمستخدميها القدرة على البقاء متصلين طيلة الوقت مع العوالم الافتراضيّة في شبكات التواصل الاجتماعيّ، ومواقع الفضائيّات، والصور والفيديوهات.

تلك الأعاصيرُ الخمسة ضيفت على موجة الفضائيّات التي اجتاحت العالم العربيّ خلال العقد الأخير، وعلى رأسها قناة الجزيرة.

 

مكنت أدوات الاعلام "البديلة" كلّ مواطنٍ عاديّ من أن يصبح مسجّلاً وموثّقًا ومصدرًا للمعلومة، وبالتالي منحته الشعور بأنه صانعٌ وشريكٌ وصاحبُ قدرةٍ على الانتاج والصّناعة والتأثير، وصارت لدى الشارع العربيّ ملاذًا ومتنفّسا، اتّخذها روافد معلوماتيّة، راح ينهل منها ويدلي، دفعته إليها بقوّة سيطرة الأنظمة الدّكتاتوريّة والقامعة على وسائل الاعلام الوطنيّة وخنقها، وتحويلها إلى أبواق يملكها الحاكم ونظامه، ينفخ عبرها ما يشاء؛ وقد كان المستفيدُ الأكبر من وسائل الاعلام الاجتماعيّ أو غير الرسميّ، المغرّدون خارج السّرب، أو المعارضون، فأنشأوا في عوالمها مجتمعًا رقميًّا تفاعليًّا يحرّك الشّارع.

وكان يوم "6 إبريل" المجيد..

أعلن عمّال "شركة المحلّة" عزمهم على الإضراب بتاريخ 6 إبريل/نيسان 2008، وذلك احتجاجًا على غلاء الأسعار وانحطاط الأجور، فالتقطت مجموعةٌ من الشّباب النّشيط المستقلّ والمسيّس الخبر، وراحت تدعو عبر القوائم البريديّة الالكترونيّة، ورسائل الـ "sms" إلى إضرابٍ عامّ في مصر تضامنًا مع عمّال المحلّة.

إسراء عبد الفتّاح، مدونة وناشطة من مواليد عام 1981، وصلتها الدعوة، فبادرت إلى إنشاء صفحة على "الفايس بوك" أطلقت عليها اسم "خلّيك قاعد في البيت"، ودعت من خلالها إلى إضرابٍ عامّ في كلّ محافظات مصر، والتّظاهر للاحتجاجِ على الأوضاع الحقوقيّة والمعيشيّة والسياسيّة بمصر، وانضمّوا إليها يؤازرونها في دعوتها تلك، مجموعةٌ من النشطاء السياسيين والاجتماعيين، أسسوا لاحقًا ما صار يعرف باسم "شباب 6 إبريل"، وهم اليوم من قيادات الثورة المركزيين.

اعتقلت إسراء في اليوم نفسه للإضراب، ولكن كان ذلك بعد أن انضمّ إلى المجموعة على الفايس بوك 67926  شخصا، وكانت السلطات المصريّة قد أصدرت حينها بيان توعّد وتهديد لمنظّمي الإضراب، كما نشرت مكثّفًا يوم الإضراب قوّات أمنها بترساناتها في المدن المصريّة، وتحديدًا في الأماكن التي أعلن فيها التّظاهر.

جاءت الدّعوة إلى الإضراب عبر الفايس بوك بالعبارات التالية: "خلّيك قاعد في البيت، أو شاركنا في الميادين العامّة، إوعى تنزل لكن شاركنا.. ماتروحشي الشّغل.. ماتروحشي الجامعة.. ماتروحشي المدرسة.. ماتفتحشي المحلّ.. عايزين مرتّبات تعيّشنا.. عايزين نشتغل.. عايزين تعليم لأولادنا.. عايزين مواصلات آدميّة.. عايزين مستشفيات تعالجنا.. عايزين دواء لأطفالنا.. عايزين قضاء منصف.. عايزين أمن وأمان.. عايزين حريّة وكرامة.. مش عايزين رفع أسعار.. مش عايزين محسوبيّة.. مش عايزين ظبّاط بلطجيّة.. مش عايزين تعذيب في الأقسام.. مش عايزين أتاوات.. مش عايزين فساد.. مش عايزين رشاوي.. مش عايزين اعتقالات.. مش عايزين تلفيق قضايا.. قول لأصاحابك واهلك مايروحوش الشّغل همّه كمان.. وخلّيهم يدخلوا الإضراب يوم 6 أبريل.."

تلك كانت همومُ النّاس، آلامهم واحتياجاتهم، وتعكس روح مطالبهم الاجتماعيّة.

ونجح الإضراب.. وانتفضت المحلّة

نجح الإضرابُ فعلاً، وخصوصًا في المدن الكبرى، إذ تبنّته ودعمته وشاركت به حركاتٌ وأحزابٌ عدّة: عمّال شركة المحلّة، حركة شباب 6 أبريل، حركة كفاية، حزب الكرامة، مجموعة من المثقّفين المستقلّين، حزب الوسط، حركة موظّفي الضّرائب العقاريّة، حركة إداريي وعمّال القطاع التعليميّ، نقابة المحامين، حركة 9 مارس المعروفة بحركة أساتذة الجامعات، مدوّنون (بلوجرز)، و مجموعات من الشّباب المصريّ الفاعل على الشّبكة المعلوماتيّة، كما أعلن الإخوان المسلمون تأييدهم للإضراب والتّظاهر بداية، لكنّهم انسحبوا عشيّته من المشاركة.

شهدت المحلّةُ يوم الإضراب اشتباكاتٍ بين الأهالي والعمّال من جهة وقوّات الأمن من جهة أخرى، استمرّت مدّة يومين، وذلك بعد أن حاولت السلطات قمع الإضراب بالقوّة، مرغمةً العمّال على العمل،محتجزةً ايّاهم داخل المصانع؛ فانتفض النّاس واحتجّوا، وأحرقوا عدّة مراكز شرطة ومباني حكوميّة، وأسقطوا وأحرقوا صور حسني مبارك، وقد قتلت قوّات الأمن وجرحت يومها عددًا من المواطنين، وتمّ اعتقال العشرات.

قام شباب "6 إبريل" خلال عامين بتنظيم حوالي 40 فعاليّة وحملة مركزيّة، من أهمّها إطلاق حملة تضامن مع غزّة خلال العدوان عليها، واستقبالهم لمحمّد البرادعي استقبالاً ضخمًا يوم عودته إلى مصر، والمساهمة في تنظيم اعتصامات حملة "كلّنا خالد سعيد"، هم وحركات أخرى، إضافة إلى عشرات وقفات الاعتصام والتّظاهر.

أطلقت الحركة إذاعةً خاصّة بها لرصد الشارع المصريّ وتعميم خطابها فيه، ثمّ أغلقت، وأنشأوا موقعًا لهم ومدوّنة، وصفحةً رسميّة على الفايس بوك تعداد أعضائها 90 ألفًا حتى لحظة كتابة هذه المقالة.

وأنشأت الحركة لها فروعًا في 12 محافظة مصريّة، وشكّلت فرق عملٍ مهنيّة: مجموعة الاعلام، ومجموعة العمل الجماهيريّ، والمجموعة الطلابيّة، والمجموعة التثقيفيّة، ومجموعة الدّعم القانوني، ومجموعة التّنسيق بين المصريين في الخارج.

أنشأ الشّباب العشرينيّ إذًا مؤسّسة فاعلة، تعمل تمامًا مثل الاحزاب السياسيّة والمؤسّسات العريقة، بل وتتفوّق عليها في مواكبتها للأحداث وإطلاقها للمبادرات، واستيعابها لمتطلّبات الشّباب المصريّ.

وسرعان ما تحوّلت حركة "6 إبريل" إلى تيّار سياسيّ شعبيّ حقوقيّ اجتماعيّ شبابيّ، أيّده مئات الالافِ من الشّارع المصريّ، له مسؤولون ومنسّقون، تبنّوا خطاب وثيقة مثقّفي "كفاية" ومطالبها السّياسيّة بالتغيير والاصلاح، فتمّ الدّمجُ قويّا ما بين جيلين، وما بين المطالب الاجتماعيّة والسّياسيّة، وغدا الخبز وحده غير كافٍ لتحقيق مطالب الاصلاحيين، إنما أرادوا الحرية والكرامة.

وهكذا تشكّلت جبهةٌ عريضةٌ في الشارع المصريّ من مثقّفين ونخب وشباب، إضافة إلى العمّال، تتبنّى الخطاب نفسه، والمبادئ والمطالب نفسها، تختلف في التّفاصيل وتتّفق على جوامع مشتركة.

الحملة الشّعبيّة لدعم البرادعي وبيان التّغيير

يتردّد اسم محمّد البرادعي كثيرًا منذ انطلاق أحداث الثّورة المصريّة، على أنّه واحدٌ من البدائل المحتملة لتولّي منصب الرّئاسة خلال المرحلة الانتقاليّة التي ستعيشها مصر في حال نجحت الثّورة تمامًا.. ومع أنّ قطاعاتٍ واسعة من الشارع المصريّ المنتفض لم تحسم أمرها تجاه الرّجل، بل إنّ بعضها يرفضه لأسباب عدّة، وآخرون يخوّنونه ويتّهمونه بالاتّصال بالولايات المتّحدة والتّبعيّة لها، أو بالإيرانيين (وفي هذا مفارقة)، إلاّ أنّ للرّجل وزنه النّوعيّ في الشّارع، وقد ساهم حضوره خلال العام الأخير على الساحة المصريّة بقوّة، في الدّفع نحو الممانعة والرّفض وتعزيز مطالب الدّاعين إلى الاصلاح والتّغيير وإلغاء نظام الطّوارئ.

يوم الـ 19 من فبراير/شباط، عاد البرادعي إلى مصر، وهو الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الدولية، والحاصل على جائزة نوبل للسلام، والمعروف بمواقفه المعارضة لسياسات الغرب، وخصوصًا الولايات المتّحدة، تجاه الملفّ النوويّ الايرانيّ، وتجاه غزو العراق.

عاد البرادعي ليستقبل استقبالاً حاشدًا في مطار القاهرة الدوليّ من الاصلاحيين؛ وخلال أسبوعٍ واحد، وبعد لقاءاتٍ واتّصالاتٍ مكثّفة قام بها، مع حركات وشخوص سياسيّة مصريّة مهمّة، أعلن عن تشكيل"الجمعيّة الوطنيّة للضّغط على النّظام لتعديل الدّستور وإلغاء الطوارئ"، هذا وتشكّلت سريعًا "الحملة الشّعبيّة لدعم البرادعي" والتي انضمّ إليها عشرات الآلاف، وقد نشطت إلى جانب باقي حركات المعارضة ونسّقت معها، وفرضت نفسها في الشّارع بقوّة من خلال الفعاليّات والأنشطة والاعتصامات والمظاهرات؛ أضف إلى ذلك أنّ مجموعة دعم البرادعي شكّلت "الجمعيّة الوطنيّة للتّغيير"، والتي أطلقت حملةً منظّمةً للتّوقيع على ما أسمته "بيان التّغيير"، ونجحت خلال شهور قليلة من جمع أكثر من مئة ألف توقيع.

اجتاح البرادعي الرّأي العام المصريّ من خلال عشرات اللقاءات التلفزيونيّة الحواريّة، يتحدّث عن الاصلاحات السياسيّة والحقوق المدنيّة ووجوب تغيير الدّستور، والتصدّي للتّوريث، ودعا بكلّ جرأة إلى "رحيل مبارك"، وكان ردّ النّظام عليه بتهميش الاعلام الرسميّ له تمامًا، واقتحام تفاصيل حياة أسرته الخاصّة لتشويهها، بغية قلب الشّارع عليه، كما اتّهم بالتّبعيّة لإيران والولايات المتّحدة في آن كما ذكر.

أعلن البرادعي فور انتهاء فترة رئاسته لوكالة الطّاقة عام 2009، رغبته في التّرشّح للرّئاسة المصريّة، وشكّل طرح اسمه إحراجًا كبيرًا للنّظام الحاكم، لأنّه اقترن بمطالب لتغيير مواد الدّستور 76 و77 و88، وبتعهّداتٍ خطيّة تضمن نزاهة الانتخابات، وبالإشراف القضائي عليها، وقد أبدى حزب الوفد وحركات سياسيّة وشعبيّة عدّة، استعدادها لدعمه في حال ترشّحه، وشكّلت حملةٌ شعبيّةٌ تحت اسم "حملة دعم البرادعي للرّئاسة"، تجاوز عدد المنتسبين إليها خلال شهور ربع المليون مصريّ.

هي أسماءُ لحركات ومبادرات تختلفُ وتتعدّد، لكنّها في الواقع كانت تعتمدُ أساسًا على المجموعة نفسها من النّشطاء مع يضافُ عليهم من وجوهٍ جديدة، ورغم ذلك فإنّها تعبّرُ عن حراكٍ سياسيّ سريعٍ جدّا ونشط ومواكبٍ خلال عامٍ واحدٍ فقط.

ومجدّدًا كانت الشبكة المعلوماتيّة الجنرال الأساس في معركة البرادعي، فحضر الفايس بوك، والمواقع الالكترونيّة، واليوتيوب، والأفلام، والمدوّنات، والتّويتر، وما إلى ذلك.

لقد أَثْرَتْ عودة البرادعي ودخوله السّاحة السياسّة، النقاش في الشارع المصريّ حول الاصلاح، وساهمت في الدّفع نحو الاحتجاج والمعارضة، وكانت مرانًا عمليّا على ذلك، وقد رأى فيه المناصروه له خلاصًا من حكم مبارك والتّوريث رغم الاختلافات والتّفاوتات في تقييم حجم تأثيره.

"خالد محمّد سعيد": بوعزيزي الاسكندريّة الذي أشعل انتفاضة بلا حرائق

كان ذلك يوم 6/6/2010.. والعالم بعد منشغلٌ بنتائج كأس إفريقيا، والحرب الشّعواء بين مصر والجزائر في أوجها، يذكيانها النّظامان المصريّ والجزائريّ وأذنابهما.

يومها قتل الشّاب العشرينيّ، ابن مدينة الاسكندريّة، خالد محمّد سعيد، على يد مخبرين ضرباه بوحشيّة وعذّباه وهشّماه أمام عيون النّاس في الشّارع الّذي يسكن فيه، وذلك على خلفيّة حيازته تسجيلاً مصوّرًا يثبت تورّطهما في صفقة مخدّرات هم ومجموعة من ضبّاط ومخبري قسم "سيدي جابر".

السّلطات تواطأت مع المخبرين، وتكتّمت وتستّرت، وادّعت أن خالدًا ماتَ اختناقًا بلفافة "بانجو" بلعها عندما رأى المخبرين يقتربان منه، وشنت الدولة وأبواقها وأجهزتها الاعلاميّة  حملة شرسة على الشاب الميت خالد، مشوهة صورته، ومتّهمةً ايّاه بالانحراف والبلطجيّة، والتّعاطي، والتّهرّب من الخدمة العسكريّة، وما إلى ذلك، وهي أمورٌ فنّدت أوّلاً بأوّل بالوثائق وشهادات النّاس.

عصفت قضيّة سعيد بمصر، وأشعلت حركة احتجاجٍ شعبيّة مدنيّة سلميّة استمرت عدّة شهور، انطلقت من الفايس بوك أيضًا، إذ أنشئت فور مقتل الشّاب صفحة عنونت بـ "أنا إسمي خالد محمّد سعيد"، انضمّ إليها خلال أيّام ما يزيد عن 300 ألف منتسب، ضمّت آلاف الصّور، والمقالات، والقصائد، ومقاطع الفيديو، والحوارات، والأغاني.. كما أنشئت صفحة أخرى حملت اسم "كلّنا خالد سعيد"، قامت بالدّور نفسه. 

ترافقت معركة الفايس بوك، مع معركةٍ قضائيّة وقانونيّة خاضتها عائلة المقتولِ لمحاكمة المجرمين، وبمشاركة عددٍ من الشخصيات والأحزاب السياسيّة، وعلى رأسهم محمّد البرادعي وأيمن نور وغيرهم.

تحوّلت قضيّة سعيد، وهنا تكمن أهميّتها الكبرى، إلى حملةٍ شعبيّةٍ ضخمةٍ ضدّ "قانون الطّوارئ"، وضدّ التّعذيب والاستهتار بحيوات وأمن المواطنين المصريين، وانفلات عناصر الأمن وقسوة تعاملهم مع أبناء الشعب المصريّ، وانخرطت في الحملة عشرات الجهات الاعلاميّة والحقوقيّة والانسانيّة، والسياسيّة والشبابيّة، وأصبحت صفحتيّ "أنا اسمي خالد محمد سعيد" و"كلّنا خالد سعيد"، مساحةً لفضح الممارسات القمعيّة للنّظام بحقّ المواطنين، موثّقةً بالصّوت والصّورة.

وفي ظلّ غياب القضيّة مع بداياتها عن شاشات الفضائيّات ووسائل الاعلام العربيّة والعالميّة المهمّة، رغم ما تركته من أثرٍ كبيرٍ في الشّارع المصريّ؛ وقبل أن يطرق اسم خالد الرّأي العام العالميّ، وتتدخّل مؤسّسات حقوق الانسان، والحكومة الامريكيّة، دافعةً بالسّلطات المصريّة نحو معاقبة المجرمين، إذ صدف أن يكون أشقاء الشّهيد سعيد حاملين للجنسيّة الامريكيّة؛ قبل ذلك، كان لا بدّ لبعض الأقلام أن تتجنّد للكشف عن القضيّة إلى العالم العربيّ عمومًا، وقد أردت أن أكشف للشارع الفلسطينيّ عن تفاصيل المأساة، وانتفاضة الشّعب المصريّ في حينها.. قلت بعد أيّامٍ على مقتل خالد سعيد: "بنى خالدٌ بجسده المشوّه حوضًا تُصبُّ فيه كلّ حكاياتِ الاضطّهاد، وصارَ اسمُهُ مدخلاً إلى حيواتِ المعذّبينَ والمقتّلينَ والمشرّدينَ والمعتقلينَ والمضطّهدين وضحايا الإهمال والفساد... من رحم التّراكماتِ ولدت باسمه انتفاضة، فليس هو الأوّلُ ولن يكون الأخير.. لقد حوّلهُ المصريّونَ إلى صليبٍ مقدّسٍ يعلّقونَ عليه أسماءَ كثيرة، تجدها مكدّسةً داخل صناديق الويب، وفي مواقع منظّمات حقوق الإنسان بالآلاف، لقد صار جداريّةً ضخمةً يسعى كلّ مصريّ حرّ إلى أن ينقش فيها يأسه وغضبه من الفساد والاستبداد."(من مقالة انا اسمي خالد محمّد سعيد - علي مواسي)

قيادةٌ رقميّة.. وتنظيمٌ مدهش في احتجاجات قضيّة "خالد محمّد سعيد"

من أبرز ما لفت الانتباه حينها، أنّ مزيجًا من قلقٍ وحنقٍ وخشيةٍ وتململٍ ظهر على صفحات الفايس بوك نتيجة ابتعاد المشرف على صفحة الحملة المركزيّة عن متابعة أمورها قليلاً من الوقت، إذ ظنّ النّاس أنّ السّلطات المصريّة ألقت القبض عليه، فتهيّأوا وتحفّزوا لمواجهة أيّ خبرٍ حول هذا الموضوع، وبدا الأمر حينها وكأنّه أصبح لجمهور الشّباب قائدٌ رقميٌّ يقلقونَ عليه في ظلّ غيابِ قيادةٍ يجمع عليها النّاس.

ومن أهمّ ملامح قضيّة "شهيد الطّوارئ" التي لوحظت حينها، حجم التّنظيم الضّخم، والرّقيّ في التعبير عن الاحتجاج، والابتكاريّة والابداع، والدّقّة في التّخطيط للمظاهرات والاعتصامات، لشهورٍ تلت، رافقت جلسات محكامة المخبرين أيضًا: نزل النّاس إلى الشّوارع نساءً ورجالاً وأطفالاً، شيبًا وشبّانًا، ومعهم قيادات المعارضة.. صرخوا سخطهم واستنكارهم للجريمة انطلاقًا من الاسكندريّة، فالقاهرة، فالفيوم، فالسّويس، فبور سعيد، فالزّقازيق وكلّ أنحاء مصر، نظّموا خلال أيّامٍ مئات المظاهرات والاعتصامات ووقفات الاحتجاج والمسيرات، ضربوا واعتقلوا وقمعوا، لبسوا السّوادَ، حملوا النّعوشَ الرّمزيّة، كتبوا على الأرض والجدران، هتفوا باسمِ خالدٍ، رفعوا صورَه ثائرين، حملوا اللاّفتات وأطلقوا الشّعارات الرّافضة للفساد والتّعسّف والأحكام العرفيّة وانتهاك حقوق الإنسان، وطالبوا بإقالة وزير الدّاخليّة ومحاكمة المجرمين، وحمّلوا محمّد حسني مبارك المسؤوليّة المباشرة؛ حاربوا روايات السّلطات الكاذبة حول وفاة خالد، أسقطوها منتصرينَ لجراح الشّهيد، أطلقوا الأغاني، ورسموا اللّوحات، وأبدعوا التّصميمات، وعندما ارتفعَ صوتُ الكُرباج (السّوط)، واتّهمت السّلطاتُ المصريّةُ المحتجينَ بالعمالةِ والتّبعيّة لجهاتٍ أجنبيّة وتلقّي أموالٍ منها، إضافةً إلى تخريبِ أملاكِ الدّولةِ والإخلال بالنّظام، ردّ النّاسُ بالانتفاضِ صمتًا أسودًا، فبدأوا بتنظيمِ عشرات الوقفات الصّامتة وهم يقرؤونَ القرآنَ والإنجيل ويغنّونَ وينشدونَ القصائد ويشعلونَ الشّموع.. كتبوا بأجسادهم كلماتٍ تعبّر عن احتجاجهم تقرأ من مسافةٍ عالية مثل "أحّا"، والتي تعني في عاميتنا الشاميّة "طزّ"؛ كانوا يقفون في طوابيرَ على طول الشّوارع الرئيسيّة، وشواطئ البحر، وضفتيّ النّيل، يلبسون السّواد، صامتين، لا يتكلّم الواحد منهم مع الآخر، بين الشّخص والشّخص مسافةٌ معلومة ومحدّدة مسبقًا، وذلك وفق تعليماتٍ وخرائط وشروحاتٍ مهنّيّة مسبقة، كانت تنشر عبر الفايسبوك والمواقع الأخرى، وذلك حتّى لا يعطوا أدنى ذريعةٍ لعناصر الأمن لفضّ تجمّعاتهم واعتقالهم، أو اتّهامهم بالشّغب والتّخريب.

وتوالت فضائح التّعذيب وممارسات نظام الطّوارئ بعد قضيّة "سعيد"، إذ راح الضّحايا وعوائلهم يفصحونَ وينشرونَ، يوثّقونّ، ويصرخون ويرفضون.

وكانت آخر قضايا التّعذيب التي اشتهرت وأثارت الرّأي العام، ومن أكثرها بشاعة، قتل المواطن الاسكندريّ أيضًا، سيّد بلال، بتاريخ 06/1/2011، والذي ينتمي للجماعة السّلفيّة، وذلك بعد اختطافه للتّحقيق معه حول تفجير "كنيسة القدّيسين"، وقد ظلّ يعذّب في أحد أقسام الشّرطة حتّى الموت وفقًا لشهادات أهله والمقرّبين منه، ألقي بعدها أمام إحدى المستشفيات، وقد أطلقت هذه الحادثة العديد من المسيرات والاعتصامات المندّدة بالتّعذيب، والتي اتهمت الأمن المصريّ بتخاذله وتقاعسه عن توفير الأمن للمقدّسات المسيحيّة القبطيّة قصدًا، واتّهامها له أيضًا بالسّعي لإذكاء "فتنة طائفيّة" في الشّارع المصريّ، وهي اتّهاماتٌ بدأنا نشهدها بقوّة مذ انطلقت الثّورة، والّتي اتّحدت تحت لوائها كلّ أطياف الشّعب المصريّ.

سنواتُ الحشد والتّعبئة

إذًا فالسّنوات المصريّة السّتّ الماضية، لم تكن خواءً وكسادًا وقعودًا، إنّما كانت مرانًا وتدريبًا مكثّفًا على الاحتجاج وطرقه، وكانت سنوات تعبئةٍ وحشد، شعر النّظام المصريّ خلالها بوجود معارضةٍ حقيقيّةٍ مدنيّة شبابيّة غير تقليديّة، وبوجود خصمٍ صعبٍ في الشّارع، تعامل معه بالقمع حينًا، وبالاستحفاف وسدّ الآذان أحيانًا أخرى، وها هي اليوم مرانات الشارع تترجم نفسها ثورةً شعبيّةً مجيدة.

ولا بدّ من الإشارة أنّ تصرّف الاعلام الحكوميّ، وغالبيّة الخاصّ، في قضيّة خالد محمّد سعيد، كما يتصرّف الآن في تناوله ومعالجته لأحداث الثّورة، وفي مختلف القضايا التي أرقت الشارع المصريّ، كان تصرّفًا منحازًا انحيازًا مشينًا، ويتصف بالتبعيّةِ القبيحةِ للنّظام.. ولأنّ المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرّتين، فإنّي لا أظنّ الشارع المصريّ مصدّقًا اليوم إعلامه المُضلّل، ولا بدّ آجلاً أو عاجلاً أن تحاصرَ الثّورةُ ذلك الإعلام وأن يسيطر خطابها على شاشاته ومنابره.

25 يناير: أثرُ تونس.. والاختلافُ عنها

تختلفُ الثّورةُ التّونسيّةُ عن المصريّة، في أنّ الأخيرة جاءت بقرار، ولم تنتج عن تطوّرات سريعةٍ لأفعال وردّات أفعال تراكمت وتصاعدت خلال مدّة معيّنة لم يكن يعرف أحد أو يتوقّع إلى أين سيكون مؤدّاها ومآلها وفاجأت العالم؛ فالثّورة التونسيّة كما شهدنا جميعًا، بدأت بإحراق محمد البوعزيزي نفسه احتجاجًا على الفقر والبطالة وإهانة الشّرطة له، وانتهت بتظاهرات مليونيّة ذات مطالب سياسيّة واجتماعيّة وطنيّة أسقطت النّظام، وقد استمرّت حركة الاحتجاجات والمقاومة لشرطة النّظام الشّهر تقريبًا حتّى هرب زين العابدين بن علي.

أمّا الثورة المصريّة، فهي قرارٌ مسبقٌ بإسقاط النّظام والتّغيير في يومٍ محدّد، وهو يوم 25 يناير/كانون ثاني 2011، الذي يوافق "عيد الشّرطة المصري" مذكّرًا بدور الشرطة المصريّة المشرّف في ظلّ الاستعمار البريطاني لصالح الشّعب، وهذا اليوم معروفٌ بـ"عيد التّعذيب" بين النشطاء المصريين المعارضين، وقد قال الدّاعون إلى المظاهرات هذا الأمر بكلّ وضوح: في هذا اليوم سنسقط النّظام.

إذا فقد بدأت الثّورة المصريّة، ومنذ أيّامها الأولى، بأعلى سقفٍ مطلبيّ، سياسيّ واجتماعيّ، وبحشودٍ هائلة مليونيّة، ولعلّ هذا ما باغت النّظام ودعاه إلى تقديم تنازلاتٍ سريعة وقياسيّة، وإن كانت التفافيّة وشكليّة ومراوغة، وبعيدةً كلّ البعد عن مطالب الثّورة الحقيقيّة.

يقول نصّ الدّعوة الأولى الّتي أطلقت على الفايس بوك بالحرف: "يوم التّغيير.. 25 يناير 2011.. يوم الإرادة المصريّة.. في 15 يناير فعلتها تونس.. وفي 25 يناير ستفعلها مصر."

من خلال هذا الشّعار، يظهر بوضوح الأثر والحضور الكبيران للثّورة التونسيّة في الشّارع المصريّ، الذي كان يغلي أصلا، والذي أحرق فيه أشخاصٌ عدّة أنفسهم على طريقة البوعزيزي احتجاجًا على الأوضاع في مصر قبل أيّام من اندلاع الثورة، ويظهر أيضًا أنّ مطالب المحتجّين تضمّنت منذ البداية شرط "رحيل مبارك".

- أطلق الدّعوة الأولى مشرف مجموعة "كلّنا خالد سعيد"، والّتي ولدت من رحم انتفاضة الشّارع المصريّ بعد مقتل خالد محمّد سعيد قبل شهور (أشرنا إلى تفاصيلها سابقًا)، ويبلغ تعداد المشتركين في المجموعةأكثر من النّصف مليون؛ واللافت أنّ الدّعوة صدرت يوم 16 يناير/كانون أوّل 2011، أي بعد يومٍ واحد من نجاح الثّورة التونسيّة وسقوط نظامها.

وسنعرف لاحقًا، أنّ مشرف مجموعة "كلّنا خالد سعيد"، الّذي أطلق الدّعوة الأولى، هو الشّاب وائل غنيم، مدير تسويق شركة جوجل في الشّرق الأوسط وإفريقيا، وهو مختفٍ منذ 27 يناير/كانون أوّل وفقًا لما تناقلته وكالات الأنباء وما أعلنه أخوه حازم غنيم، ويخشى أنّه قد قتل على يد أعوان النّظام بعد اختطافه.

- وسرعان ما انتشرت الدّعوة بين مئات آلاف الشّباب المصريين، وتحدّثت عنها وسائل الاعلام المحلّيّة، ثمّ تبنّتها في يوميّ 20 و21 يناير/كانون أوّل 17 حركة سياسيّة وشبابيّة إصلاحيّة، وهي: "حزب الجبهة الديمقراطية"، وحزب "الغد" الذي يترأسه أيمن نور، و"حزب الكرامة"، و"شباب من أجل العدالة والحرية – هنغير"، و"الجبهة الحرة للتغيير السلمي"، و"حزب العمل"، "و"تيار التجديد الاشتراكي"، و"الاشتراكيون الثوريون"، و"الجمعية الوطنية للتغيير"، وحركة "شباب 6 أبريل"، و"الحركة الشعبية الديموقراطية للتغير - حشد"، و"حركة كفاية"، و"مركز آفاق اشتراكية"، وحركة "العدالة والحريّة"، و"حملة دعم حمدين صباحي مرشّحًا للرّئاسة"، و"رابطة العرب الوحدويين الناصريين - القطر المصري"، و"مصريات مع التّغيير"، و"حملة دعم البرادعي".

لقد وقعت تلك الحركات على بيان مشترك دعت فيه أبناء الشعب المصري للتظاهر بقوة من أجل الاصلاح والتغيير.

وامتنع عن التوقيع على البيان والمشاركة رسميا في المظاهرات، كلّ من "حزب الوفد"، و"الإخوان المسلمون".

ويذكر في هذا السّياق أنّ البرادعي، وعشيّة المظاهرات، أعلن عن دعمه وتأييده الكبيرين للمظاهرات، وبأنّه لن يشارك شخصيّا فيها رغم مشاركة حملته، وهو أمر أثار إحباط الكثيرين من مؤيديه، ودعوه إلى النّزول إلى الشوراع.

وقد جاء في البيان"هذه هي حقوقنا التى أهدرت على مدار أكثر من 30 عامًا، اليوم حان الوقت لنطالب بها ونفرضها وننتزعها بإرادتنا، اليوم موعد نزول الشعب المصري للشارع ليسترد حريته وحقوقه وكرامته."

وقالت القوى الموقّعة على البيان: "إنّ الثورة التونسيّة فجّرت طاقات الأمل في قدرة الشّعب على فرض إرادته وانتزاع حقوقه، وأكّدت أنّ التّغيير ممكنٌ وقريب."

وفي ذلك دليلٌ آخر على أثر ثورة تونس الكبير في الشارع المصريّ، وعلى أنّ منظّمي المظاهرات كانوا على وعيٍ وإدراكٍ تامّين بأنّهم ذاهبون نحو ثورةٍ سيحاكون فيها التّجربة التونسيّة، وبالتّالي فإنّ كلّ تقنيّات الثورة التونسيّة وأساليبها كانت حاضرةً أمام عيونهم، ومن أهمّها الشّجاعة والاستعداد للاستشهاد وعدم التّراجع أو التّنازل.

ولأنّ البشر سريعو التّعلّم من تجارب غيرهم، ولأنّ المصريين كانوا على درجة كبيرة من المران الاحتجاجيّ خلال السّنوات الماضيّة، كان أثر انتقال الثّورة التونسيّة إليهم سريعًا وبقرار، وقد اختصروا الكثير من محطّات تونس وتفاصيلها، فكان من أهمّ ملامح مصر الضّرب من داخل المدينة العاصمة منذ البداية، وقد تدرّبوا ووضعوا الخطط على ما يبدو لكيفيّة مواجهة قمع قوات الأمن وعنفها، فتغلّبوا عليها في سرعةٍ قياسيّةٍ لم تتعدّ الأيّام الثّلاثة الأولى للثّورة، وأحرقوا مقرّاتها وأقسامها لأنّها شكلت لديهم رموزًا للقمع والتّعذيب والفساد، وأحرقوا مقرّات الحزب الحاكم سريعًا معلنين انتهاء عصره، واضطّروا الجيش للنّزول سريعًا حتّى يحمي مؤسّسات الدّولة، وقاموا بسرعةٍ قياسيّةٍ أيضًا بإنشاء "اللّجان الشّعبيّة" لحماية ممتلكاتهم على غرار التّجربة التّونسيّة.

لقد رأينا في حالة الثّورة الثّورة التّونسيّة أنّها انطلقت من الأرياف والضّواحي والمناطق النّائية عن العاصمة، ثمّ زحفت بعدها إلى قلب المدن المركزيّة، ثمّ كان انضمامُ المدينة العاصمة لاحقًا، علمًا أنّ المدينة العاصمة هي من حسمت الأمر أخيرًافي تونس بدخول الثوار شارع بورقيبة الحصين، عصب الدّولة التّونسيّة ونظامها، وفقط عندما تمّت السّيطرة على بورقيبة، بدأ العدّ التنازليّ لرحيل بن علي؛ أمّا في حالة الثّورة المصريّة، فقد انطلقت الثّورة من قلب العاصمة والمدن المركزيّة، وتحديدًا من الأحياء الشّعبيّة والمتوسّطة، ثمّ امتدّت إلى الأرياف والمدن النائية، وقد سيطرت منذ الأيّام الأولى على ميدان التّحرير، بكلّ ما يحتويهِ من مقوّماتٍ للدّولة ورموزٍ تجعله يمثّل عصب مصر، ولهذا فإنّ العدّ التنازليّ لرحيل النّظام قد بدأ منذ الأيّام الأولى للثّورة، خاصّةً وأنّه كان قد هزمَ في وقتٍ متوازٍ في كبرى المدن المصريّة مثل الاسكندريّة والسّويس، ولعلّ هذا السّبب الّذي يجعل الثّوار، ويجعلنا جميعًا، نستعجل سقوط النّظام، خاصّةً وأنّ عيون الاعلامِ راصدةٌ لأحداث الثّورة مذ يومها الأوّل، على عكس الحالة التونسيّة.

قد تكون هذه الخاصيّة في الثّورة المصريّة، السّبب الّذي مكّن النّظام من امتصاص الصّدمة الأولى أيضًا، وإصراره على المراوغة وعناده، ومحاولته حتى لحظة كتابة هذه السّطور، كافّة الوسائل والطّرق للانقلاب على الثّورة، ذلك أنّه لم ينهك في الأرياف والمدن النّائية والمهمّشة لأيّام طويلة، ولم تتوزّع طاقات قمعه للثّورة على مساحات شاسعة، إنّما صبّ كلّ جهوده على العاصمة مهملاً سواها بالمقارنة، معتبرًا انهزام الثّائرين في ميدان التّحرير سقوطًا لها، ولهذا نجد اهتمامه منصبّا بالأساس على من في الميدان، رغمَ انتصارِ الشّارع في أماكنَ أخرى.

لقد تعلّم النّظام المصريّ أيضًا من التّجربة التّونسيّة واستفاد، تعلّم ألاّ يسلّم أوراقه سريعًا ويرحل سريعًا، وتعلّم ضمان الجيش لصالحه، وتفويت الفرصة عليه لانضمام قياداته إلى الشّعب سريعًا، وكأنّ السيناريو كان معدًّا سلفًا، فرأينا أنّ مبارك، وفي أولى ردّات الفعل، قام بتعيين نائبه عمر سليمان، ورئيس حكومته الجديدة، أحمد شفيق، من قلب المؤسّسة العسكريّة، ليضمنهم إلى جانبه، فيردع الجيش عن الانقلاب عليه.

المعطى الاسرائيليّ لم يكن موجودًا في الحالة التّونسيّة، إذ لا معاهدة سلام، ولا مصالح مشتركة، ولا نظام يحرس الحدود الاسرائيليّة ويشاركها في حصار غزّة وتجويعها، ويضمن لها استقرارًا وسلمًا وأمانًا.. وفي تونس أيضًا لا قناة سويس، شريان التّجارة العالميّة، وطريق أساطيل النّفط إلى الغرب.. وتونس لم تكن غريمًا شرق أوسطيّ قويّ لإيران في عيون الغرب، ولم يكن لها الدّور الكبير في رسم الخارطة السياسيّة للمنطقة، وتحديدًا من خلال بناء ما يسمّى بـ "محور الاعتدال"، كما أنّها لم تساهم في التآمر على المقاومة اللبنانيّة وضربها.

أمّا تلك الأمور، فهي المميّزةُ لمصر، ولذلك وجدنا الغرب يسارع لإعلان مواقفه والتّدخّل في أحداث الثّورة المصريّة، وقد تعلّم من الثورة التونسيّة درس ألاّ يسكت عن تأييد "التغيير الديموقراطيّ في الشّرق الأوسط"، وأن يعارض إرادات الشّعوب ويدعم الاستبداد، وذلك حتّى لا يتّهم بالنفاق، ودعم الدكتاتوريّات والتّحالف معها، لكنّه لم يتعلّم درسَ ألاّ يتململ ويماطل ويتلعثم.

لعلّ الجهة الوحيدة الّتي لم تتعلّم كثيرًا من التجرية التونسيّة، أحزاب المعارضة التاريخيّة المصريّة، فكما التحقت أحزاب المعارضة التونسية بالثورة متأخرًا، كذلك فعلت المصريّة، وكما استعجلت أحزاب المعارضة التونسيّة بالذّهاب إلى الحوار مع رموز النّظام وبقاياه، وتخريج مقترحاتٍ وحلولٍ وفتاوى قانونيّة وأشكال توافق، كذلك فعلت المصريّة، وأمنّى أن تتراجع الأحزب المصريّة وتعيد حساب موقفها، كما فعلت التونسيّة.. وأنا لا أعرف ما المعايير التي تتبعها تلك الأحزابُ لتعتبر شخصيّةً أمنيةً عريقة في التنسيق مع واشنطن وتل أبيب، شخصيّة "محترمة وصالحة لفترة انتقاليّة".

اجتمعت الأسباب.. ومبارك واحدُ

 

لم يترك النّظامُ المصريّ أيّ سببٍ من أسبابِ كرهِ الشّعب له واستيائه منه، إلاّ ووفّره وقدّمه له، ولذلك أجدني مستغربًا ومتفاجأً لا من ثورةِ مصر،  إنّما من المستغربينَ منها والمتفاجئين، إذ إلى أيّ حدّ يمكنُ أن يظلّ شعبٌ راضخًا للقهرِ والطّغيان وكلّ ألوانِ الضّغوط؟ وخاصّة شعبٌ لا يعرفُ تاريخُهُ إلاّ الثّوراتِ والانتصاراتِ على الاستعمارِ، ولململة الجراحِ في لحظاتِ الانكسار ليندفعَ من جديد.

 اليوم يثورُ الشّعب المصريّ، يثورُ على عقود من الاضطّهاد والقمعِ والاستبدادِ، والإهمال والفسادِ، والرّشوةِ، وخنقِ الحرّيّاتِ، والاستهتارِ بحيواتِ النّاسِ، وقوانين الطّوارئ، وغياب الدّيموقراطيّة، والتّزويرِ والمحسوبيّات، وانعدام العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثّروة وأموال الدّولة، واستفحال سياسة رأس المالِ دونما ضوابط، والفقرِ والجوعِ والأمراضِ، وانعدامِ البنية التحتيّة لتحقيق حدّ أدنى من الحياة الكريمة، إلاّ في أحياء مصر الرّاقية، وأماكن سكنى الأغنياء، وتجهيلِ الشّعبِ، وحرمانه، وتجويعه، وإفقارِهِ، وإذلالِهِ.

اليوم يثورُ الشّعب المصريّ على الصّنم، والصّورِ، وحكم الحزبِ الواحِدِ والرّجُلِ الواحِدِ، وفرعنة فرعون، يثورُ من أجلِ ضحايا عبّارة السّلام، وسكنى المقابر (الخراباتْ)، وبؤسِ العشوائيّاتِ، وحرائق القطارات واصطداماتها، وانهيار جبل المقطّم، وشهداء نجع حمادي، وحرق خليل إبراهيم خليل على يد الشّرطة، معتقلو حركة كفاية و 6 إبريل، مختطفو الصّحافة والإعلام، حبس النّاشط مسعد أبو فجر، قتل عبد الوهّاب قرّة النّوبيّ، تشريد أهالي مساكن زينهم، اعتقال وتعذيب سائقي الميكروباص بسبب إضرابهم عن العمل، تشويه المعاق رجائي سلطان، تعذيب الشّاب أحمد صابر، عماد شوقي، معذّبو سجن برج العرب، قتل الشّاب جاد محمود، وتامر مشهور، وعبد الرّزاق عبد الباسط، مأساة أهالي القباري، المختطف باسم أبو المجد، شهداء وجرحى ومعتقلو مظاهرات المحلّة، اعتقال مرشّحي انتخابات بلديّات 2008، استشهاد سامي فايز عرابي الإخواني، اعتقال أيمن نور، قمع حملة محمّد البرادعي، التضييق على الإخوان المسلمين وسجنهم، ملفّات الفساد الماليّة، والتّزوير في الانتخاباتِ البرلمانيّة الأخيرةِ، وسياساتِ التّوريثِ الوقحة اللمستهترة بإراداتِ النّاس، والقافلة طويلةٌ طويلةٌ طويلة.

مصر.. درّة تاج العروبة، فمن سرق بريقها؟

لم تتردّد أنظمةُ الغربِ، وعلى رأسها الولاياتُ المتّحدةُ بالتّصريحِ علنًا ودونما خجل، بأنّ النّظام المصريّ المتمثّل بشخصِ حسني مبارك، كان "خادمًا" مخلصًا ومطيعًا للسياسات الامريكيّة والغربيّة في الشّرق الأوسط، تمامًا مثل نظام زين العابدين بن علي، لا بل إنّه الخادم الأوفى والأكثر إخلاصًا لمصالحهم حتى من إسرائيل نفسها، في حال قارنا بين حجمِ دعمِ الغرب لإسرائيل، وحجمِ دعمها لنظامه، يتلقّى مقابله ثمنًا بخسا، وهو أمرٌ نعرفه جميعًا، وبالتالي لا نتوقّفُ كثيرًا عند نفاقاتِ وتململاتِ حكوماتِ الغربِ في تحديدِ موقِفها من ثورة الشّعب المصريّ؛ كما يسرّنا أن نرى قادة إسرائيل متخبّطينَ قلقينَ حزينينَ مستائينَ من انتهاءِ عهدِ مبارك، لأنّهم يفقدونَ بذلكَ حليفًا مناصرًا يتّفق معهم على كلّ ما هو ضدّ العروبة والوحدةِ والمقاومة، ويعرفونَ جيّدًا أنّ ظهورَ دولةٍ مصريّةٍ ديموقراطيّةٍ قويّةٍ متقدّمة، على غرارِ تركيا مثلاً، سيضرب مشاريعها لنسف القضيّة الفلسطينيّة في الصّميم.

لقد حوّل مباركُ الدّولة المصريّة، ومن قبله السّادات، من كيانٍ سيّدٍ مؤثّرٍ وحاسمٍ ومتبوع، ويعمل له الحساب، إلى كيانٍ تابعٍ ومقاطعٍ ومرؤوسٍ ومترهّل، يتلقّى أوامره من تل أبيب وواشنطن مباشرةً، وعلى ذلك يثورُ اليوم الشّعب المصريّ.

لقد بالغ النّظامُ المصريّ في عهد مبارك، وقطع كلّ الخطوطِ الحمراءِ بسلوكاته المشينةِ والمخزيةِ والرّجعيّة تجاه قضايا الشّعوب العربيّة، والصّراع العربيّ الاسرائيليّ، ودول المنطقةِ، سائرًا في ذلك على خطى سلفه السّادات.

لقد شهدنا جميعًا موقف النّظام المصريّ المشين من العدوان الاسرائيليّ على لبنان، وهجومه الشّرس على المقاومة اللّبنانيّة قبل العدوان وبعده، ودعمه لقوى الاعتدال اللبنانيّة في مواجه قوى الممانعة، لا بل إنّ مبارك نفسه يعتبر العمدة والعماد في بناء ما يسمّى بقوى الاعتدال المندرجة ضمن المعسكر الامريكيّ – الاسرائيليّ كما أشرنا، بالإضافة إلى تآمره على غزّة ومقاومتها، وتعزيزِ حصارها وخنقها، وبناء سورٍ حديديّ لضرب أنفاقها التي تتنفس منها، إضافة إلى انغلاقِ نظامه على نفسه وفشله إقليميّا، وسدّ كلّ سبل الحوار مع إيران، وإعلان معاداته لها منذ اليوم الأوّل للثورة الايرانيّة التي أطاحت بالشّاه، وقد ورث مبارك هذا النّهج من السّاداتِ وعزّزه، وحشده للقوّات الدّوليّة وتأييده لها في غزو العراق الأوّل، وتواطئه في الثّاني، وإفشال الحلّ العربيّ ممهّدًا لتدخل القوات الدولية الغازية، وعدم لعبه أيّ دور يذكر في الشّأن السّوداني، وما إلى ذلك.

"جمعة الخلاص"... والخلاصُ "رحيل"

قد لا يكون يوم الجمعة المسمّى بـ "جمعة الخلاص"، المعركة الحاسمة في فصول الثّورة، في ظلّ ما يظهره المشهد من تعنّت وعناد النّظام ووقاحته وصرعه، رغم أنّه انهار فعلاً، وفي ظلّ عدم حسم الجيش موقفه تمامًا، إمّا مع الشّعب ضدّ النّظام أو العكس، لكنّ هذا اليوم سيكون بالغ الخطورة، لأنه سيكون الاستفتاء الأهمّ على إرادة الشّعب المصريّ، مع من يقف: مع نفسه، أم لا يزال يخاف النّظام؟ وبالتّالي سيتحدّد مصير الثّورة غدًا، تتراجع أم تستمرّ.

إن لم يعلن مبارك تنحّيه يوم غدٍ أو بعده بقليل، فإنّ الشّباب المصريّ الثائر، وكل من انضمّ إليهم يؤازرهم من حركات احتجاج ومعارضة، ونحن معهم، قد يصابوا بنوع من الاحباط، لأنّهم يريدون رحيلاً سريعًا جدّا للنّظام ليعلنوا انتصارهم، كما نحن جميعًا نريد، وربّما يزيدهم ذلك إصرارًا على الاستمرار، وأتوقع أن يستمرّوا حتّى الرّمق الأخير، وأن يصعدوا بتثوير قطاعاتٍ مختلفة من الشّعب، وتثوير الاعلام، ومحاصرة مؤسّسات عامَة للدّولة، مثل مجلس الشّعب والبرلمان، والحكومة، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، وقد يصل الأمر إلى القصر الرئاسيّ.. وإنّه من مسؤوليّاتنا تجاه الثّوار ألاّ نحمّلهم أكبر من طاقتهم، وألاّ ننتظر منهم إنجازاتٍ تتحقّق بلمح البرق.

الأمر كلّه يتوقّف على حجم الحشد والمدّ الجماهيريّ المؤازر للثّورة في كلّ محافظات مصر ومدنها، فهو المعيار والحكم.

إنّ الثّورات العظيمة التي غيرت وجه التّاريخ، لم تنجر في شهورٍ ما أنجزه الشّعب المصريّ في أيّام معدودات، وإنّ الثورات والانتفاضات الكبرى قد تستمرّ شهورًا، بل سنينًا في بعض الأحيان، مثلما هو الحال مع الثّورة الفرنسيّة، والثورات التي حصلت ونجحت في شرقيّ أوروبا، وأميريكا اللاتينيّة، وثورة إيران، وثورة تونس مؤخّرًا، وغيرها.

وإنّا لا نملك الآن، ونحن البعيدون عن الميدان المصريّ الثّائر، سوى أن نتحرّك من مواقعنا لدعم الثّورة وشبابها البواسل، بالاعتصام والتّظاهر وإطلاق نداءات التّأييد والتشجيع والثبات، وأن ندعو ونصلّي لهم.

نعوّل في النّهاية على جماهير الشّعب المصريّ الأبي في الحفاظ على ثورتهم، وعلى الشّبابِ الثّائر في ميدان التّحرير، فهو وإن لم يستمرّ محافظًا على حشودٍ من ملايين النّاس، تعتصم معه وتقاتل إلى جانبه وتصعّد، فإنّه بعشرات الآلاف يمكنُه أن يظلّ صامدًا ومرابطًا في قلب الميدان، شالاّ الحياة في القاهرة ومصر كلّها، لأنّ ميدان التّحرير بكلّ ما فيه من مؤسّسات حكوميّة ووزارات ومرافق ومجلس شعبٍ وبرلمان وجامعة أمريكيّة وجامعة الدول العربيّة، ونقطة التقاء شوارع رئيسيّة، يشكلّ عصب العاصمة، وشريان الدّولة المصريّة الأساس، وقلبها النّابض، ولا يمكن لأيّ نظامٍ أن يستمرّ دونه.

الكلمة الأخيرة: إلى أصدقائي المصريين الأبطال العظماء الّذين ينتفضون الآن من أجل كرامة شعبهم ووطنهم وحريتهم وشرفهم وعيشهم الكريم، إلى شادي خليل، وعادل عبد الوهاب، ومحمود بدر، ومروة منجود، وأحمد إسماعيل، وأحمد شكر، ويارا شاهين، وأحمد إسماعيل، ونهى فوزي، ويحيى رفعت، ومحمد عز الدّين، وأحمد يسري بهز، وتامر صبري، وبكري كمال، وهبة ماهر، وخالد الحسيني، ونور التّميمي، وكريم الشناوي، وشريف النبراوي، ونورا توماس، وتامر بشاي، ومروة كروت، ودينا شكري، وأمنية عصفور، وبدر العبيدي.. وكلّ من فاتني ذكره في هذه العجالة.. إليكم وإلى إخوتكم وأهلكم..

لا تيأسوا.. لا تهنوا.. لا تتراجعوا، التراجع انتحار، واثبتوا، فآمال الأمّة معقودةٌ عليكم، وبكم تسلم الأوطان.

ألف شكرٍ لكم، والنّصر قريب، وعشتم وعاشت مصر وعاشت العروبة والأوطان بخيرٍ وسلام.

لستُ مصريّا.. وكم أتمنّى اليوم لو أكون مصريّا 

التعليقات