12/02/2011 - 12:42

حول حتمية التغيير والاتحاد../ فراس جابر*

يبدو أن الأمر المفاجئ في تونس هو حدوث أول ثورة اجتماعية سياسية شعبية عربية في التاريخ السياسي المعاصر، حيث استطاع الشعب أن يعزل نظام الحكم والحاكم بثورة شعبية غير مسبوقة، وتلاحق الأمر بما يشبه "أثر الدومينو" لتنتشر الاحتجاجات الشعبية الجارفة في مصر، في أول ثورة شعبية مصرية كاملة حد تعبير الكثير من المحللين والمفكرين

حول حتمية التغيير والاتحاد../ فراس جابر*
يبدو أن الأمر المفاجئ في تونس هو حدوث أول ثورة اجتماعية سياسية شعبية عربية في التاريخ السياسي المعاصر، حيث استطاع الشعب أن يعزل نظام الحكم والحاكم بثورة شعبية غير مسبوقة، وتلاحق الأمر بما يشبه "أثر الدومينو" لتنتشر الاحتجاجات الشعبية الجارفة في مصر، في أول ثورة شعبية مصرية كاملة حد تعبير الكثير من المحللين والمفكرين، هذه الثورة التي لم يراهن أكثر المتفائلين بالتغيير على حدوثها في تونس، فما بالك في مصر مبارك، التي استقر نظام الحكم فيها لمبارك لمدة ثلاثين عاماً دون تعرضه لضغط مجتمعي. هذه الثورات الاجتماعية العربية تبشر بعصر عربي جديد قوامه الأساس حيازة الشعب والجماهير للسلطة وحق تقرير المصير، وقدرة الشعوب على الحراك الاجتماعي والسياسي وصولاً للثورة الكاملة.
 
في الجهة المقابلة نرى أن هناك خوفاً من الأنظمة العربية، ليس فقط من سقوط نظام "راسخ" بأيدي الشعب التونسي البطل وهروب الرئيس في عجالة وتحت ستار الليل، بل انتشار الاحتجاجات التي نراها اليوم في عدد من الدول العربية، ونحن في انتظار ما ستسفر عنه الثورة المصرية. التصريح الوحيد الحقيقي من قبل رؤساء الأنظمة العربية حول الأحداث والتحولات الجذرية في تونس كان للرئيس الليبي معمر القذافي، الذي عبر عن حزنه لسقوط بن علي، واستطرد بقوله أنه كان على التونسيين قبول حكم بن علي مدى الحياة، وما بقية التصريحات إلا قبولاً مراً بالأمر الواقع من قبل أنظمة لا تحترم الحقوق الدنيا لشعوبها، فما بالك بالشعوب الشقيقة الأخرى.
 
مرد خوف الأنظمة الحكم العربية هي الرسالة الجلية من وراء ثورة تونس الكاملة، وثورة مصر المستمرة، وهي أن الشعوب العربية تستطيع التغيير متى أرادت ... هذا هو مربط الفرس، فليس الأمر مرتبطاً فقط بالأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة، فهناك العشرات من الأسباب البنيوية التي تحفز الشعوب العربية على النيل من حكامها وأنظمة الحكم، فسارعت الأنظمة العربية في عدد من الدول العربية إلى إعلان تقليص لبعض الضرائب ودعم بعض السلع الأساسية، وبدء نقاشات حول إصلاحات سياسية وديمقراطية لتجنب غضبة شعوبها ... غير أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. فتعبيرات ثورتي تونس ومصر تتركز في أن جدلية التغيير والحراك والثورة لا يمكن وقفها مهما طال الزمن، ومهما اشتد عود النظام وأمنه.
 
وهذا يقودني إلى نقطة أخرى، وهي أن الأنظمة العربية على مدار عقود استخدمت المدخلين الأمني والاقتصادي في سبل معالجة الأوضاع العربية، فالأمني تمثل في شبح "الإرهاب" الداخلي، والعدو الخارجي، مما أدى إلى صرف نسب ضخمة من الموازنات العربية على الأمن والتسلح، أما المدخل الثاني الاقتصادي، فقد تمثل في وجود حد أدنى من سبل العيش، بحيث لا يجوع الناس تماماً، ولا يشبعون بذات الوقت. غير أن الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته معظم الدول العربية واتباع سياسات الخصخصة، وانسحاب القطاع العام قد أدت إلى خلق جيوش من العاطلين عن العمل المؤهلين، والجائعين، فحافظت الدول العربية فقط حينها على المدخل الأمني القمعي لمعالجة أمور شعوبها.
 
الأمر المذهل في أمر هذه الأنظمة، هو المنظار الغربي والاستشراقي في التعامل مع الشعوب العربية، فقد صدّقت أو أرادت أن تصدّق هذه الأنظمة أن الشعوب العربية محكومة بالقدر، وغير فاعلة وسلبية، وغيرها من قائمة الصفات السلبية الطويلة التي أطلقها المستشرقون على الشعوب العربية، حتى استكانت الأنظمة إلى استحالة التغيير بغير موت الحاكم، فكانت ثورة الشعب التونسي والتي أنتجت سقوط النظام في 14 تشرين ثاني 2011، ومن بعدها ثورة الشعب المصري درساً تاريخياً في الفاعلية الجماهيرية والتغيير الشعبي. يصبح حينها مفهوماً حجم التخبط الذي تشهده الأحزاب السياسية المعارضة، وتحديداً في تونس ومصر، حيث لم تتوقع في أفضل أحلامها أن ينهار نظام الحكم في عدة أسابيع، لتجد نفسها أمام استحقاق تشكيل حكومة إنقاذ في تونس، وطرح برنامج سياسي جذري في مصر، وتفاجئ المراقبون من عدم امتلاك هذه الأحزاب وعياً سياسياً مناسباً للحظة التاريخية، فالتقطت الجماهير اللحظة، وصاغت واقعياً وعياً تاريخياً عبر عنه ببرنامج سياسي لا يقبل المساومة، فيما أترك معالجة موضوع الأحزاب العربية لمساحة أخرى.
 
سقوط أنظمة قمعية عمرت 23 عاماً في تونس، و30 عاماً في مصر (إذا استمر الضغط الشعبي) يؤشر وبشكل لا يقبل الشك أن الإنفاق الأمني الذي يأخذ حصة الأسد من موازنات الدول العربية عبثي ودون جدوى، فهو ليس إنفاقاً لتحصين الدول والمجتمعات، أو حتى لمواجهة أعداء محتملين، بل جله لقمع تطلعات الشعوب من خلال الأجهزة الأمنية المتعددة، تلك التي فشلت في حالتي تونس ومصر بعد كل هذه التدريبات والتجهيزات والإنفاق المبالغ به، فشلت في أن تقوم بصد هجوم الشعب الكاسح، فينبغي حينها أن تأخذ بقية الأنظمة عبرة في أن تحول هذه الموازنات للإنفاق على التعليم والصحة والتنمية المستدامة، إن أرادت أن تستمر في الحكم.
 
لقد فهم زين العابدين شعبه وهرب مخلفاً وراءه 23 سنة من الحكم، ولم يفهم حسني مبارك الأمر بعد، فهل فهم الآخرون أن التغيير حتمي، وأن حكم قراقوش والمداخل الأمنية لن يصلح الأوضاع العربية، وأن وعي الشعوب العربية أخذُ بالتبلور لجهة إدراك كامل لجدلية التغيير، فلقد فهمت الشعوب العربية -ولكن ليس على طريقة بن علي- فهمت طريقة التغيير وحتميته التاريخية، وامتلاكها ناصية الخلاص وتقرير المصير.
 
الأمر الثاني الذي أريد نقاشه، هو ضرورة ربط منجزات الثورات الشعبية في تونس ومصر والبلدان العربية -التي تشهد وستشهد تغيرات بنيوية كبيرة داخل مجتمعاتها - بتطوير الواقع العربي بأكمله، صحيح أن الجهد الشعبي والحزبي والسياسي يقوم حالياً بالتركيز على عملية الإصلاح البنيوي الداخلي من حيث الواقع السياسي والاجتماعي والديمقراطي والمطلبي، للتجاوب مع مطالب الشعوب المنتفضة، إلا أن هذا لا يمنع بالضرورة فتح "نافذة" تعمل على تطوير الواقع العربي لعدة أسباب، أهمها:
 
أولاً: إن أي دولة عربية منفردة لن تستطيع مقاومة كل الضغوط الخارجية، التي بدأت وستستمر عليها من جهة معسكر الدول الغربية للتجاوب مع مصالح هذه الدول العسكرية والأمنية والإستراتيجية.
ثانياً: إن الواقع العربي المتهلهل مرده رغبة الأنظمة الأمنية الحاكمة بعدم وجود واقع عربي عصري وديمقراطي، يساعد على التغيير، فتوق الشعوب العربية ومساندتها لثورتي تونس ومصر خير دليل على الوعي العربي القومي.
 
وعليه، إن أردنا الحفاظ على متكسبات الثورات في تونس ومصر، وتلك الأخرى القادمة، يجب النظر إلى وجوب إحداث تغيير جذري في سياسات العمل العربية المشتركة، ومناهج العمل، وأطر المؤسسية الناظمة لهذا. لذا يجب أن تنتبه الشعوب العربية إلى ضرورة بدء وضع مطالب تغييرية عربية، ونقاشها في الساحة الداخلية والخارجية، ويمكن نقاش أولاً حل جامعة الدول العربية بصفتها ممثلاً سيئاً لأنظمة الحكم العربية، هذه الجامعة التي تحول دورها إلى منظم لاجتماعات قمة، ومناسبات التقاط صور، وثانياً بدء صياغة سياسات عمل عربية قوامها اتحاد عربي يعمل وفق سياسات إستراتيجية واقتصادية واجتماعية وسياسية تحافظ على استقلالية قرار الشعوب والمجتمعات بوجه التدخلات الغربية من جهة، ومن جهة أخرى تساعد الشعوب على تطوير مجتمعاتها تنموياً واقتصادياً واجتماعياً.
 
وعندما قلت اتحادا عربيا، فهذا مرده تواضع في الطرح حتى يتم على الأقل إنشاء منظومة عمل عربية فاعلة وحقيقية، يتم تطوير أطرها المؤسسية لاحقاً، وبعد عودة مصر لوضعها الطبيعي، يمكنها المساهمة في احتضان الجسم الناشىء، وتفكيك القديم إلى غير رجعة.

التعليقات