21/02/2011 - 12:30

موت "الدولة الفلسطينية" والخيارات الأخرى../ عوض عبد الفتاح

إنها لمفارقة غريبة، أنه في الوقت الذي كانت ركائز نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا تتداعى، وصولاً الى انهياره تحت ضربات الثوار وثقل المقاطعة العالمية، كان نموذج آخر من الأبارتهايد في فلسطين، أكثر وحشية، يجري إسباغ الشرعية عليه وتقوية أركانه بمساهمة ممن حمل راية تحطيمه لعقود من الزمن

موت

إنها لمفارقة غريبة، أنه في الوقت الذي كانت ركائز نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا تتداعى، وصولاً الى انهياره تحت ضربات الثوار وثقل المقاطعة العالمية، كان نموذج آخر من الأبارتهايد في فلسطين، أكثر وحشية، يجري إسباغ الشرعية عليه وتقوية أركانه بمساهمة ممن حمل راية تحطيمه لعقود من الزمن.

كان نلسون منديلا، المحرر بعد ربع قرن من قيود السجن، وبقامته الشامخة يُقابل رأس النظام - دي كلارك، ويتسلم ورقة الاستسلام ليصبح البلد تحت حكم أصحابه الأصليين لأول مرة منذ عام 1632 عندما وطئت قدم أول مستوطن شواطئ جنوب أفريقيا. أما ياسر عرفات المقاتل ورمز الثورة الفلسطينية وقائدها لأكثر من ثلاثة عقود فقد وقع اتفاقًا مع رأس الدولة العبرية إسحق رابين.

عام 1994 هو عام تحرير جنوب أفريقيا وعام إسدال الستار على حقبة طويلة من النهب والاستغلال والفصل العنصري والجرائم. فالانتفاضات المتواصلة في ذلك البلد الأفريقي، وحملة الحصار والمقاطعة العالمية دفعت بقيادة النظام العنصري الى الاستسلام، والى التنازل عن الحكم لأصحاب البلد، فأصبح مانديلا رئيسًا لجنوب أفريقيا، دولة ديموقراطية، ودولة مساواة للجميع عبر الانتخابات الديموقراطية.

في فلسطين، الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى الشاملة والبطولية التي نشبت عام 1987، تُستثمر من القيادة بصورة متسرعة وبقصر نظر للقبول بفكرة الفصل، وتتخلى عمليًا عن الحل المرحلي بصيغته الأصلية، بعد أن تخلت نهائيًا عن الحل الديموقراطي الإنساني، أي دولة علمانية ديموقراطية في فلسطين. توقع القيادة اتفاق أوسلو من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، ويقوم في الضفة والقطاع نظام بانتوستونات. قال لنا قيادي بارز في المؤتمر الوطني الإفريقي في أثناء وجودنا كوفد من فلسطينيي 1948 قبل عامين، هو روني كسرلر، وزير الأمن الداخلي آنذاك، أنهم نصحوا القيادة الفلسطينية بعدم ارتكاب هذا الخطأ، لكن تلك القيادة لم تُصغِ.

اليوم، وبعد عشرين عامًا من المفاوضات المباشرة الكارثية، وبعد أكثر من خمسة وثلاثين عامًا من قبول الحل المرحلي الذي تعرض لتآكل مستمر وخطير ليصبح نسخة مشوّهة وممسوخة، تستفيق القيادة ولكن من دون أن تستخلص النتائج، لتجد أننا أمام واقع مخيف.

كانت رغبة القيادة التي وقعت اتفاق أوسلو تتمثل في تقريب هدف الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وإذا بها أبعد مما كانت عليه الحال عند بدء المفاوضات. فتحتَ مظلة هذه المفاوضات انشغلت إسرائيل بصورة حثيثة في قتل كل إمكانية فعلية لتحقيق هذا الهدف عبر الاستيطان والتهويد وبناء الجدران العازلة. وتتجلى كارثية هذا النهج في أن أصحابه، بعد استشهاد عرفات، تجرّدوا من جميع وسائل القوة وأولها خيار المقاومة والمرجعيات الدولية، وتحللوا من قيم حركة التحرر الوطني كلها.

بكلمات موجزة، بعد الجهد والتضحيات الجسام ودماء الشهداء الغزيرة على مدار مئة عام من الصراع ضد المشروع الاستعماري الصهيوني، نجد أنفسنا وقد جرى تطويعنا وترويضنا مساهمين بقصد أو بغير قصد في عملية التطبيع مع الاحتلال، والتنسيق الأمني معه عله يشفق علينا يومًا ويمنحنا بعضًا من فلسطين ـ ومن دون سيادة. لقد أتحنا له الفرصة، بل الفرص، ليواصل هيمنته المطلقة على فلسطين.

سوّغت القيادة الراهنة لمنظمة التحرير أو سلطة رام الله اندفاعها اللامعقول نحو إسرائيل وحلفائها بضعف الحالة العربية وتنصّل العرب من قضية فلسطين. ولكن القيادة لا تعيد النظر في نهجها حتى بعد أن بدأت البيئة الاستراتيجية لإسرائيل تتغير مثل تورط الولايات المتحدة الأميركية في العراق وأفغانستان، وظهور إيران وتركيا كقوتين إقليميتين، والأهم ظهور المقاومة اللبنانية وتوجيه ضربة لا يُستهان بها لقوة الردع الإسرائيلية. ولم يأتِ وقف المفاضات مع إسرائيل إلا بعد أن رفضت إسرائيل بحكومتها السابقة والحالية قبول تنازلات السلطة الفلسطينية المهينة.

ترى كيف ستنظر هذه القيادة الى المتغيرات العاصفة والاستراتيجية في كل من تونس ومصر؟ هل سيشجعها ذلك على إعادة النظر كليًا في منهجها ورؤيتها للصراع وطريقة التعامل معه؟ أم أنها تخشى هذه التطورات كما هي الحال مع الكثير من القوى التي تتحالف معها، أي المحسوبة على معسكر الاعتدال؟

من الواضح أن هذه القيادة غير مرتاحة لما جرى تحديدًا في مصر، لأن ما تنطوي عليه هذه الثورة وقبلها ثورة تونس من ضمان قوة مستقبلية للعرب وللفلسطينيين، وبالتالي من تهديد لسياسات الهيمنة الاسرائيلية والأميركية على المنطقة سيضعها أمام تحد جديد، ألا وهو ضرورة تغيير المنطق الذي يقوم عليه نهجها. فمنطق المقاومة التي كفرت به هذه القيادة يعود الآن الى المشهد بقوة . وما عاد يفيدها القول إن المقاومة المسلحة تؤدي الى الدمار. فهذه ثورة تونس وثورة مصر ثورة غير مسلحة، ثورة شعبية شبيهة بالانتفاضة الفلسطينية الشعبية عام 1987. اعتقدنا أن هذه القيادة تلتزم الصمت وإذ بها ترسل شرطتها وأمنها لتقمع مظاهرة متواضعة في رام الله تؤيد الثورات العربية...


من الدولة المرحلية الى الدولة الواحدة

شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية تجليات أو مراحل ثلاثا منذ الخمسينيات؛ القومية العربية (حركة القوميين العرب) التي ارتبطت رؤيتها بالتحالف مع طلائع الأمة العربية باعتبار أن قضية فلسطين هي قضيّة عربيّة والصراع هو عربي ـ صهيوني، وليس فلسطيني صهيوني. ثم الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة فتح وبقية منظمات المقاومة التي أخذت زمام المبادرة من الأنظمة العربية بعد فشلها في تحقيق التحرير. والوطنية الدينية ـ الإسلامية بقيادة حركة حماس.


ويلاحظ دارسو المسيرة الفلسطينية أن الفارق الزمني بين هذه التجليات أو التمظهرات للوطنية الفلسطينية هو عشرين عاما، وأن كل مرحلة من هذه المراحل تعود إلى إخفاق المرحلة السابقة في تحقيق الهدف. كما أنهم لاحظوا أن كل طرف كان يبدأ بالهدف الأقصى ـ تحرير فلسطين ـ ثم ينتهي إلى دولة في الضفة والقطاع. والوثائق التي كشفت عنها "ويكيليكس"، عبر الجزيرة، تكشف مدى الانحدار حتى عن هذا الهدف.

الخيارات والبدائل الأخرى

وصل خيار التسوية والمفاوضات في شأن دولة في الضفة والقطاع في ظل ميزان القوى الحالي، والمجرد من ورقة المقاومة أو من أي خيار سياسي آخر، إلى طريق مسدود. وقد فاقم هذا المأزق أو جعله أكثر وضوحًا وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو. كما أن خيار المقاومة أو خيار الجمع بين المقاومة والسلطة وصل أيضًا إلى طريق مسدود بسبب غياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة.

لقد تحولت قضية فلسطين من قضية عربية باعتبار أنها بلد عربي محتل يقتضي تحريره، إلى قضية نزاع على حدود. ومن قضية صراع عربي ـ صهيوني إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي. ومن الاستعانة والاستناد إلى الدعم العربي الشعبي والرسمي وقوى التحرر والديموقراطية في العالم، إلى الاستعانة والتعويل على ما يسمى بالمجتمع الدولي ـ والأصح على حليف إسرائيلي الرئيسي أي أميركا. والأسوأ تحول سلطة أوسلو، وهذه نتيجة منطقية لهذا المسار، إلى سلطة يعتمد بقاؤها ووجودها على معونات الدول المانحة، وعلى خضوعها لشروط لعبة هذه الدول المستندة إلى ميزان القوى القائم كمرجعية للمفاوضات الجارية منذ أوسلو، وهي مرجعية بديلة من القرارات الدولية التي نصت على ان الإحتلال عام 1967 غير شرعي، والمستوطنات غير شرعية.

ترى كيف ستنظر هذه القيادة الى المتغيرات العاصفة والاستراتيجية في كل من تونس ومصر؟ هل سيشجعها ذلك على إعادة النظر كليًا في منهجها ورؤيتها للصراع وطريقة التعامل معه؟ أم أنها تخشى هذه التطورات كما هي الحال مع الكثير من القوى التي تتحالف معها، أي المحسوبة على معسكر الاعتدال؟

هذا المسار التفاوضي منذ أوسلو، يجري إسميًا تحت شعار «الدولتين»، وبعضهم يُحبّ أن يقول «دولتان لشعبين» مع كل ما يعني ذلك من تكريس للطابع العنصري لإسرائيل واستثناء أكثر من نصف الشعب الفلسطيني من الحل ـ وهم اللاجئون وعرب 48.

فما هو مصير شعار الدولة المرحلية، أو شعار الدولتين أو شعار «دولتان لشعبين» بعد عشرين عامًا من التفاوض على هذا الخيار؟ وهل كان هذا الخيار صحيحًا في الأصل، وهل عدم تحققه كان جراء عدم صحته أو واقعيته؟ أم لأنه افتقد استراتيجية العمل الملائمة؟

ربما كانت هذه الصيغة واقعية قبل عقود، أو بعد احتلال إسرائيل الضفة والقطاع لو كان هناك تخطيط سليم لاستراتيجيات النضال. ولكن الوقائع الاستيطانية الضخمة التي تسارعت على الأرض من دون أن تتم مواجهتها باستراتيجية فلسطينية سليمة تجعل هذا الحل يبدو اليوم أمام الكثيرين غير واقعي حتى لدى بعض من تبنوا حل الدولتين. بل يظهر أنه لا يقل طوباوية عن حل الدولة الواحدة.

إن النخبة الفلسطينية التي أدارت المفاوضات أو قادت هذا المسار لم تدرك حقيقة المشروع الإسرائيلي أو الحل الصهيوني النهائي. ففي الوقت الذي كانت إسرائيل تفاوض الفلسطينيين على الحل، كانت تصوغ حلاً آخر كليًا على الأرض، ينسجم مع الرؤية الصهيونية. إن اتفاقية أوسلو بالنسبة لإسرائيل لم تكن موقتة كما كانت بالنسبة الى قيادة منظمة التحرير. لقد كانت هي الحل النهائي. وإلا فلماذا تواصل الاستيطان وتضاعف في السنوات الخمس الأولى بعدها؟

تقوم الرؤية الصهيونية على أساس أن كل فلسطين هي أرض يهودية، والمشكلة التي تحتاج إلى حلّ هي الكم العربي فيها الذي يمكن بفضل تكاثره أن يخلق أو يؤدي إلى حالة من الإختلال الديموغرافي الذي من شأنه نسف الطابع اليهودي للدولة، وربما الدولة كلها. طبعًا عودة اللاجئين إلى الدولة غير واردة إطلاقًا.

إن مشكلة منح المواطنة أو عدم منحها للسكان الفلسطينيين الباقين هي المعضلة التي تسعى إسرائيل إلى حلها منذ اتفاقية أوسلو. الأمر الذي يجعل الحكم الذاتي الموسّع هو الشكل الأقصى لسلطة فلسطينية في إطار دولة يهودية تسيطر على كل فلسطين، ما دام الفصل مستحيلاً بسبب الاستيطان.

هكذا أصبحت الدولة الفلسطينية الافتراضية جزءًا من جسم الدولة اليهودية. هذه النتيجة هي التي أعادت طرح فكرة الدولة الواحدة بقوة أكبر من السابق، وبالتحديد ثنائية القومية عند عدد من المثقفين اليهود ممن كانوا يعتبرون يسارا غير صهيوني، أو دولة ديموقراطية علمانية أو ثنائية القومية عند أوساط أكاديمية ومثقفة فلسطينية.

إن فكرة الدولة الواحدة، على اختلاف مضامينها أو طبيعتها؛ ثنائية القومية، أو دولة ديموقراطية علمانية تقوم على المواطنة الفردية أو دولة كونفدرالية، تعود بقوة وبصورة منهجية إلى طاولة النقاش الأكاديمي بشكل خاص، ولا نقول إلى ساحة النضال. وبدأ التعامل مع الفكرة يتخذ شكلاً جديًا لدى بعض المثقفين من حيث التحليل والدخول في المبررات والتسويغات وفي المضامين أيضًا وكيفية تحقيقها.

ويُمكن ملاحظة التحول المتزايد بين الناشطين اليهود (إسرائيليين وغير إسرائيليين)، باتجاه الحديث عن مستقبل مختلف للفلسطينيين واليهود: دولة ديموقراطية واحدة للجميع.

فالكاتب اليهودي المعروف والمحاضر في جامعة نيويورك، توني جات، عبّر عن هذا التحول في مقالة أثارت ضجة وهجمة عنيفة من جانب مناصري اسرائيل واللوبي الصهيوني متهمين إياه باللاسامية وذلك عام 2003، قال فيها: «لقد حان الوقت للتفكير فيما لم يكن بالإمكان التفكير فيه» (...) «نحن نقوم بتأجيل الخيار الأصعب الحتمي، فقط، أقصى اليمين وأقصى اليسار يعترفان أن الخيار هو بين إسرائيل الكبرى المطهرة عرقيًا أو دولة واحدة للجميع».

أما الناشط اليساري حاييم هنغبي، الذي أيّد إتفاقية أوسلو وتراجع عنها بعد سقوط الأوهام؛ واليوم يؤيّد دولة واحدة فهو يقول: «بدل أن يؤدي الصراع إلى خلق نظام أخلاقي وتفكير عقلاني فقد جعلهم مدمنين على استعمال القوة، ولكن هذه القوة استنفدت نفسها. إذا استمرت اسرائيل كدولة كولونيالية فلن تعيش. في نهاية المطاف فإن المنطقة ستكون أقوى منها، وفي النهاية سيكون أصحاب الأرض الأصليون أقوى من إسرائيل. أولئك الذين يعيشون بالسيف سيموتون بالسيف».


ما هو مصدر فكرة الدولة الواحدة؟

لفكرة الدولة الواحدة خلفية تاريخية وأخلاقية باعتبار أن فلسطين كانت دولة عربية قبل الغزو الاستعماري والصهيوني للمنطقة. وظل العنصر العربي هو الغالب على فلسطين حتى عشية النكبة، أي قبل تنفيذ جريمة الطرد الجماعي.

وقد كان مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة يتمثل في تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني ومقاومة تحويل فلسطين إلى دولة يهودية صهيونية. وكان يعني تحرير فلسطين إقامة دولة فلسطينية على غرار سوريا ولبنان والعراق والأردن وغيرها من الدول العربية. وبالتالي فإن كل السكان على تنوع انتماءاتهم الدينية والإثنية هم مواطنون في هذه الدولة.

غير أن الواقع الديموغرافي اليهودي الذي أفرزه المشروع الكولونيالي الصهيوني ـ الغربي أصبح من الصعب تجاهله أو التعامل معه بأسلوب الإقتلاع. ومع نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة، تنظيميًا وسياسيًا وفكريًا، طُرحت فكرة الدولة الديموقراطية العلمانية ذات البعد الإنساني ليعيش الجميع بمساواة تامة. وإن ظلت شعاراً غير واضحٍ.

النموذج الملهم ـ جنوب أفريقيا

تستمد اليوم فكرة الدولة الديموقراطية الواحدة رؤيتها من مصادر تاريخية عدة خاصة بفلسطين، ولكن منذ أواخر التسعينيات أصبح النموذج الجنوب أفريقي، المتمثل بإسقاط نظام الأبرتهايد عبر مواجهته بنظام أخلاقي وإنساني بديل عام 1994، هو النموذج الملهم للعديد ممن يناضلون ضد العنصرية والاحتلال الكولونيالي في العالم.

خاض الأفريقيون نضالهم ببرنامج واضح وبعزم وإصرار على تحقيق مشروعهم، الذي اعتبره الكثيرون طوباويا وغير قابل للتحقق حتى اللحظات الأخيرة من انهياره.

لم يقم النموذج الإفريقي على الانفصال أو التقسيم، بل اختار الجنوب أفريقيون منذ البداية، النموذج الديموقراطي في وطن واحد وعلى أساس المواطنة الفردية المتساوية الكاملة one man one vote . يجادل البعض في أن الحالة الجنوب أفريقية تختلف اختلافًا جوهريًا عن حالة الصراع في فلسطين. علاوة على رفض الصهيونيين هذه المقارنة جملة وتفصيلاً، بل يُجنّ جنونهم عند سماع هذه المقارنة. ولكن في قرارة أنفسهم يعرفون أوجه الشبه الكبيرة، ويدركون الخطورة المترتبة على عقد المقارنة والإنتقال إلى خطوات فعلية.

أسباب براغماتية

أما على المستوى البراغماتي، فإن من يناقش ضرورة هجر فكرة الدولتين، ينطلق من الوقائع المادية التي فرضتها إسرائيل، وأنه لم يبق مكانًا لدولة فلسطينية ذات سيادة. ولأن إسرائيل تريد أن تحتفظ بالسيطرة الفعلية على كامل فلسطين، وأن يكون الكيان الفلسطيني تحت سيطرتها. إسرائيل لا تريد الإنسحاب الكامل من الضفة والقدس، وبطبيعة الحال ترفض عودة اللاجئين، ولا تريد أن يتحول الكيان الإسرائيلي العنصري الذي يبسط سيطرته على الوطن الفلسطيني كله إلى دولة ديموقراطية، دولة مواطنين لا دولة اليهود.

من هنا ينطلق منطق الداعين إلى تحويل النضال من النضال الوطني التحرري إلى نضال تحرري ديموقراطي ـ فتتحول البلاد إلى وطن لملايين اليهود الإسرائيلييين والعرب كمواطنين متساوين، أو إلى وطن لمجموعتين سكانيتين متمايزتين؛ الشعب الفلسطيني والمجتمع اليهودي الإسرائيلي. إن هذه الفكرة تشبه الفكرة الأخلاقية التي واجهت المؤتمر الوطني الأفريقي على طول الطريق. وهي التي حظيت بمساندة شعبية عالمية، لأن المجتمعات الغربية التي تعلن عن نفسها دولاً ديموقراطية من المفترض أن تجد نفسها منسجمة مع هذا التوجه. هذا فضلاً عن كونها تشكل عامل إحراج وضغط على الدولة العبرية، وتجعلها ضعيفة في الدفاع عن مشروعها العنصري أو رفضها المشروع الديموقراطي.

من هنا جاءت أقوال إيهود أولمرت في معرض دفاعه عن خطة الإنفصال عن قطاع غزة التي قادها شارون:
«لا يوجد وقت غير محدود لدينا. المزيد من الفلسطينيين لم يعودوا معنيين بحل الدولتين. إنهم يريدون تغيير جوهر الصراع من النموذج الجزائري إلى النموذج الجنوب أفريقي، أي من النضال ضد الإحتلال إلى النضال من أجل دولة واحدة. هذا بالطبع نضال أنظف بدرجة كبيرة. بالنسبة إلينا هذه نهاية للدولة اليهودية».

إن أولمرت والنخبة الإسرائيلية يخشيان من الانفضاح الكامل لنظام الأبارتهايد الصهيوني الآخذ في التشكل في الضفة والقدس، والذي بدأ ينتقل إلى داخل الخط الأخضر منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وما عاد سهلاً تسويق إسرائيل كدولة التنوير في الشرق الأوسط. فكيف يطلق على نظام في جنوب أفريقيا يحتكر الإمتيازات والحقوق وحق التصويت اسم نظام فصل عنصري والذي تجنّد العالم كله لإسقاطه، في حين أن نظامًا أسوأ منه، هو النظام الصهيوني في فلسطين يطلق عليه «الديموقراطية الوحيدة في المنطقة».

هناك إذاً إصرار إسرائيلي على رفض خيار الدولة ذات السيادة الكاملة في الضفة والقطاع، ورفض الدولة الواحدة بطبيعة الحال، والسعي بدلاً من ذلك، إلى وضع ترتيبات جديدة، مثل فك الارتباط، وتهويد القدس، وإقامة الجدار الفاصل، وتكريس الكتل الإستيطانية، وإقامة المعازل. وفي داخل الخط الأخضر، هناك التخطيط الإسرائيلي لتبادل سكاني مع سلطة الحكم الذاتي، واتخاذ إجراءات أخرى لتقليل عدد السكان العرب داخل إسرائيل، وتمرير القوانين العنصرية السافرة، ومخططات فرض قانون الولاء على المواطنين العرب وغيرها من الإجراءات والممارسات التي تهدف إلى تكريس الطابع الإثني العنصري للدولة العبرية، وبالتالي تكريس الامتيازات اليهودية.

وبكلمات أخرى طالما مرّ هذا الزمن الطويل على عملية التفاوض على حل الدولتين؛ وأصبح الجهد المبذول في هذا الاتجاه ليس مضيعة للوقت فحسب، بل وصفة لاستمرار الحروب، والسلب والقمع. فلماذا لا يجري تحويل المسار وبذل الجهود في رسم إستراتيجية بعيدة المدى، دولة واحدة، أو صيغة إسقاط النظام العنصري الإسرائيلي.

ليست الدولة الواحدة مطروحة للتفاوض، ولا يمكن أن تكون جزءا مما يسمى بالعملية السلمية؛ فالصعاب التي تقف أمام هذه الصيغة كبيرة؛ منها الانقسام الفلسطيني، والإجماع الدولي، والوضع العربي والإقليمي، والمجتمع الإسرائيلي، وموقف حماس من الدولة الديموقراطية الواحدة. هذه المعطيات، وأهمها واقع الحركة الوطنية المتشظي، لا تسمح بسهولة بإحداث نقلة إستراتيجية في التوجه الرسمي الفلسطيني. ولكن هل يبقى المعنيّون بخيارات بديلة رهائن للموقف الفلسطيني الرسمي أو شبه الرسمي؟ ألا يحق لهم، بل ألا يجب عليهم أن يُصعدوا من نشاطهم النظري والعملي باتجاه بديل ومكمل؟ إنها تحتاج الى نضال عسير وتخطيط سليم.
 

التعليقات