01/03/2011 - 14:46

قراءة في الثورة الشعبية العربية../ ناصر السهلي

العربي لم يعد يقبل أن يعامل وفق نظرية أنه غير راشد وبأنه يحتاج لهذه الأنظمة ليستطيع الحياة وبدونها سيكون تائها وضائعا

قراءة في الثورة الشعبية العربية../ ناصر السهلي
ما هو القاسم المشترك بين ردود أفعال أنظمة الحكم العربية التي تواجه ثورات وانتفاضات شعبية ترفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"؟
 
خطاب سياسي وإعلامي رسمي، يمارس حالة إنكار شديدة الوضوح: نحن لسنا تونس.. نحن لسنا مصر.. نحن لسنا ليبيا.. ولسنا اليمن ولسنا الأردن ولا البحرين ولا الجزائر ولا المغرب ولا حتى جيبوتي وموريتانيا.. بمعنى من المعاني يلوذ كل نظام بخطاب يخبرنا بأنه وإن كان جزءا من الحالة العربية إلا أنه متفرد في حالته وفي تجربته!
 
هكذا بدا المشهد بعد اندلاع ثورة تونس.. وبالرغم من كل التراكمات التي كانت تشير للانفجار، فقد صرح وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط تصريحه الشهير عن "هراء" المقارنة بين تونس ومصر.. وهكذا انتقل الخطاب إلى معمر القذافي الذي استبق الأمور بتأنيب الشعب التونسي لأنه ثار على نظامه "الزين أفضل واحد لكم وكان يجب أن يظل للأبد".. لكنه ركب الموجة وصار يعتبر اللجان الشعبية التي شكلها أهل تونس ومصر لحماية الأحياء والممتلكات من بلطجية النظامين دليلا على صحة نظريته وقراءته لذاته، باعتبار التسمية استنساخا لما يسمى اللجان الشعبية في ليبيا..
 
قيل الكثير عن تأخر الأنظمة عن إدراك ما يطالب به الشعب.. وقد أثبت الواقع الثوري المتنقل بين عواصم ومدن العرب صحة ذلك القول.. بدا المشهد وكأنه يُحصر في رغيف خبز ومطالب تتعلق بمرتبات وليس بسياسات فساد وترهل وانكماش واحتكار الأنظمة لنواحي الحياة واتساع الفجوة بين النخب والشعب.. وحين بدا أن القصة تتدرج من قضايا مطلبيه إلى حد المطالبة بتغيير الأنظمة بإسقاطها، وبفعل التدرج الطبيعي للوعي المتراكم بطبيعة دور ووظيفة النظم السياسية داخليا وخارجيا تنفجر المطالب كتلة واحدة: الشعب يريد إسقاط النظام!
 
التخلي الغربي عن الحكام..
 
لم تفلح، وبظني لن تفلح، كل الخطابات الإعلامية والسياسية الرسمية في التهويل والتخويف من "خيانة الشعب" عبر مؤامرات وأجندات خارجية.. ولا حتى من فوضى وصوملة وقبلية وعجز الشعب عن تسيير حياته بدون وجود "القائد" وحاشيته.. وطالما أن رهان النظام الرسمي العربي ركز على تفهم الحلفاء في الغرب لضرورة بقائه من أجل المصالح المشتركة فقد قفزت وتجاوزت الأجيال العربية الشابة مسائل كثيرة قبل بها الجيل السابق الذي كان مستعدا للقبول بأي فتات يلقيه هذا النظام تحت بند "الحوار والإصلاح"..
 
وطالما أن المجتمعات العربية فهمت أنها تملك من القواسم المشتركة ما لم تملكه الأنظمة العربية، رغم شعاراتها وقممها المتتالية عن قوميتها وقضاياها المشتركة، فقد تبين للشباب العربي أن تشابها كبيرا بين هذه الأنظمة : الإعلام المعادي.. المؤامرة.. حسد على "ديمقراطيتنا".. شباب مهلوس ومغرر به..إلخ من الشعارات التي عبر عنها صراحة وعلانية أركان نظام مبارك والقذافي ونجله سيف الذي يتوعد الليبيين في وجهه الآخر الرافع لأصبع التهديد والوعيد بالقبلية والاحتراب..
القذافي الأب أراد تطهير ليبيا " بيت.. بيت وزنقة..زنقة"! وبمن وممن"يطهر" ليبيا؟ بمرتزقة ومرتشين من الخارج؟ كدلالة على احترام الرجل لشعبه وسيادة بلده؟.. قال القذافي لشبكة ABC : لقد خذلتني أميركا وتخلت عني!.. فهل كانت سياسة الاحتواء وصلت إلى الحد الذي تداخلت فيه أجندات أميركا مع مصالح "أمين القومية العربية"؟.. لا شك أن القومية العربية براء من الرجل وادعاءاته الأخرى..
 
فالشعب الليبي الذي أجمع بكل نخبه على رفض التدخل العسكري الغربي أوضح أي نوع من الثورات التي نعيشها، واتضحت صور تراكم الوعي بما أذهل حتى المراقب الغربي الذي صار يتحدث عن ضرورة استفادة الشارع الأوروبي من تجربة الشعوب العربية في ظل انهيار التعددية الحزبية الحقيقية وغياب الفوارق بينها في تماهي البرامج السياسية للمعارضات والحكومات يمينا ووسط يمين.. لذا ليس غريبا أن تنال هذه الثورات الشعبية العربية الكثير من الإعجاب عند قوى يسارية وتقدمية غربية في ظل توغل رأسمالي منهك في الغرب.. في المقابل نجد بعض النخب العربية اليمينية حتى النخاع تشكك في أهداف هذه الثورات وقدراتها وتجاوزها حتى برامج القوى التقليدية للمعارضة..
 
بمعنى من المعاني عبرت الثورات العربية الشعبية عن وجهين متناقضين : وجه مترهل ومتخلف للدولة والأنظمة والأحزاب والمجموعات السياسية من ناحية، في مقابل تقدم وتطور وحيوية راغبة بالتغيير والحرية والعدالة عند مجموع الجماهير العربية وبالأخص عند الجيل الشاب.. ومن الصحيح القول إن الشعوب استفادت وبسرعة فائقة من تجارب بعضها في التعبير عن مكنونات الغضب المتراكم.. و بينما لم يخف هؤلاء استفادتهم من الأدوات والتجارب عند الأشقاء في الدول العربية الثائرة، وقفت الأنظمة العربية عاجزة عن التقاط الإشارات وبدت بطيئة ومتأخرة في خطواتها التي إذا ما وصلت فبعد فوات الأوان وتصاعد المطالب الشعبية..
 
في مسألة تبادل التجارب وتطبيقاتها استوقفت الجميع مجموعة من الإرشادات والنصائح المتبادلة بين شباب وشابات الثورة عبر الأدوات الإلكترونية المتاحة، ليس فقط عبر فيس بوك بل كل أدوات الإعلام المجتمعي، من كيفية التحرك ومواجهة القمع وشل حركة سيارات رش الماء واتقاء الغازات إلى استخدام التوثيق..
 
في برامج الانترنت للدردشة وبرامج المحادثة وصل عدد المناقشين للثورة الليبية يوم 18 فبراير أكثر من 4000 عربي، كان الليبيين ونتيجة لتجربة الثورة المصرية يحاولون بكل السبل الوصول إلى محطة "الجزيرة" وبعضهم يرجو العرب الآخرين مساعدتهم للوصول للمفكر العربي عزمي بشارة لأنهم أرادوه أن يحلل لهم كما حلل وضع الثورة المصرية.. والبعض كان مذعورا من أن تخذله وسائل الإعلام العربية، وعلى رأسها الجزيرة نتيجة العلاقات السياسية.. أي بعد يومين من اندلاع الثورة في بنغازي كان الليبيون، كنموذج لحالة الإمساك الصحيح بالبوصلة، يحاولون فك العزلة عن شعبهم لأنهم وكما قالوا "النظام عندنا ليس مثل مبارك أو بن علي" إنه نظام دموي ولن يمتنع عن القتل الجماعي بحق المدنيين.. وهو ما حصل لهم في السابق دون تركيز إعلامي حقيقي على ما جرى لا في سجن بوسليم ولا بقصف الجبل الشرقي والاغتيال الجماعي للضباط وأبناء القبائل..
 
الإعلام والتشويه
 
في ليبيا كان المتظاهرون يخيطون علم الاستقلال بالعلمين المصري والتونسي وعلم فلسطين.. يرتدون الكوفية الفلسطينية كدلالة ومؤشر على عمق الوعي الذي تمكن من الثائرين وعملهم في سبيل حرية متكاملة..
 
فلم نكن أمام حركات،احتجاجية ثائرة، مرتبكة كما قدمتها إحدى القنوات الفضائية العربية التي إما أن خط التحرير عندها مرتبط بأجندات تحذيرية ومهولة لكي لا تصل امتدادات الثورة إلى تخوم بعض دول الخليج العربي، أو تنم عن حالة جهل وتخلف إعلامي رغم وفرة الموارد البشرية والمالية.. مثلا حين نتحدث عن ثورة شعبية، معظم الفضائيات حتى الغربية سمتها بثورة، ظلت تلك الفضائية وغيرها تتخبط بين "المحتجون" و"المنشقون"..
 
ولإظهار مهنية بائسة بدت الترجمة الحرفية لمفردات أوروبية وأميركية ( في الحرب الباردة) هي المسيطرة حين الحديث عن استقالات سفراء ووزراء كمنشقين.. وبينما كان المراسل يتحدث عن هدوء و"ربما هناك قتلى" كان المشهد فعلا هزليا.. سوق الجمعة في محيط طرابلس وتاجوراء يشهدان القتل والسحل المعروض بكثافة في ذات المحطة وفي غيرها من خلال صحافة المواطن التي سبقت الصحافة التقليدية يتحدث المراسل للمشاهد عن أن الوضع طبيعي "و ربما جرت مناوشات بعد صلاة الجمعة في مناطق لم أكن فيها، هناك ربما جرحى"..
 
المراسل الصحفي في الثورات ليست مهمته حصر نفسه في الشوارع التي تختارها الاستخبارات التي رأينا رجلا يرتدي النظارات مرافقا لهذا المراسل حتى في تخوم محافظة الزاوية وغيرها حين كان يقوم بعملية تقصي عن وجود مرتزقة من عدمه (...).. فهل مهمة المراسل أن يجلس في فندق بالعاصمة حيث كلما تحرك وجد "بالصدفة" مظاهرات وسيارات تحمل صور "القايد" وتهتف بحياته!.. نقل الرواية الرسمية على لسان سيف القذافي والمقربين منه ليست مهمة الصحافة الاستقصائية، والتقصي في حالة كهذه لم يكن يستدعي هذه الفضيحة الإعلامية الموثقة.. ( كما يفعل بعض المراسلين الغربيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأغلبهم يقيم في القدس الغربية وفنادقها، ويخرجون علينا بتقارير كأنها من الميدان بينما هي من وزارة الحرب والخارجية الصهيونية)..
 
التركيز على رواية "القصف" والتهكم عليها من قبل المراسل تدل على أشياء كثيرة نترك لغيرنا أن يجيب على وظيفة الإعلام ومساراته في كل الحالة العربية.. فهل القمع الذي يجري ويسيل الدماء يقتصر فقط على تفنيد أو تأكيد رواية استخدام سلاح الطيران؟.. ثم ماذا تفعل الحوامات وهي تطلق من مدافعها الثقيلة على الشعب..؟ إذا كان الإختلاف على كلمة قصف يعني التحيز وبخبث للرواية الرسمية فهذا يدل على سياسة تحرير تحمل من الكثير من الجهل والكثير من النوايا التي نجدها في الرواية التالية: المراسل يتحدث عن مسلحين في الزاوية ومحاصرين في ميدان المدينة ولا يستطيعون الخروج من ساحتها!
 
لن أقول ما قاله شهود العيان.. بل ما ذكرته معظم القنوات عن انضمام مئات الجنود والضباط لصفوف الثورة، وما ذكره الصحفي أحمد الزاوي منتقدا هذه الرواية الخبيثة ومفندا إياها بشرح مسهب لما يدور.. والسؤال يصبح: إذا كانت القناة قادرة على التواصل مع صحفيين عبر الهاتف فما الحاجة للكاميرا والمراسل إذا لم يستطع تأكيد الحقيقة وارتجافه الظاهر وهو ينقل الصورة المقلوبة؟
 
هذه الطريقة تم اتباعها في القاهرة أيضا.. وسبق أن ذكرنا كيف بدت محاولات اختزال ما يجري في تركيز الكاميرا على النيل الهادئ وترويج الرواية الرسمية التي أرادت الإيحاء بأن أصحاب الأجندات وقطع دجاج الكانتاكي في ميدان التحرير ليسوا سوى أقلية..
 
لم تنطل على الكثيرين تلك الأساليب الإعلامية التي امتدت لتصل لسان الرئيس اليمني ليخبرنا وبكل بساطة: العالم العربي يتعرض لمؤامرة تدار من غرفة عمليات في تل أبيب!
 
عبثية رمي التهم على الشعوب
 
عجيب جدا هذا التعامل مع حركة الشعوب واتهام الملايين بالهلوسة والعمالة والجهل.. فكيف لتل أبيب المرعوبة من التغييرات التي يحدثها الشباب العربي في أنظمة يقولون عنها بأنفسهم إنها الأكثر مواءمة ومسايرة لها وحتى الحديث عن مبارك ككنز استراتيجي أن تذهب لتخريب ما هو في مصلحتها؟
 
ثم دعونا نأخذ رواية المؤامرة التي تتحالف فيها واشنطن وتل أبيب على "النظم القومية والوطنية جدا" لنفحصها قليلا بسؤال بسيط: أين هي أجهزة الأمن والدولة كلها في تلك النظم السياسية لمنع التغرير بالشباب العربي؟ فإذا كانت تلك النظم السياسية، كما تروج، تعرف متى عاشر الرجل زوجته فلماذا عجزت عن ملاحظة ما يجري من "مؤامرات"؟
 
ثم أليس نظام علي عبد الله صالح هو النظام الذي استباح سيادة بلده عبر اتفاقيات أمنية مخجلة ومهينة لسيادة الشعب بالسماح لطائرات واشنطن بالإغارة وقتل مواطنيه؟..
 
التسويق الرث الذي تديره الماكينة الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية لما يجري على امتداد الوطن العربي تسويق فاشل فشلا ذريعا في العرض والتحليل للمقدمات والنتائج.. أحد أخطر الأمثلة هو قناة "الجماهيرية" التي كانت تستضيف يوميا مجموعة من المتصلين على امتداد الوطن العربي ليمجدوا بالزعيم معمر القذافي.. لا أشك بأن البعض انطلق من دور القذافي الخطابي في ثمانينيات القرن الماضي.. لكن لم يتوقف أحد أمام عبثية القذافي بما فعله على الساحة الفلسطينية من تقسيم وتخريب واختطاف موسى الصدر ووعد الفلسطينيين واللبنانيين بحماية سماء لبنان فترة اجتياح 82 ثم الوصول إلى خلاصة "انتحروا" فيما شاهدنا كيف أن طائراته تُستخدم في عبثية أخرى في تشاد وفرضه القتال على العرب المقيمين في ليبيا وعبثية رمي الفلسطينيين إلى الصحراء بعد "أوسلو" ليعودوا إلى فلسطين (حينها كتبت شخصيا في القدس العربي "مهلا أيها الوطن العربي الكبير" فجاء من يعاتبني من أتباع هذا النظام).. وثم تدرجه في العبثية بقصة الحجاج الليبيين إلى القدس.. ودوره الإحباطي بمخترعات "اسراطين" تارة والكفر بالعروبة تارة أخرى..حتى وصلت المسألة حد همس بعض الليبيين لي شخصيا بأن فتحي الشقاقي الذي اغتالته الموساد في مالطا، أكتوبر 95، كان للقذافي دور ما فيه كثمن في محاولات فك الحصار.. تماما مثلما جرى بعد ذلك من خطوات إهدار أموال الليبيين على خلفية إسقاط طائرة بان ام الأميركية فوق لوكربي.. حتى وصلنا إلى تسليم لوائح بمن أطلقت عليهم واشنطن صفة "الإرهابيين العالميين".. إلخ من الممارسات المناقضة تماما للشعارات "الثورية والقومية"..
 
فعند الحديث عن أفعال القذافي ورميه التهم على شعبه مرارا وتكرارا بأنهم مجموعة "مساطيل وعملاء ومهلوسين" يكون المقصود مجموعة من نمطية الخطاب الرسمي العربي وتضامنه مع بعضه في مواجهة الثورات الشعبية المعبرة عن تراكم للاحتقان التاريخي.. فلولا أن الأوضاع العربية الرسمية لم تدخل كل المذلة والمهانة في العلاقة الاستعلائية والخدمية- الوظيفية بينها وبين مجموعة الغرب الرأسمالي والإمبريالي الأميركي بالأوامر والمحفزات للاحتواء والإبقاء عليها باسم الاستقرار وانطلاقها هي بنفسها في ممارسة ذات الاستعلاء والاستغباء لشعوبها وللنخب المعارضة التي تحولت في أغلب الأحيان إلى ذيلية مهمشة إن وافقت ومحاربة بدموية إن رفضت العمل تحت عباءة الحاكم في دورة اقتصادية وسياسية وإعلامية متخلفة ومتحجرة ترى البلاد ملكا لها ولمن يرثها في الحكم.. مرفقا ذلك كله بمجموعات دينية انتهازية / وصل الحد بها أن يقول عنها سيف القذافي "كانت تلعق أحذيتنا"/ بفتاوى سخيفة عن عدم جواز الخروج عن الطاعة لولي الأمر واعتلاء المنابر للتسبيح بحمد الحاكم وكأن الله لم يخلق سواه وبطانته الفاسدة والمفسدة.. عدا عن المافيا المرتبطة والمتشابكة المصالح مع شركات عابرة للقارات والقوميات في فعل أظهر الصورة وأوضحها فيما رأته مصر بعد ثورتها من مليارات منهوبة وهدر للمال واستغلال للنفوذ وشراء وتزوير للسياسة والاقتصاد..
 
بعض الحكام العرب، الذين اعتقدوا واهمين أن الزمن توقف عند قصورهم، لم يستوعبوا بعد أن مطالب الإصلاح التي طولبوا بالقيام بها منذ 15 سنة يستمرون في تخلفهم الزمني والوقتي فيصابون بدهشة وذهول الحدث بدلا من الإفادة من التجارب التي تحدث حولهم بإجراءات سريعة تجمع كل أقطاب المجتمع على طاولة حوار وطني حقيقي لمواجهة التحديات بانفتاح كلي على مطالب لم تعد تعرف خطوطا حمراء.. وعليه سيستمر البعض في رمي اتهامات للملايين من العرب الثائرين على الاستخفاف بهم.. وبعض الدول العربية التي تعيش في ظل تركيبة اثنية وقومية ودينية متعددة ( وربما قبلية في حالة اليمن) لا تنفع معها دعوات التهدئة وفتاوى عدم الخروج للشارع كما حدث في العراق الذي قام نظامه "النموذج" بدبابات أميركية بقتل أفراد الشعب لمجرد أنه خرج في مظاهرات سلمية اعتقادا منهم بأن الرغبة الأميركية والغربية بالاستقرار ستلجم أي حراك شعبي..
 
لقد أثبتت حركة الشعوب العربية أنها غير آبهة بكل ما تقوله واشنطن وكل ما تفعله أدوات القمع المصدرة من الغرب إلى هذه الأنظمة القمعية التي عاشت طمأنينة الحماية الخارجية.. فما عاد من المحرمات حتى الدعوة إلى ملكية دستورية تحد من سلطات العائلات الحاكمة لمصلحة سلطة الشعب.. رغم كل محاولات الترقيع التي لن تجدي نفعا..
 
ختاما: لو كنت حاكما عربيا
 
تستطيع بعض الدول العربية، التي تواجه بالفعل محاولات هائلة لتخريب واقعها عبر توجهات أميركية تحاول الاستفادة توظيفا لما يجري من ثورات، القيام بخطوات جريئة تفتح الآفاق نحو تغيير شامل يحمل للشعوب ما تنادي به من حرية وكرامة وتعددية وعدالة اجتماعية.. لقد أثبتت الشعوب العربية حالة من الوعي بما تخطط له واشنطن وهي شعوب أفشلت دوما مشروع أميركا لما سمي حينه "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" وهي بهذا المعنى قادرة على تلمس حماية أوطانها وفرز حالة من التماسك الداخلي والقومي بما يقطع الطريق على محاولات إجهاض تغييراتها وثوراتها بأدوات ثورية واضحة المعالم والأهداف..
 
ليس ضعفا أن تقدم بعض حكومات الدول العربية التي لها رصيد وطني وقومي بالدعوة إلى طاولة حوار وطني لا تستثني أحدا، لسحب الذرائع حتى من الأدوات الأميركية، لإيجاد صيغ وطنية للتغيير الذي لا يمكن الوقوف بوجهه بالأدوات التقليدية.. وخطوات كهذه ليست أقل ثورية من حالة الثورة الشعبية، فهي إذ تشرك كل مكونات المجتمع بعملية دمقرطة واضحة وعدالة في تقسيم الثروة وإيجاد حلول وطنية لمعضلات كبيرة سينظر إليها على أنها إقدام يحمل من الشجاعة ما تحمله ثورة الشعوب وهو أمر كفيل بحقن الدماء والمواجهات التي يمكن أن تنتج عنها متغيرات ليست في مصلحة لا الوطن ولا الحكام.. لقد قامت بعض دول أميركا اللاتينية والجنوبية بمجموعة من التغييرات الثورية ففرضت نفسها في الحديقة الخلفية لواشنطن وعجزت الأخيرة عن تغيير هذا المسار بفعل حماية الشعب لهذه المتغيرات لأنه يشعر بفائدتها عليه..
 
العربي لم يعد يقبل أن يعامل وفق نظرية أنه غير راشد وبأنه يحتاج لهذه الأنظمة ليستطيع الحياة وبدونها سيكون تائها وضائعا.. وبإمكان الاستفادة مما يجري عبر الاستجابة السريعة وليس المتأخرة والمكلفة لمطالب الجماهير.. الثورة الشعبية العربية ليست مسألة عدوى بقدر ما هي عملية تراكم تاريخي ستؤدي شاء البعض أم أبى للخروج إلى الشارع بغض النظر عن نوعية النظام السياسي الحاكم: ملكيا كان أم أميريا أم جمهوريا!

التعليقات