12/03/2011 - 13:04

عن السلطة القذافية وشهوتها المرَضية للقتل../ ماجد كيالي

من كل هؤلاء ينبغي طلب الاعتذار، على الأقل، فهذا حق للشعب الليبي، وللشعوب العربية، علما أن نجمتي بوب أمريكيتين (بيونسيه وماريا كاري) ومغنية كندية (نيللي فورتادو)، فعلن أكثر من ذلك، فعدا عن اعتذارهن عن تلقي مبالغ مالية من أسرة القذافي (مليون دولار لكل واحدة)، لقاء إحيائهن حفلات خاصة (أي مقابل عمل)، فإنهن أكدن تبرعهن بهذه المبالغ لجمعيات خيرية. وعلى الأغلب فإن المعنيين عندنا لن يصلوا إلى هذا الحد، وأن يبقوا الأمر في حدود الاعتذار، لتبرئة ذمتهم الأخلاقية؛ إذا كان ثمة لديهم بقية شجاعة لذلك، وهذا أضعف الإيمان

عن السلطة القذافية وشهوتها المرَضية للقتل../ ماجد كيالي
ثمة الكثير مما يمكن قوله بشأن تلك الشهوة الإجرامية والمرضية للقتل التي يتبعها العقيد القذافي ضد شعبه، والتي تبدو حتى بالمقارنة مع القتل الإسرائيلي (وهو قتل إجرامي أيضا)، مجرد "مزحة"، فعنده يجري استخدام قذائف الطائرات والدبابات والمدفعية ضد مناطق سكنية، وضد مظاهرات وتجمعات شعبية، ليس بقصد الاغتيالات، وإنما بقصد القتل والتدمير والإفناء المتعمّد والمشهر.
 
ومثلا، فقد قضى 1600 من الفلسطينيين بالرصاص الإسرائيلي، خلال الانتفاضة الأولى، التي استمرت ستة أعوام (1987ـ1993)، ولقي حوالي 5400 منهم حتفهم بالرصاص الإسرائيلي، طوال خمسة أعوام من الانتفاضة الثانية (2000ـ2005)، التي اتسمت بالمواجهات العنيفة والمسلحة. وفي الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على غزة (2008) استشهد 1400 من الفلسطينيين. هكذا، فبالمقارنة مع إسرائيل، العدوة والمجرمة والقاتلة والعنصرية، فقد قتل العقيد القذافي، وهو الزعيم "الثوري" "القومي" آلاف الليبيين في ثلاثة أسابيع فقط!
 
مع ذلك فمن الواضح أن هذه الشهوة لا تقتصر على القتل المباشر، فقد عمل هذا العقيد على قتل شعبه، قتلا بطيئا أو صامتا، خلال الأربعة عقود الماضية، إذ قتل ماضيه وحاضره ومستقبله، وآماله وأحلامه، وبدّد موارده الهائلة في نزواته العبثية والمجنونة. وقد تبين أن ليبيا، التي تقبع على بحيرة نفط، تكاد تكون خالية من أية انجازات تذكر، لا في مجال التعليم ولا في مجال الصحة ولا في مجال البني التحتية، وفوق ذلك فقد تبين أن ليبيا القذافي خالية من مظاهر الدولة، وضمنها الجيش، وأن قطاعات واسعة من الليبيين تعاني الضنك والحرمان من العيش الكريم، وليس فقط من الحقوق والحريات؛ ويمكن تبين ذلك لدى إجراء أي مقارنة بين واقع أية دولة نفطية عربية وبين ليبيا، وحتى لدى إجراء مجرد مقارنة بسيطة بينها وبين تونس المجاورة لها، والتي ليس بها أية ثروة نفطية.
 
الأنكى من ذلك أن العقيد الثوري، الذي أصمّ آذاننا لحقبة طويلة من الزمن بادعاءاته القومجية، عدم شعبه أية هوية، فلم يتح له صوغ هويته الوطنية الخاصة (المتزاوجة مع الهوية العروبية)، كجيرانه التوانسة والمصريين والجزائريين، فطورا يدعي بأنه قومي عربي، وطورا آخر يذم الأمة العربية مدعيا بأنه ينتمي للأمة الأفريقية، وأنه ملك ملوك أفريقيا، علما انه ليس ثمة من الأفارقة من يدعي وجود أمة كهذه، كما لا يوجد في هذه القارة ملوك أصلا( على حد علمي)!
 
وإذا تمعنّا في الأمر فسنجد في القذافي نوعا من دجّال، عدا عن كونه طاغية، وبعضا من مشعوذ أو ممثل (في كوميديا سوداء)، إذ لم يعمل شيئا البتة لترجمة ادعاءاته القومجية، بل إنه أسهم في الحطّ من مفهومي القومية والعروبة. ومثلا، ففي ظله لقي العامل المصري والتونسي والسوري والفلسطيني والسوداني، وغيرهم، معاملة جد مزرية، بل إن العقيد كان يلجأ بين فترة وأخرى لطرد هؤلاء، دون سابق إنذار، بعد تجريدهم من كل مقتنياتهم، وحرمانهم من كل مستحقاتهم. وكانت إسرائيل اغتالت فتحي الشقاقي، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في مالطا (في منتصف التسعينيات) بعد زيارة له إلى ليبيا، حاول خلالها حثّ العقيد على التراجع عن قراره بطرد العمالة الفلسطينية (وهو ما اعترفت به قيادة الجهاد مؤخرا فقط)؛ هذا عدا عن مسؤوليته عن إخفاء الإمام الصدر ورفيقيه.
 
وعلى صعيد آخر فقد عزّ على القذافي إنشاء مشروعات اقتصادية عابرة للحدود العربية، أقله تدعيما لادعاءاته، فهو لم ينشئ أية خطوط مواصلات (سكك حديدية أو طرق برية أو أساطيل بحرية)، حتى بين ليبيا وجوارها، ولم يدعم جامعة عربية، ولا أية مشروعات صناعية أو زراعية أو تكنولوجية على المستوى العربي. وفي مقابل كل ذلك فإن "ثورية" القذافي و"قوميته" ذهبت به حد دعم كل الحركات والانشقاقات الانفصالية والانقسامية في أكثر من بلد عربي، ومن ضمنها بين الفلسطينيين، وهو لم يبخل على هذه الحركات لا بالسلاح ولا بالمال.
 
وعلى صعيد ليبيا فقد نجح العقيد في إخراجها من التاريخ، ورهن شعبها في محبس النسيان، لردح طويل من الزمن، معتبرا نفسه فوق الوطن والشعب والسلطات، وأنه الحاضر والمستقبل؛ عدا كونه المثقف الأول، والثائر الأول، والزعيم الأول، بل إنه الأيدلوجي الأول.
 
وهاهو مثلا، يدعي بأن ما يجري في ليبيا إنما هو من فعل "القاعدة"، والخونة، وأن الليبيين يحبونه لدرجة الموت عن بكرة أبيهم، لآخر رجل وامرأة! تماما مثلما يدعي بأن ما يجري في ليبيا إنما هو من فعل الغرب، وأن الاستعمار يريد العودة لليبيا لنزع ثروة الليبيين، وحرمانهم لقمة العيش، متناسيا أنه أهدر، طوال أكثر من أربعين عاما، أموال النفط، التي احتكرها لنفسه وأولاده. والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا على القذافي، وعلى من هم على شاكلته، ومؤيديه، هل نكّل الاستعمار ببلد أكثر مما فعل القذافي ببلده؟ وهل حطم الاستعمار البنية الاجتماعية مثلما فعل القذافي بشعبه؟ ثم هل صادر الاستعمار من ثروات البلد أكثر مما صادر القذافي ومن هم على شاكلته؟ وهل قتل الاستعمار، مباشرة وبشكل غير مباشر، أكثر مما قتل القذافي في أسبوعين أو ثلاثة؟ وهل صادر الاستعمار من الحريات أكثر مما صادر القذافي وربعه؟
 
على أية حال فإن ردة فعل القذافي القاسية والمجنونة على محاولة شعبه الثورة عليه، هي بمثابة دليل على انحطاط النظام السلطوي العربي، من الناحيتين السياسية والأخلاقية. لكن ما يميز القذافي، عن غيره من الحكام العرب المخلوعين، أنه يقاوم بطريقة عنفية، المحاولة السلمية للثورة عليه، بدون أية كوابح داخلية أو خارجية. وربما أن الواقع الذي خلقه القذافي في ليبيا، والمتأسس على الحؤول دون قيام الدولة، والحؤول دون قيام الشعب (وإبقائه عند حدود الحالة القبلية ما قبل الوطنية)، هما ما يطيل عمر طغيانه. وما يميز القذافي، أيضا، أنه يحاول أن يشوه معنى الثورة عليه، أولا، بمحاولته استدراجها، إلى مواجهات مسلحة، ربما تودي بها، أو ربما تثقل عليها سياسيا وأخلاقيا، حتى بعد رحيله، وثانيا، من خلال استدعائه التدخلات الخارجية، عبر انتهاجه العنف المدمر ضد الليبيين.
 
الآن، لا بد من القول بصراحة بأن القذافي (شأنه شأن غيره) لم يتفرعن من ذاته، ولم تنتابه أوهام العظمة مجانا، فقد أسهم في صنع هذا الصنم القاسي، والمدعي، والكاريكاتوري، عدد كبير من قادة الأحزاب السياسية، وضمنها فصائل حركة التحرر الفلسطينية، وكذا مثقفون وإعلاميون وفنانون، لمجرد امتيازات وعطاءات (أغلبها دون مبرر) فهؤلاء كلهم ينتظر منهم الشعب الليبي شيئا من الاعتذار. ومعلوم أن هؤلاء سكتوا عن انقلابات القذافي على ادعاءاته القومية، وعن امتهانه للعرب وتاريخهم، وسكتوا عن إعطائه الضوء الأخضر لمجموعات من اللجان الثورية بالحج للمسجد الأقصى، دون أن يعتبروا ذلك محاولة أو رسالة تطبيعية (على جري عادتهم). وهؤلاء أيضا سكتوا حتى عن تنكيله بالعمالة العربية من مختلف الجنسيات، وغضوا النظر عن استبداده بشعب ليبيا وهدره لثرواتها.
 
من كل هؤلاء ينبغي طلب الاعتذار، على الأقل، فهذا حق للشعب الليبي، وللشعوب العربية، علما أن نجمتي بوب أمريكيتين (بيونسيه وماريا كاري) ومغنية كندية (نيللي فورتادو)، فعلن أكثر من ذلك، فعدا عن اعتذارهن عن تلقي مبالغ مالية من أسرة القذافي (مليون دولار لكل واحدة)، لقاء إحيائهن حفلات خاصة (أي مقابل عمل)، فإنهن أكدن تبرعهن بهذه المبالغ لجمعيات خيرية. وعلى الأغلب فإن المعنيين عندنا لن يصلوا إلى هذا الحد، وأن يبقوا الأمر في حدود الاعتذار، لتبرئة ذمتهم الأخلاقية؛ إذا كان ثمة لديهم بقية شجاعة لذلك، وهذا أضعف الإيمان.

التعليقات