16/03/2011 - 17:11

تراجيديا سيرك ومسرح الحاكم العربي../ ناصر السهلي

للشعوب ذاكرة وعقل وإرادة وبوصلة ومن خلالها كلها أزاحوا عن اللوحة زيفها وبان قبح مافيا الحكم والحكام ولو تأجلت مسارات تحطيم القيود بعد أن كسر الجمهور صمته

تراجيديا سيرك ومسرح الحاكم العربي../ ناصر السهلي
حين يتسنى لك التأمل بهذا المشهد العربي الثائر الذي خذل النمطية الاستشراقية، وبعضها بالتأكيد بأصوات عربية، عن الإنسان العربي: الخانع والقابل والراضي والمهلل والممجد لحكامه.. الإنسان الذي لا يقدر على فهم حكم ذاته وتقرير مصيره والغير مؤهل للديمقراطية والحرية.. إنسان يعيش على ثقافة الاستكانة بشكلها الذي يتسلح بشعارات وموروثات متخلفة عززتها متناقضات وسائل القمع ووسائل هوليوودية عن فضاءات حرية لا تقف عند حدود.. اختزلت في أخذنا مأثرتين من التخلف المدفوع الأجر: "إمشي الحيط الحيط وقل يا ربي الستر" و"اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر".. ولكي تكون النمطية أفقية وعمودية أرفقها كهنة معابد الذل في بلاط السلاطين الجدد بفتاوى حرمت الخروج على الحاكم.. حتى بالمظاهرة.. ولتزداد الصورة فجورا أُقحم في قاموس العرب مأثرة أخرى من مآثر الدلالة على عمق الفجوة ، بين الصمت وفتح الفم اعتراضا، طلبا لإنصاف وعدالة: من ليس له كبير فليشتر له كبيرا.. الحاكم هو المجد والتاريخ.. بل هو الوطن والوطن هو..
 
للأنظمة كبارها ممن يرعوها.. ولها إبداعات تقبيل اليد الغربية وتسليم سيادة الأوطان بحرا وجوا وبرا.. لها طرقها في استباحة الدم مقابل حكم العائلة!
 
فالسلاسل التي تقيد أيدي شباب العرب ورجالهم ونسائهم وأولادهم الصغار (من بغداد إلى الموصل فالقدس ورام الله ومن محيط العرب إلى بحرهم المأخوذ برهبة قوة الأميركي) تورد إلى سلاطينهم من الغرب ذاته.. قليلون هم الذين يصنعون وسائل قمعهم، وبتفاخر فاجر تُدخل اليمامة العربية في مافيا سلاح يصدأ/ هذا قبل أن تتوج لوحة تراجيديا الزحف المذهبي نحو البحرين/.. على خشبة مسرح الذبح يختزل رعاة البقر الصورة: دعوة للجميع بضبط النفس..
 
دعوة لاستمرار الذبح الزاحف والتغطية عليه باسم الاستقرار والتخفيف من روع إسرائيل، وهي تحاول الالتفاف على ثورة العرب.. فتسقط تحت الأقدام كل تنظيرات الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وجمع ممن يعيشون الهلع ما زالوا يستصرخون نفاق الغرب.. متناسين أن ملح الأرض فيها لا في مجلس الأمن..
 
في مسرح التهريج سيتحدثون بعد قليل عن العنف والتطرف والقاعدة والإرهاب.. سيمسحون عن الجدران ما خطته أنامل الثائرين وما صدحت به حناجر الجماهير عن رغبتهم بحرية مفقودة والتي قوبلت برصاص صُنع بماكينة تصدر لحكام العرب آخر اختراعاتها في المجال..
 
في المسرح العربي المتجول ما يشبه سيرك وبهلوانية تُدمع العيون أحيانا لمتناقضتين في الحزن أو/ والألم، لاشتداد القيد على معصم، ولوحة كوميديا ساخرة لمهرجين يُكثرون من حركاتهم الساخرة بأقنعة تتخذ الربانية تارة كستار لإرباك الجمهور المُجبر على رعب في هيئة حاكم تملأ شاشته عروضا لنوع آخر من السخرية: عروضا عسكرية.. مناورات لدبابات وطائرات ورجالا مقنعين.. قبل أن يكتشف المتفرج أنه محور تلك المناورات إن فتح فمه سائلا.. أو حرك قبضته طالبا حرية الاختيار..
 
لا شيء يشي بأننا أمام مسرح تُحترم فيه النصوص والعقول..
كان المطلوب جمهورا يجلس برتابة مستنسخة.. يصفق في وقت واحد لتفاهات وانحدار العرض.. جمهور من الفرجة التي تُظهر عبودية لمشخصاتي لا يجيد سوى التلويح بعصاه ومسدسه وتهريجه الذي يقطر دما.. والآن طائراته ومدافعه وناقلات جنده..
 
هلا لاحظتم معي أننا في عصر اللاصناعة العربي لسنا نحن من يُنتج كل تلك الأدوات التي تُساق إلى جبهة المدن وشوارع العواصم.. من الهراوة إلى الغاز وسيارات مصفحة من النوع الذي يعبر الجسور والحدود باسم العروبة؟.. لكن ليس نحو فلسطين.. ولا باتجاه إنقاذ شعب ليبيا من دمار "ملك الملوك".. بل نحو مزارع الحكام وكراسيها وسيوفها التي اهتزت رقصا مع بوش..
 
تكسير العظام وطحنها في حرفة تنافس رابين في قبره.. قصف لمشاف وسيارات إسعاف ومساجد تنافس أفعال شارون في غيبوبته.. ثم تمد هذه الأنظمة بوجه الجمهور ألسنتها، مسمية شعوبها بما ينافس الأب الروحي للتطرف اليهودي عوباديا يوسيف.. أية تراجيديا هذه؟
 
لغة من "الطزطزة" ووصف جرذي.. واستصغار شأن وقيمة البشر.. فيما يبحث مشايخ ووعاظ المال عن نصوص تستقيم مع صراط الحاكم وقراءة من اللعن والسبّ والشتم والوصف بما يتنافى مع أبسط تعاليم الدين حين حوله هؤلاء إلى متراس من متاريس الخنوع باسم التناصح..
 
في الكواليس ثمة تلاق بين سلفي يعظ الجمهور بتحريم المحلل في الخروج على طاغية ومُنظرٍ مفجوع لسقوط طاغية بوزن زوج ملكة قرطاج.. مُنظر من نسق من أشبعونا شعارات عن حتمية التحالف مع الشياطين حتى لإسقاط انتقائي لأي نظام عربي لا يرضى عنه "المثقف" المعجب بحداثة وليبرالية نظام مافيا آخر..
 
في المسرح العربي ما يشبه السيرك الذي يتجول بين العواصم والمدن العربية..
الرئيس.. الملك.. القائد.. الكاتب.. المبدع.. المنظر والمفكر.. الفذ صاحب النظرة الثاقبة.. ولي الله في الأرض.. ولا تكفيه كل ألقاب الدنيا وما وراءها.. هو الذي يرى فيمن يقول "لا" جرذانا.. وكلابا ضالة.. يرى "التطهير" سبيلا لإرضاء حالة جنون العظمة بمزيد من اكتشافات أخرى لذاته التي تعكس ذات مشتركة في "زعماء" يشبهونه في تقمص الدور والأداء.. كل منهم يرى في الهتاف الذي لا يكون اسمه متبوعا بالله قبل الأوطان هتافا ناقصا يستحق أهله حفلة دموية تتبع التهريج المهدد عبر الأثير..
 
يتسابق من يتشابهون في التهريج للإفادة من عميدهم في كيفية تحويل الجمهور إلى قبيلة وأدوات القمع التي يمكن أن توقف جرأة الشباب العربي فتضعها في سياق "العمالة للأجنبي" ليستحل دمهم بحجة قاعدة تفزع الغرب والشرق..
 
في المسرح الدموي مآثر كثيرة لسلاطين يلقون بأكياس الدراهم على ناظم معلقات تجميل القبح بعد أن يعتلي المنبر شيخ يسبح بحمد سلطان تحيط به شياطين تخرس عن حق مؤجل بسيافي السلاطين.. وفي اللوحة مزيد من تراجيدية لوطنية زائفة.. ينقل أحفاد جيبوتنسكي العتاد والخبرات.. وكأنك أمام مشهد الزاوية و زوارة وعدن والمنامة تشهد تكرارا لدير ياسين وكفر قاسم والفلوجة.. أي ترويع في لوحة الثورة الشعبية أكثر من أن ترى النفط والقاعدة والقرصنة والهجرة تختلط بكذبة بحجم جهنم الأرض تصطنعها دول القبائل والعشائر.. لتزداد الصورة ارتباكا ونفاقا..
 
صارت الأوطان بحجم "زنقة" و"حارة" في استحلال المحرم في زحف الإخضاع الدموي.. وصار للمهرجين صورة أكثر انفضاحا مما كانت في ماكياج رأسمالي كذب حتى صار الكذب جزءا من أنفاسه تحليلا وموقفا.. فما انفكت "جامعة العرب" تقلد النوع الرديء في الكذب.. كأننا أمام ما خطته يد عبد القادر الحسيني قبل القسطل لذات الجامعة حين خذلت شعبه مذ ذاك إلى أن صار الغاز العربي يسري في شرايين قتلة يهدمون حتى القبور.. ومن يجرف القبور في المدن العربية لا يجرؤ على أن يقول لمعلمه: ويحك! لقد فضحتنا بفعلتك.. أما كان لك أن تفعلها في ليل؟
هم لم يفعلوها في ظلمة الليل بل في إظلام عتمة المدينة..
 
في المسرح الدموي ثمة صور لم تعد من الأسرار.. ولم تعد تُطاق حتى ممن صبروا بانتظار لحظة ضمير لم يعكسه لا التاريخ ولا الحاضر.. ففي إقطاعيات العرب ومزارع الحكام ما يفضح الصورة المتفردة بألوانها وعناصرها..
 
الرئيس.. أخوته وأبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم وأصهارهم وكل من مت بصلة دم لهم أو صلة ولاء يغرفون نهبا وسرقة لأوطان يرونها حقا مزارع خاصة طالما أن الحاكم يحكم بعقلية مافيا العائلة التي تقدم الولاء لعراب يأمر برؤوس فتلقى بحجره كما أراد..
 
الرئيس له أبناء.. يختار أحدهم كخليفة.. والبقية لهم ما أرادوا في مشهد ينم عن طفيلية دموية في ممارسات مافياوية تغلفها مناصب عسكرية لحماية قداسة الأب..
 
لا شيء عجيبا في المشهد العربي المتنقل استنساخا من دولة لأخرى.. فلكل حاكم عربي زبانيته ومصفقون وهتيفة ومشايخ تحلل استباحة الدم طالما أن الخروج عن طاعة الحاكم يُخرج من رحمة الرب.. ورعاة يمنحونهم المزيد من الوقت للذبح وإنتاج بيئة تجعل من نمطية الصورة أبدية سرمدية لا نهاية لها..
 
نسي هؤلاء شيئا أهم في اللوحة الدموية.. بعد قليل من الرعب الذي يرفقونه بتزييف الصورة .. للشعوب ذاكرة وعقل وإرادة وبوصلة ومن خلالها كلها أزاحوا عن اللوحة زيفها وبان قبح مافيا الحكم والحكام ولو تأجلت مسارات تحطيم القيود بعد أن كسر الجمهور صمته.. فمن يستطيع أن يحرث البحار ويحارب الطواحين ليستطيع أن يحكم بشرا ما عاد بالإمكان أن يُفرض عليهم طاعة زائفة وزائلة؟  

التعليقات