20/03/2011 - 13:36

بزوغ الدولة المدنية العربية../ عمر شحاده*

لعل الديمقراطية والوطنية وجهان لقضية إنسانية واحدة، إن اختفت إحداهما فقدت معناها ومغزاها، ومن واجبنا نحن قبل غيرنا أن نمد الثورات الشعبية العربية وصناع التغيير بالدعم اللامحدود، وما على الجميع إلا أن يتعظ قبل أن لا ينفع الندم. فثورة الشباب تعكس هيبة و شرف وضمير ومستقبل هذه الأمة

بزوغ الدولة المدنية العربية../ عمر شحاده*
بنزوله إلى ميدان التحرير ووعده أمام الملايين التزام وتنفيذ أهداف الثورة، يكون د.عصام شرف رئيس مجلس الوزراء المصري الجديد قد دشن الخطوة الأولى على إيقاع أنشودة الثوار ونشيد الثورة في الانتقال لوضع أهدافها موضع التطبيق، بعد أن أسقطت النظام وأطاحت به رئيساً وبرلماناً وحكومة، هذا الانتقال الذي يتوقف نجاحه على تقويض مرتكزات النظام البائد الأمنية والدستورية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، والتخلص من مخلفاته وسمومه التي تفشت في جسد الدولة وروح الشعب والأمة. فلا راع أو ضامن لمطالب الثوار أو لأهداف الثوره التي تدور عليها الدوائر من القريب والبعيد ومن كل حدب وصوب سوى قواها المتحفزه وجمهورها اليقظ، ذلك كي لا يحظى المصريون والعرب بـ"كومونة باريس" جديده في تاريخهم الحديث.
 
"لقد هرمنا ...... ونحن ننتظر هذه اللحظة التاريخية"، بهذه العبارة المثقلة بالعجز، المفجوعة بالماضي الكئيب ، المسكونة بالألم والحزن وفداحة القمع والتنكيل، لخص ذلك الكهل التونسي مشدوهاً، على شاشات الفضائيات العربية مشاعره تجاه الآلاف المؤلفة في شوارع العاصمة التونسية وهي تحتفل برحيل طاغيتها ابن علي.
 
 إن هذه اللقطة التي تكشف عن الطبيعة المباغتة للثورة في لحظة كانت تئن فيها الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية وقادتها "إذا ما استثنينا أحزاب الديكور"، تحت وطأة القمع والملاحقة والمنافي والسجون والتخريب، فهي تثبت أيضا أن مكونات الشعب التونسي بشبابه ونقاباته الجهوية والعامة ومنظماته المدنية المهنية ومحاميه وقضاته وموظفيه، بمواطنيه رجالاً ونساءاً، وفي سياق مسيرته النضالية التاريخية ومنجزاته وحقوقه المدنية المكتسبة ووعيه الشعبي الجمعي وتجربته الذاتية الفريدة والخاصة، كانت عصية على الكسر رغم تغول الأجهزة الأمنية، لا بلوتمكنت من كسر حاجز الخوف وتمردت دون رجعة على نظام الاستبداد والفساد والتبعية.
 
وبلجوء شباب الثورة لطرائق نضال عصرية مبتكرة، وبزحف القطاعات الشعبية والاجتماعية للسيادة في الشارع والمؤسسات وتعطيل وشل مؤسسات الحكم والسيطرة وميليشيا حزب الحاكم ووضعها تحت مجهروأضواء الإعلام ووسائل الاتصال والمعلومات وأمام الرأي العام، وبالشروع في تنظيم الجماهير ومجالسها المحلية والمتنوعة وبلورة وتحديد شعاراتها وقيادتها الجماعية في مجرى التحركات الشعبيه، برهنت الانتفاضه بما لا يدع مجالا للشك أنها قادرة على الكر والفر من موقع لآخر وعلى الصمود والتضحية والمواجهة، وأن نظام بن علي نمر من ورق، وتمكنت من تحييد الجيش وكسب تعاطفه والإطاحة برأس السلطة دون أن يقودها حزب أو زعيم، فنالت الثورة التونسية بكل الجدارة قصب السبق وشرف الريادة في إلهام شباب مصر والشعوب العربية، وأطلقت ذلك "الفيروس" الثوري المعدي إلى غير رجعة.
 
 وها هي الثورة المصرية المجيده تشق دربها، التي تفرد رئيس حكومة الاحتلال في استشعارها "زلزالاً" سياسيا وأمنيا، وتضع العالم العربي وشعوبه على أعتاب مرحلة نوعية جديدة بزغت فيها الدولة المدنية العربية كملاذ ومنقذ من حالة الانسداد التاريخي في الوضع العربي المأزوم وكشفت عن نفسها قانونا للتطور اللاحق في عموم المنطقة العربية والإقليم، وتحرز في الوقت عينه براعة اختراع ثورية حازت على قدركبير من الاحترام والاندهاش والتعاطف العالمي غير المعتاد، وظهرت للكثيرين من جانب آخر بما حملته من جديد مجرد وملموس، كوريثة شرعية لما سبقها من ثورات عالمية، تضيف إلى شعاراتها الخالدة "الكرامة الإنسانية " بالمعنى الواسع للكلمة.
 
لم تكن القضية الفلسطينية والموقف منها كاشفا ومعيارا لدرجة المسؤولية الوطنية والقومية لأسباب واهية أو عابرة وعاطفية، بل لأنها البؤرة التي تتكثف وتنعكس فيها كل المخططات والسياسات الإمبريالية والصهيونية المعادية الرامية لإدامة السيطرة على المنطقة وشعوبها ونهب ثرواتها واحتباس تطورها عبر تكريس تفوق وسطوة دولة الاحتلال.
 
فإذا كانت النكبة واغتصاب فلسطين عام 1948 من الأسباب التي قادت إلى ثورة 23 يوليو 1952، فإن من الموضوعية العلمية أن لا تفصل النتائج التي أفضت لما استقر عليه نظام مبارك عن المقدمات والأسباب العميقة التي تقبع في صلب اتفاقيات كمب ديفيد بمحتواها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والثقافي الاستراتيجي، والتي أوصلت إلى ثورة 25 يناير الوطنية الديمقراطية في مواجهة الطغمة الحاكمة التي عكست لقاء مصالح قوى "كمب ديفيد" المصرية والأمريكية والإسرائيلية.
 
وهو ما راكم فضلاً عن الفقر والبطالة وقوننة النهب والفساد والإجرام المافياوي والارتداد عن المكاسب الاجتماعية لثورة 23 يوليو، الإحساس بالمهانة الشخصية وهدر واستباحة الكرامة على يد الأجهزة الأمنية وصولاً لتسليع القيم الإنسانية الوطنية والقومية وتشييء الإنسان نفسه، الذي كان يتجلى في يوميات النضال المطلبي والديمقراطي وقصص تزوير الانتخابات والموت تحت التعذيب، وعار الصمت الرسمي والتواطؤ في حروب الخليج وحرب تموز على لبنان ومحرقة واجتياح غزة والحصار الوحشي لأهلها وصولاً لبناء ما يسمى بالجدار الفولاذي على الحدود مع غزه الحماية "الأمن القومي"!
 
أفتخر أنا مصري، أفتخر أنا تونسي ، تلك كانت أولى الكلمات التي ترددت على شفاه شباب الثورة في شوارع تونس وميدان التحرير لحظة الإعلان عن رحيل الطغاة، وكأن رحيلهم أزاح ألم وعبء الاغتراب والاستلاب وأنهى كابوس الذل والعار الذي مسّ روح الشباب والشعب وجمدها، لا بل روح الأمة من المحيط إلى الخليج.
 
فالكرامة تقدمت كأم المطالب، قبل الخبز والعمل تبعث ذلك العزم وتلك الطاقة الإيجابية النابعة من هوية وروح وحضارة إنسانية ازدهرت يوما على هذه الأرض ولطالما حرمت من التعبيرعن نفسها، فوحدت الشعب المصري لا بل الشعوب العربية برمتها تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، إسقاط نظام حكم الفرد ودستوره أكان جمهوريا، ملكياً، جماهيرياً، دينياً، طائفياً، عسكرياً ... بدستور ونظام حكم الشعب لدولة ديمقراطية مدنية راسخة، يتساوى فيها المواطنون نساء ورجالاً، تصان فيها وتتنمى حقوقهم السياسية والاجتماعية والإنسانية، ويسود فيها القانون والحريات والفصل بين السلطات والتبادل السلمي للسلطة وحرية التعبير دون تمييز على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الدين أو المعتقد، ديمقراطية على نقيض من تلك الليبرالية الجديدة القادمة على ظهر دبابة أمريكية تطلق ضواري الطائفية والمذهبية والعشائرية الدموية والتعصب والفتنه والفوضى وكل ما هو رجعي وقبيح وفاسد، يذهب بوحدة الشعوب العربية ومستقبلها ومناعتها ومكانتها ومصير أبنائها إلى غير رجعة.
                                                                              
بالأمس أضاف دنيس روس مبعوث الإدارة الأمريكية خطرا جديدا إلى قائمة مخاطر شعوب المنطقه - الديمغرافي، الايديولوجي والتكنولوجي وهو الخطر البيولوجي "شباب الثورة"، وبهذا يكشف بفجور حقيقة الموقف من شباب مصر وتونس ومن ثوراتهم الشعبية الديمقراطية،
السلمية، المدنية، الإنسانية، العصرية، الحضارية، السياسية والاجتماعية، وليس من المبالغة القول إن خطرا جديدا سيضيفونه قريبا لهذه المخاطر اسمه خطر الكرامة الإنسانية المعولمة التي أطلقها من شرق المتوسط أبناء الكنانة والأراضي العربية المقدسة، فالإمبريالية عدو للكرامة الإنسانية بمحتواها القائم على العدل الانساني والقضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
 
 في مناخ من المد والجزر والتآمر المحلي والعربي والدولي لاحتواء طابعها الثوري و لحرفها عن أهدافها، بدأت الثورة المصرية ترسي الأساس المادي لنهوض مصر قوة ومكانة ودوراً، ولن تتوقف إرادة التغيير لدى الأمة العربية وطموحاتها في التحرير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة، وفي التعاون الإقليمي مع دول المنطقة والعالم من موقع التكافؤ والتعاون التنموي الاجتماعي بعيداً عن ثقافة العولمة الأمريكيي الليبرالية العدوانية المتوحشة وسياسات الهيمنة الإمبريالية الصهيونية.
 
لعل الديمقراطية والوطنية وجهان لقضية إنسانية واحدة، إن اختفت إحداهما فقدت معناها ومغزاها، ومن واجبنا نحن قبل غيرنا أن نمد الثورات الشعبية العربية وصناع التغيير بالدعم اللامحدود، وما على الجميع إلا أن يتعظ قبل أن لا ينفع الندم. فثورة الشباب تعكس هيبة و شرف وضمير ومستقبل هذه الأمة.

التعليقات