06/04/2011 - 10:07

نعم، وسوريا بحاجة للديمقراطية والحريات../ علي جرادات

ففي نهاية المطاف تبقى سوريا الدولة أهم وأبقى من تبدلات نظامها وسلطتها وأحزابها ورئيسها، إذ في أقله قيل يوما "لا حرب بدون مصر"، و"لا سلام بدون سوريا"، التي هي الأخرى بحاجة إلى الديمقراطية والحريات

نعم، وسوريا بحاجة للديمقراطية والحريات../ علي جرادات
في معرض التعليق على ما تعرضت له بدايات الحراك الشبابي الفلسطيني من قمع فظ في غزة، أو قمع ناعم في الضفة، سبق لي أن عالجت علاقة الديمقراطي بالتحرري في مقالة سابقة، أكدت فيها على أن الشرط الديمقراطي شرط لازم لنجاح وتواصل حركات التحرر، وطنية كانت أم اجتماعية، بل، ويشكل هذا الشرط سمة لازمة من سمات حركات التحرر، التي تنكص وتنهار بغيابه، عاجلاً أم آجلاً. هكذا قال "التاريخ الذي لا نصدق غيره"، وفي أقله وفقاً لأسباب انهيار تجارب الاشتراكية المحققة، كحركات تحرر اجتماعي، في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، وانهيار العديد من حركات التحرر الوطني في بلدان ما يسمى "العالم الثالث"، ومن بينها بلدان عربية كمصر والجزائر ألخ...
 
   واليوم، حري التمعن فيما يجري من قمع دموي مرعب لبدايات الحراك الشعبي السوري، الذي سارع النظام لوصمه بالمؤامرة الخارجية، وبالمؤامرة الأمريكية الصهيونية تحديداً، رغم أن شعارات هذا الحراك لم ترتقِ إلى المطالبة بإسقاط النظام، بل اقتصرت على المطالبة بتنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، كان النظام وعد بها منذ زمن طويل، بل، وما زال يقر نظرياً بمشروعيتها وضرورتها، وتنص جوهراً على:
 
1: إلغاء قانون الطوارئ بعد نصف قرن من فرضه، بما يتيح سيادة القانون واستقلال القضاء، ويمنع القمع والاعتقال العشوائي والتعسفي.
2: سنِّ قانون يتيح حرية تشكيل الأحزاب  وتنافسها البرامجي الديمقراطي بديلاً عن النص الدستوري الشمولي الذي ينص على أن حزب البعث هو "الحزب القائد للمجتمع والدولة".
3: إطلاق حريات الصحافة والتنظيم السياسي والنقابي والتجمع والتظاهر السلمي ألخ...
4: محاربة الفساد والبطالة والفقر والثراء الفاحش وتوفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
 
 وتعد هذه المطالب الإصلاحية، مجرد حد أدنى من متطلبات النظم الديمقراطية، التي بات غيابها من مخلفات الماضي، حيث تجاوزها التاريخ والعصر، ولا يعتبر تحصيلها كمكتسبات للشعوب مِنَّةً من النظم السياسية الحاكمة، اللهم إلا لتلك الأنظمة التي لا تزال تحكم بصيغة السلطان والرعية القرووسطى، أو بصيغة الحُكْمِ خارج القانون والمساءلة، كصيغة تجاوزها المعدل العام للفكر السياسي البشري منذ قرون.
 
   عليه، فإن هذه الإصلاحات يجب ألا يتم القفز عليها، أو المطمطة والتسويف بشأنها، أو التحايل عليها، أو محاولة تقنينها وإعطائها بالقطارة، بذريعة أن سوريا ما زالت تعيش حالة مواجهة مع إسرائيل، وتتعرض لتدخلات أمريكية وسواها، أما لماذا؟ فلأن هذه الذريعة تنطوي على العديد من المغالطات، لعل أهمها:
 
   1: إن افتراض أن حصول الشعب السوري على حقه الطبيعي في هذه الإصلاحات الديمقراطية، من شأنه أن يجعله أقل ذوداً عن الوطن، هو افتراض مفتعل، وينطوي على مغالطة أن الشعوب، والشعب السوري بضمنها، لا تتشبث بقضاياها الوطنية والقومية إلا إذا كانت مقموعة وخاضعة وجائعة، بينما العكس هو الصحيح، فنيل الشعوب لحريتها وحقوقها الديمقراطية، هو ما يجعلها أكثر مشاركة في صنع القرارات الوطنية، وأكثر انتماء للوطن والدفاع عنه ضد التهديدات الخارجية القائم منها أو القادم.
 
2: إن افتراض أن إطلاق العنان للحريات والخيار الديموقراطي الداخلي للشعوب، وبضمنها الشعب السوري، من شأنه أن يضعف منعة الدول في مواجهة الأخطار الخارجية، ينطوي على مغالطة حصر قياس منعة الدول بما تمتلكه أنظمتها من عوامل قوة عسكرية وأمنية، بحسبان أن هذا قياس ميكانيكي لا يعي، أو لا يريد أن يعي، أن القياس الأعمق والأدق والأشمل لعوامل القوة يشتمل على ما للدول من عوامل قوة سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية، كعوامل يحققها إطلاق الحريات والخيار الديموقراطي للشعوب في هذا البلد أو ذاك.
 
3: إن تضليل أن كل حراك شعبي عربي ينادي بالتغيير، وبضمنه بدايات الحراك الشعبي السوري، لا بد وتقف خلفه مؤامرة خارجية، أصبح تضليلا عتيقاً ممجوجاً، ولا يمكن له أن ينطلي على كل من له عقل يستخدمه، أو على كل من له عينين يشاهد بهما شاشات الفضائيات ومواقع الاتصالات الالكترونية العصرية السريعة والعصية على التحكم.
 

   في سياق كل ما تقدم، وحول علاقة الديمقراطية بمنعة الدول بخاصة، تحضرني مطالعة بهذا الشأن، كان قدمها المرحوم الدكتور جورج حبش في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، وتم نشرها في كراس تحت عنوان "نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني"، أكد فيها على ضرورة عدم قياس عوامل قوة هذا الكيان بما يمتلكه من عوامل قوة عسكرية وأمنية فقط، بل ضرورة النظر إلى ما يمتلكه ككيان غاصب من عامل ديموقراطي داخلي، يتيح تفجير كامل طاقاته كمجتمع، بدءا بإشراك المرأة في المواجهة وعدم حبسها في البيت والمطبخ، مروراً بإعلاء شأن البحث العلمي ودعمه بموازنات خيالية، وتحويل إنتاجه النظري إلى تطبيقات عملية في كافة المجالات العسكرية والأمنية والصناعية والزراعية ألخ...عرجاً على إطلاق حريات الصحافة والتنظيم والمعتقد والتفكير والتنوع والتعدد ألخ...، وتوظيف كل ذلك في معارك المواجهة الخارجية، وصولاً إلى ممارسة لعبة الديمقراطية السياسية الليبرالية بأعلى أشكالها، عبر التداول السلمي للسلطة، ورهن تبدلاتها بصندوق الاقتراع، الذي يعطي السلطة ويراقبها وينزعها بشكل دوري، بعيدا عن وراثتها أو توريثها أو رهنها بـ"الحزب الواحد" وبـ"القائد الأوحد"، وما يفضي إليه ذلك من تعفن واحتقان واحتراب داخلي، كظواهر تلد كل أشكال التفتيت السياسي والطائفي والمذهبي والاثني، وكتربة خصبة للاستثمار الخارجي وتدخلاته، بحسبان أن القلاع لا تقتحم إلا من داخلها. ما يثير سؤال: ألم يكن هذا هو حال ما شهدته، (وللأسف ما زالت تشهده)، العديد من الأقطار العربية، التي شكَّل غياب الشرط الديمقراطي الداخلي في حياتها، ذريعة لإشعال الفتن بين مكونات تنوعها الطبيعي بنيران بدعة الفوضى الخلاقة الأمريكية، التي لم تنجح في تدمير النظام السياسي العراقي وسلطته فقط، بل ونجحت في تدمير الدولة العراقية ومؤسساتها أيضاً، الأمر الذي لم يكن ليتم بأدوات داخلية، لو أن نظام صدام البعثي كان ديمقراطيا مع شعبه، وفي أقله لو أنه كان أقل دموية في تعامله مع معارضيه. وفي هذا، درس كبير، نراه يتكرر في ليبيا، وعلى كل نظام رسمي عربي، وعلى النظام السوري تحديداً، التعلم من هذا الدرس قبل فوات الأوان. ففي نهاية المطاف تبقى سوريا الدولة أهم وأبقى من تبدلات نظامها وسلطتها وأحزابها ورئيسها، إذ في أقله قيل يوما "لا حرب بدون مصر"، و"لا سلام بدون سوريا"، التي هي الأخرى بحاجة إلى الديمقراطية والحريات.                                             

التعليقات