23/04/2011 - 11:41

التحول العلماني في العقل العربي../ مشير باسل عون

ومن أشدّ الاختلافات استفزازًا للعقل العربيّ القول الغربيّ بمرجعيّة العقل في ترسّم معنى الوجود وهويّة الإنسان وطبيعة الكون وحراك التاريخ. والحال أنّ الحضارة العربيّة المنتمية إلى الاختبار الساميّ الشرقيّ الإسلاميّ تنظر إلى العقل نظرتها إلى مجرّد أداة محايدة للمعرفة لا تقوى من تلقاء ذاتها على صياغة المعنى الأشمل للكون والوجود. وهو المعنى الذي ينزل على العقل العربيّ من وحي التسامي الإلهيّ الأسنى

التحول العلماني في العقل العربي../ مشير باسل عون

يشتدّ السؤال إلحاحًا في زمن الثورات العربيّة عن قابليّة العقل العربيّ لاستدخال مقولات العَلمانيّة الغربيّة في بنيته الذاتيّة. والخلفيّة الناظمة لمثل هذا السؤال تفترض أنّ العقل العربيّ متمايزٌ عن سائر العقول الحضاريّة، ومنها العقل الغربيّ على وجه التحديد. وبما أنّ العَلمانيّة انبثقت من اجتهادات العقل الغربيّ ومن اختبارات المجتمعات الغربيّة، فإنّ العقل العربيّ يتناولها من موقع الاختلاف والاغتراب. ومن أشدّ الاختلافات استفزازًا للعقل العربيّ القول الغربيّ بمرجعيّة العقل في ترسّم معنى الوجود وهويّة الإنسان وطبيعة الكون وحراك التاريخ. والحال أنّ الحضارة العربيّة المنتمية إلى الاختبار الساميّ الشرقيّ الإسلاميّ تنظر إلى العقل نظرتها إلى مجرّد أداة محايدة للمعرفة لا تقوى من تلقاء ذاتها على صياغة المعنى الأشمل للكون والوجود. وهو المعنى الذي ينزل على العقل العربيّ من وحي التسامي الإلهيّ الأسنى.

وعلاوةً على هذا الاختلاف الخطير، تعمد الحضارةُ العربيّة إلى رفد العقل الإنسانيّ ببنيةٍ من التطلّب الأخلاقيّ تعزّز فيه القدرةَ على التمييز والهداية والإرشاد. فالعقل العربيّ هو عقل التهذيب الأدبيّ قبل أن يكون عقل التحرّي الموضوعيّ. واستنادًا إلى هذه البنية، ترتبط مقاصدُ التهذيب بمصالح الجماعة الإنسانيّة حتّى إنّ العقل العربيّ يكاد لا يتصوّر ذاته منعزلاً في صومعة الاجتهاد الفكريّ على غرار العزلة التي أتاحت للفيلسوف الفرنسيّ رنيه ديكارت الإمساك بحقائق الوجود من جرّاء الاعتماد على مسلّمات العقل الذاتيّة البديهيّة الأولى.

ورأس الكلام في هذا كلّه أنّ مثل هذه البنية الخاصّة لا تُجيز للعقل العربيّ أن يركن ركونًا عفويًّا إلى مقولات العَلمانيّة التي أفرزتها اجتهاداتُ العقل الغربيّ. ذلك أنّ التباين واضحٌ بين العقلين، ولو أنّ فلسفة الأنوار الغربيّة تنادي بوحدة العقل الإنسانيّ الكونيّ. وحجّة الأنوار في ذلك أنّ وحدة الكيان الإنسانيّ تستتلي وحدةً في العقل الإنسانيّ. بيد أنّ منطق التاريخ يستوجب الاعتراف باستحالة العثور على عقل إنسانيّ كونيّ مجرّد. فالعقل الإنسانيّ عقولٌ، واللغة الإنسانيّة لغاتٌ، والاختبار الإنسانيّ اختباراتٌ، والحضارة الإنسانيّة حضارات.

ولذلك كان لا بدّ من التبصّر المتأنّي في مقولات العَلمانيّة التي قد يستكرهها العقلُ العربيّ حين تصحّ فيه هذه المقاربة التعريفيّة. ومن أشدّ المسائل خطورةً في هذا المقام الخلط بين العَلمانيّة والتصوّرات الفلسفيّة التي نشطت في الأزمنة الحديثة الغربيّة والتي شيّعت للإنسان تصوّرًا يخالف ما يذهب إليه التفكّر العربيّ. فالعَلمانيّة هي أرحب من التصوّرات الفكريّة التي تعاقبت على المجتمعات الغربيّة منذ القرن السابع عشر، ومنها العقلانيّة الغربيّة الملحدة.

ويعلم الجميع من أهل الاطّلاع أنّ تطوّر الفكر الغربيّ المعاصر، وهو تطوّرٌ طرأ في غضون الزمن الذي يُدعى اليوم بعصر ما بعد الحداثة، أفضى إلى إعادة النظر في مسائل العقل والحقيقة والإيمان والذات والجماعة والتعدّديّة الكونيّة. وما لبثت العَلمانيّة أن واكبت مثل هذا التطوّر، وهي التي تقوم في جوهرها على الاعتراف الحرّ بما تنطوي عليه إنسانيّة الإنسان من أبعاد التطلّع الفكريّ الأقصى والمسعى الكيانيّ الأبلغ والالتزام الأخلاقيّ الأسنى.

ومن مكتسبات هذا التطوّر الفكريّ التي اعتنقتها العَلمانيّة التمييزُ بين المسعى العقليّ والمسعى الإيمانيّ. فالمسعى العقليّ يقوم على استنطاق الوقائع وفاقًا لصيغة المساءلة العلميّة الموضوعيّة والإجابة العلميّة الموضوعيّة، فيما المسعى الإيمانيّ يقوم على استنطاق الوقائع وفاقًا لصيغة المناداة الشخصيّة الفرديّة الذاتيّة والاستجابة الشخصيّة الفرديّة الذاتيّة. وفي كلتا الحالتَين يفوز الإنسانُ بجواب يناسب منطلقات تفكّره العقليّ ومستندات اختباره الوجوديّ. فالموضوعيّة العلميّة عادت لا تنفصل عن نسبيّة الأصول والمعايير والآليّات والأدوات التي يعتمدها العقلُ في تحرّيه عن الأشياء. والاقتناع الذاتيّ عاد لا ينفصل عن طبيعة الاختبارات الكيانيّة الروحيّة التي يأنس إليها الإنسان في انتمائه إلى بيئته الإيمانيّة ومذهبه الدينيّ.

وإذا كان الأمر على هذه الحال، فإنّ العقل المتحرّي غدا يُطيق التنوّع في التحرّي عن حقائق الأشياء، والوجدان الذاتيّ أصبح يحتمل التباين في تلمّس المعنى الروحيّ. وفي كلا الموضعَين ينشأ في الوعي الإنسانيّ المعاصر تصوّرٌ للحقيقة يخالف ما كان يذهب إليه أهلُ الفكر حتّى في الأزمنة الحديثة. فالحقيقة، في الزمن الفكريّ المعاصر، عادت لا تدلّ على تطابق الأشياء والأقوال، أو تناسب الوقائع والأحكام، أو تماهي الفعل والنظر. ومعنى ذلك أنّ الحقيقة ليست مرتبطةً بالحكم الذهنيّ وقدرته على الإمساك المحكم بالأشياء. الحقيقة، كما يتجّلى مقامُها في أغلب تيّارات الفكر الغربيّ في اليوم الحاضر، تقترن اقترانًا وثيقًا باختبار الوعي الإنسانيّ الذاتيّ، الفرديّ والجماعيّ. وبعبارة أخرى، تقترن الحقيقة بما يعيه الإنسانُ من انكشاف للأشياء انكشافًا مرتبطًا بأوضاع الكشف وأحوال الوجود وإحساسات المعنى.

ولذلك عاد العقلُ الغربيّ لا يُجيز لنفسه أن يدّعي الإمساك بالحقيقة العلميّة وبالحقيقة الكيانيّة، أي بحقيقة الأشياء وبحقيقة المعنى. ذلك أنّ أمرًا خطيرًا قد طرأ على البحث الإنسانيّ عن الحقيقة. وهو تحوّلٌ عميقٌ أخذ يجعل الإنسان يُعرض عن التماس الحقيقة المطلقة ويركن إلى امتداح مثُل التنشئة الذاتيّة والصقل الكيانيّ والانتعاش الوجوديّ. وهذه أمورٌ قد تناسب بنية العقل العربيّ إنْ هو أحسن تأويلها واقتبالها واستدخالها في بنيته الذاتيّة، وخصوصًا عندما ينشط هذا كلّه في نطاق اعتراف الفكر المعاصر بانتماء هويّة الذات الفرديّة إلى هويّة الجماعة.

ورأس الكلام في هذا كلّه أنّ تطوّر الفكر الغربيّ في مقاربة الحقيقة وفي تحسّس المعنى يستنهض العقل العربيّ لملاقاته ومجاراته ومواكبته ومناصرته. بيد أنّ هذا التعاون لا يستقيم إلاّ إذا رضي العقلُ العربيّ بالخلفيّة الفكريّة التي يقتضيها مثلُ هذا التطوّر، عنيتُ بها الموقف العَلمانيّ الذي يعترف بحرّيّة العقل في الإقبال على الوجود واستبطان معانيه بحسب ما يرتسم أمامه من مسلّمات وقبْليّات وبديهيّات هي من وضع البيئة الثقافيّة التي ينتمي إليها المسعى العقليّ.

فالعَلمانيّة التي ينبغي أن يأتي إليها العقلُ العربيّ حتّى تأتي هي إليه، تقتضي تحوّلاً عظيمًا في مقاربة مسائل الإيمان والدين في المجتمعات العربيّة. فإذا ناصر العقل العربيّ مكتسبات الفكر المعاصر، وهي مكتسباتٌ تناسب بنيتَه الذاتيّة على قدر جليل من التوافق، كان عليه أن يُقرّ بإيجابيّات النهج العَلمانيّ في تدبّر التنوّع الدينيّ في المجتمعات الإنسانيّة. وليست المجتمعات العربيّة هي التي يعنيها هذا التدبّر وحسب، بل جميع أمم الأرض غدت مستنهضةً إلى مثل هذا التحوّل. فالعَلمانيّة التي ينبغي أن يصبو إليها العقلُ العربيّ هي علمانيّةٌ تهذيبيّة كما هي حال العقل العربيّ المفطور على تطلّب المثال الأخلاقيّ، وهي علمانيّةٌ نسبيّةٌ كما هي حال العقل العربيّ المبنيّ على محدوديّة الأداة العقليّة في التحرّي عن الواقع، وهي علمانيّةٌ منفتحةٌ كما هي حال العقل العربيّ التائق إلى استنزال المعنى من مصدر التسامي الإلهيّ.

ويقيني أنّ المشكلة العظمى تكمن في قبول العقل العربيّ لمنحى الانفتاح في العَلمانيّة. ذلك أنّ المنحى التهذيبيّ والمنحى النسبيّ يطاوعان العقل العربيّ المنسجم أصلاً مع مقتضياتهما. وحين أتحدّث عن منحى الانفتاح في العَلمانيّة، أوثر إخراج العقل من حلبة الصراع على مناصرة الحقائق الدينيّة مناصرةَ الحجّة الصارمة والبرهان القاطع والدليل الدامغ. فالحقيقة الدينيّة، بما هي اختبارٌ ذاتيّ فرديّ وجماعيّ للمعنى الروحيّ، لا تقبل الدليل العقليّ على الإطلاق. ولذلك لا يمكننا عن طريق العقل المحض لا إثبات الحقائق الدينيّة ولا إنكارها. غير أنّ هذا القول لا يعني أنّ العَلمانيّة المنفتحة تشيّع لما يخالف العقل في الاجتماع الإنسانيّ. فلا شكّ في أنّ العمارة الدينيّة، مهما تنوّعت انتماءاتها وتعابيرها، ينبغي أن تتّسم بقسط وافر من المعقوليّة، أي أن تناسب مقتضيات الحدّ العقليّ المشترك ومستلزمات التفكّر المنطقيّ البديهيّ في تصوّر هويّة الكون والوجود والإنسان. والظنّ أنّ هذه المقتضيات والمستلزمات قد انطوت عليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة.

أمّا إذا أراد العقلُ العربيّ أن يناصر هذا الدين ويؤثره على غيره من الأديان، فله الحقّ الكامل في انتهاج هذا النمط من التفضيل الوجوديّ، ولكن على شرط أن يراعي ما تحمله إليه مكتسباتُ العَلمانيّة المعاصرة من اعتبارات الاحترام المطلق للوجود الإنسانيّ في تنوّع اختباراته الكيانيّة. ومن هذه الاعتبارات أنّ العَلمانيّة لا تُبطل رغبة الإنسان الصادقة في الولاء لدين من الأديان، ولكنّها تفترض في هذا الولاء أن يلائم مقتضيات الحرّيّة الكيانيّة الفرديّة، وأن يعزّز مكارم الأخلاق في الفرد والجماعة، وأن يصاحب مطامح الإنسان نحو المطلق، وأن يراعي مراعاةً خلاّقة تدابير المعايشة الإنسانيّة الكونيّة الحكيمة بين أهل الأرض المختلفين.

فإذا ما استقامت هذه الاعتبارات الأساسيّة في الاقتناع الدينيّ، كانت مناصرةُ الدين فعلَ إغناء للوجود الإنسانيّ وللحياة الإنسانيّة وللتاريخ الإنسانيّ. وقد يقتصر فعلُ العَلمانيّة في المجتمعات العربيّة على تطلّب مثل التحوّل الفكريّ العميق. وهو تحوّلٌ قد يُطيقه العقلُ العربيّ إنْ هو اتّعظ اتّعاظًا حكيمًا بما يؤول إليه الاحتراب الكونيّ من مظالم ومهالك، وبما تُفضي إليه المعايشة الإنسانيّة الكونيّة من مُنفرجات ومُرتقيات. ولا بدّ من التذكير بما يحمله الفكر الفلسفيّ البراغماتيّ من معايير الصحّة في الاعتقاد الإيمانيّ، ومنها الإشراق الداخليّ والسلام الداخليّ والانتعاش الداخليّ في كيان المؤمن، والتماسك المنطقيّ في بناء العمارة الفكريّة الدينيّة، والخصوبة العمليّة الأخلاقيّة في المنفعة والخير اللذين يحصّلهما الناس لهم ولنظرائهم في الكون من مناصرتههم الصادقة للحقيقة الدينيّة المتجلّية في نطاق اختبارهم الإيمانيّ.

وخلاصة القول أنّ العقل العربيّ مدعوٌّ اليوم إلى ملاقاة العَلمانيّة في غير تشنّج ولا انقباض ولا استعداء. وإذا ثبت أنّ هذا العقل متأثّر أشدّ التأثّر بأنظومة الدين الإسلاميّ، وبأنّ التلاقح الفلسفيّ الإغريقيّ واللاهوتيّ المسيحيّ ما فعل فيه الفعل التغييريّ البنيويّ، فإنّ ميله المطّرد إلى التديّن قد يحمل إليه بذار الخلاص المنشود. فالاعتقاد الإيمانيّ الإسلاميّ يستحسن الوثوق بالحكمة الإلهيّة. والحكمة الإلهيّة ترعى التنوّع الإنسانيّ وتصونه وتعزّز فيه طاقات الانفتاح على الهداية الروحيّة. فإذا تلاقى مسعى الانفتاح في العَلمانيّة بواجب الانفتاح في الاعتقاد الإيمانيّ، انعتق العقلُ العربيّ من عقدة التملّك على الحقيقة ونضجت فيه قابليّاتُ الاعتراف الهنيّ بتنوّع السبُل والاختبارات والاستخلاصات. وفي هذا مناط الرجاء العَلمانيّ.
 

التعليقات