27/04/2011 - 10:21

الحراك العربي: تخصيب للمجتمع السياسي والمدني../ علي جرادات

الحركة الاجتماعية أعقد أشكال الحركة، والحركة السياسية هي الأعقد في الحركة الاجتماعية، ما لا يجيز حشر الحراك السياسي للشعوب، وبضمنه الحراك الشعبي العربي الجاري، في معادلة الأبيض والأسود من المحاكمات الحسابية

الحراك العربي: تخصيب للمجتمع السياسي والمدني../ علي جرادات
الحركة الاجتماعية أعقد أشكال الحركة، والحركة السياسية هي الأعقد في الحركة الاجتماعية، ما لا يجيز حشر الحراك السياسي للشعوب، وبضمنه الحراك الشعبي العربي الجاري، في معادلة الأبيض والأسود من المحاكمات الحسابية. لذا، فإن من الخطأ حصر نجاح الحراك الشعبي العربي في مقياس إسقاط هذا النظام العربي أو ذاك فقط. فرغم أهمية هذا المقياس كمقياس أول للتقييم، فإن المسألة هنا أكثر تعقيداً، وتبسيطها ضار، لأن الأهم من إسقاط النظام القائم، إنما يكمن أكثر في طبيعة النظام القادم ومحتواه. فقد سبق وأطيح بنظم عربية، رفع من جاء بعدها، (بالانقلاب أو بالوراثة أو بالتوريث)، لواء التصحيح، كشعار لازم للعبور إلى السلطة، إنما دون ترجمات حقيقية لهذا الشعار، الذي حتى، وإن تحقق شيء منه خلال السنوات الأولى للتغيير، لنكون أمام قاعدة "أبلسة" الزائل و"تقديس" القادم من الحكام دون وضع الأول كبرنامج وأداء في ميزان الإنجازات والإخفاقات، ودون تقييم لبرنامج الثاني وأدائه اللاحقين، ليبقى التغيير هنا تغييراً للشخوص وليس تغييراً للبرامج والسياسات والأداء، وطنياً وديمقراطيا وقومياً.
 
   لقد أفضت هذه الطريقة الحسابية التجريدية في محاكمة التغيير في السلطات السياسية العربية إلى تكريس نظم سياسية أبوية عائلية استبدادية شمولية، تجاوزها العصر والتاريخ، وأفرز تربعها على السلطة لعقود، دون مساءلة شعبية أو قانونية ودستورية فعلية، "تجريفاً" للمجتمع السياسي والمدني في الوطن العربي، على ما بين أقطاره من تمايز نسبي.
 
   لكن هذا "التجريف" لم يطمس التناقض في الحياة السياسية العربية، بل زاده احتداماً، فالنظم السياسية العربية، ظلت دون شرعية سياسية أو جماهيرية، ليس فقط نتيجة فشل برامجها وسياساتها وأدائها، بل أيضاً بسبب طريقة وصولها للسلطة عبر الانقلاب أو الوراثة أو التوريث.
  
وقد تجلت عمليات "التجريف" و"التصحر" في المجتمع السياسي والمدني العربي فيما تعرضت له القوى السياسية الشعبية المناهضة للنظم العربية الحاكمة من أشكال قمع، (الاعتقال، الملاحقة، كبت الحريات، الدفع نحو الهجرة والمنفى الخ...)، ما أدى إلى تشتيتها وإضعافها.
 
وبالنتيجة إلى غياب التنظيم السياسي المناهض، القادر على التفاعل المباشر مع الجماهير. فيما جرى السماح لأحزاب معارضة محدودة الحركة، تكاد تكون معدومة التأثير، ولا تشكل أكثر من ديكور للنظام الحاكم، الذي استوعبها وحوَّلها إلى ملاحق للتغطية على شموليته، التي أفضت أيضا إلى استيعاب مؤسسات المجتمع المدني، (نقابات وتنظيمات جماهيرية واتحادات شعبية وسلطات حكم محلي الخ...)، بعد إفراغها من مضمونها، وحرفها عن دورها المنوط بها، وتحويلها إلى ركيزة من ركائز النظام، وأداة من أدواته.
 
   لم يحُلْ ما ساد المجتمع السياسي والمدني العربي من "تصحر" و"تجريف" دون انفجار مرجل الغضب الشعبي العربي، بل فرض طريقة غير "كلاسيكية" لانفجاره، طريقة جاءت بها طبيعة العصر السريعة والعصية على التحكم، بعد أن خلقت ثورة الاتصالات الالكترونية الحديثة، وسيلة جديدة وغير مألوفة، لإطلاق شرارات الحراك الشعبي العربي، حيث انفتح الباب واسعاً أمام الوصول إلى المعلومات بوسائل يصعُب على جهاز الدولة البوليسي التحكم بها، وجعلت العلاقة بوسائل الاتصال الجماهيري أرحب فضاء، وممكنة خارج المؤسسات الإعلامية والمعلوماتية للنظم الحاكمة.
 
   بفعل ذلك، ونيابة عن وسائل "التنظيم السياسي القائد"، انبرت حركات شبابية، امتلكت منجزات عصرها، وقدحت الشرارات الأولى للحراك السياسي العربي، الذي تحول إلى انتفاضات شعبية، بعد انخراط الجماهير الشعبية فيه، فضلاً عن التحاق الأحزاب السياسية المعارضة بالركب، كقوى أثرت بشكل غير مباشر أو مباشر أحيانا في مجرى هذه الانتفاضات الشعبية. فالتكنولوجيا الحديثة وفرت، وكانت، وسيلة للتحريض والاتصال، فيما ساهم إعلام قوى المعارضة في توفير مادة هذا التحريض، أي الأفكار، وإن كان دون تماس مباشر أحيانا مع الجمهور، مما خلق للأفكار هيبة جديدة في أسلوبها، ما يعني أن التكنولوجيا كانت وسيلة مساعدة في نقل الأفكار وعرضها، لكنها لم تغن أبدا عن التنظيم السياسي كصانع لهذه الأفكار، التي لم تنتقل هيبتها إلى التنظيم السياسي، بل إلى حركات شبابية تمثلت هذه الأفكار، وحولتها بإبداع إلى "قوة فعل مادية" فعلت فعلها الكبير، وخلقت إمكانيات واسعة لإعادة تخصيب المجتمع السياسي والمدني العربي وتجديده، كمجتمع عانى لعقود عمليات "تجريف" و"تصحر" منقطعة النظير، وتجاوزت كل تصور.
 
   ولعل هذا من الإنجازات غير المنظورة للحراك الشعبي العربي، سواء عبر ما سيخلقه هذا الحراك الشعبي من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني جديدة، أو عبر ما جرى استنهاضه وإحياؤه من صيغ قائمة مُستوعَبة. ولعل هذا واحد من الأسباب التي تدعو إلى ضرورة محاكمة الحراك الشعبي العربي محاكمة شاملة واقعية نسبية، بعيداً عن المحاكمات التجريدية الحسابية المجتزئة المستعجلة الميكانيكية والاطلاقية في التقييم والأحكام والقياس.، ذلك انطلاقا من أن الحراك الشعبي العربي الجاري:  
  
أولاً: ليس حدثاً عاديا، بل هو حدث تاريخي، أطلق صيرورة تغيير، تنطوي على المنظور وغير المنظور، وعلى المباشر وغير المباشر، وعلى الصريح والمُضمر، وعلى التكتيكي والإستراتيجي، وعلى السياسي والاجتماعي، وعلى الوطني والقومي الخ... من الإنجازات.
 
ثانياً: إن هذه الصيرورة تحمل في جوفها صراعاً محتدماً بين قديم يتهاوى، وإن لم ينتهِ كلياً بعد، وجديد يتوالد، وإن لم يكتمل كلياً بعد. وبالتالي، فإن من السذاجة بمكان توقع نهاية سريعة لهذه الصيرورة، ناهيك عن ما بين قُطر عربي وآخر من تمايز نسبي، فضلاً عن تشابك هذه الصيرورة مع تدخلات خارجية معادية، يقف في مقدمتها التدخلات الغربية بقيادة أمريكية، التي تستعمل شعارت الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية، كمبادئ تُرفع إلى مرتبة المقدسات، إن هي خدمت المصالح الغربية، وتُداس، إن هي تعارضت مع تلك المصالح. هكذا كان، وما زال، ديدن القوى الاستعمارية الغربية في القرنين الأخيرين.             

التعليقات