08/05/2011 - 11:03

بشأن عفوية الحراكات الشعبية وشرعيّتها../ ماجد كيالي

هذه الادعاءات تضر بمكانة الثقافة، وبدور المثقفين، لأن هؤلاء لايمكن أن ينحازوا إلا إلى قيم الحرية والعدالة والكرامة، ولا يمكن أن يدافعوا إلا عن الضحايا من المقهورين والمظلومين، مهما كان الوضع. فما هي هذه الثقافة التي تدافع عن سلطة الاستبداد والفساد؟ وعن أي شيء تدافع حقا؟

بشأن عفوية الحراكات الشعبية وشرعيّتها../ ماجد كيالي
اندلعت الثورات الشعبية في عديد من البلدان العربية، من دون سابق إنذار، أو تهيئة، أو تخطيط، وأيضا على الرغم من غياب «الطليعة»، والأحزاب الثورية، ومن دون أن تتغطّى ببرامج سياسية جاهزة أو بمنظومات أيديولوجية معروفة؛ أي إنها لم تنشأ بحسب حسابات المنظرين ولا وفق رغباتهم أو تخيلاتهم.
 
هكذا فإن اندلاع هذه الثورات، من تونس إلى اليمن، ولاسيما انتصارها في أكبر بلد عربي (هو مصر)، إنما يعني شيئا واحدا، ينبغي الإقرار به، وعدم الترفّع عنه أو إنكاره، وهو أن زمن التنظيرات النمطية، والمسبقة، بات إلى غروب، وأن حراكات الواقع باتت تسبق حراكات التفكير، بما يخصّ هذه اللحظات التي تتكثّف فيها حركة التاريخ.
 
لا يعني ذلك البتّة تقديس الحركة العفوية، ولا التغنّي بها، مثلما لا يعني الدخول في نوع من الجدل الفلسفي، حول أولوية الواقع على الفكر أو الفكر على الواقع، وإنما يعني تفحّص هذه التجربة وملاحظتها، من داخلها، وكما تحدث، أو في صيرورتها، على أرض الواقع.
 
على ذلك لا يمكن محاسبة الحركات الشعبية، أو التقليل من شأنها، بسبب غياب طابعها الحزبي أو الأيديولوجي، أو بسبب غياب برامج جاهزة لها، أو لافتقادها لقيادة كاريزمية أو إدارة تنظيمية معينة، على العكس من ذلك فإن المسؤولية في كل هذه المجالات تقع على عاتق طرفين، أولهما النظم السياسية السائدة، وثانيهما الأحزاب السائدة.
 
في الحقيقة فإن النظم السياسية، باعتبارها الفاعل الأكبر، أو المحتكر للفعل، في بلدانها، بحكم طبيعتها التسلّطية والهيمنية على المجالين السياسي والمجتمعي، هي التي تتحمل المسؤولية الأساسية عن غياب الطابع المنظّم للتحركات الشعبية، وانفلاش خطابها السياسي، وحصول بعض الفوضى في إدارتها. لأن هذه النظم كانت، من الأصل، قد منعت السياسة عن المجتمع، وقيّدت المشاركة السياسية، وهمشت مختلف القوى الاجتماعية، وصادرت حريات الأفراد المتعلقة بالرأي والتعبير والاجتماع.
 
القصد من ذلك أن هذا النمط من السلطات التسلطية، القائمة على محو الآخر، أو تهميشه، والتي صادرت القانون والدولة والمجتمع، وجعلتها بمثابة ملكية خاصة، هي التي خلقت هذا النوع من المجتمعات شبه الأمية من الناحية السياسية، كما من ناحية ضعف تمكّنها من التعبير عن ذاتها، بالشعارات والطرق المناسبة واللائقة.
 
وعلى رغم أن السلطات السائدة، والمتسيدة، هي التي تتحمل معظم المسؤولية عن كل ما يحصل من توترات وتخبّطات، في التحركات الشعبية، فإن الأحزاب السياسية السائدة تضطلع بقسطها من المسؤولية عن كل ذلك، كونها ارتضت، هي الأخرى، بالتهميش والتدجين، مكتفية ببعض الامتيازات المتحققة لها، من التعاون مع السلطات القائمة، أو من التغطية على سياساتها، وربما تجميلها.
 
وبالأصل فإن هذه الأحزاب لم تؤهّل ذاتها لاحتضان مطالب المجتمع وحملها إلى السلطات المعنية، كما لم تفكّر يوما باجتراح خط مغاير للنهج الذي تسير عليه سلطاتها، وحتى إنها لم تسع، بالدرجة اللازمة، لتعزيز علاقاتها بفئات المجتمع، أو حتى تعريفها على ذاتها السياسية، أي بحقوقها.
 
ويستنتج من ذلك أن مشكلة غياب الطابع الحزبي، والمنظم، وضعف القدرة على التعبير السياسي في الحراكات الشعبية الحاصلة، لا تتحمل مسؤوليتها الفئات الشعبية المنتفضة، أو الثائرة، والتي تطمح لتغيير واقع الظلم والحرمان والامتهان المحيق بها، وإنما تتحمل مسؤوليتها الأحزاب السائدة، والمنتشرة في معظم البلدان العربية، تماما بقدر ادعاء هذه الأحزاب لمكانتها في المجتمع وطليعيتها بالنسبة له.
 
أيضا، فقد ظهر في النقاشات الدائرة من حول التحركات الشعبية نوع من المثقفين، أو المنظّرين، الذين يتساءلون، في نوع من التشكّك، عن ضرورة هذه التحركات وشرعيتها وجدواها ومآلاتها.
 
طبعا، ثمة مشروعية لأي تساؤل، ولأي شك، فهذا من طبيعة التفكير العقلاني. لكن الأمر هنا لا يتعلق بالعقلانية، ولا بالواقعية، لأن هؤلاء المنظّرين، أو المثقفين، كانوا قبل حدوث هذه التحركات يشكون من سلبية مجتمعاتهم، ومن خنوعها للسلطات الحاكمة، بل وثمة منهم من اعتقد بأن ثمة عنصراً جينياً في مجتمعاتهم يفسر هذه القابلية للاستبداد والفساد، كما للخنوع والخضوع!
 
ولعل هذا يحيلنا إلى تصحيح مفهومي العقلانية والواقعية، إذ ليس من العقلانية والواقعية في شيء استمرار الحال التي هي عليها المجتمعات العربية، من هوان وحرمان، ومن فساد واستبداد، إلى الأبد. وليس من العقلانية والواقعية قبول هذه المجتمعات لواقع البؤس والحرمان المحيق بها، وعدم التمرد عليه، في حال توافرت لها بعض الظروف المواتية؛ حتى بغض النظر عن إمكان نجاحها في ذلك من عدمه، فهذه سنّة التحولات التاريخية، التي لا تسير في اتجاه واحد ومستقيم.
 
اللافت أن بعض التنظيرات تنحي باللائمة على التحركات الشعبية، بدعوى عدم النضج السياسي، وبدعوى سطحية شعاراتها، وفي أحيانا كثيرة بدعوى أن الغلبة ستكون للأقوى.
 
الواقع أن هذه الادعاءات غالبا ما تصدر عن أصحابها كمحاولة لحجب موقفهم المهزوز، أو المرائي، أو كنوع من «التقية»، وهي ادعاءات مضرّة بالمنظرين المعنيين من الناحيتين السياسية والأخلاقية.
 
فضلا عن ما تقدم فإن هذه الادعاءات تضر بمكانة الثقافة، وبدور المثقفين، لأن هؤلاء لايمكن أن ينحازوا إلا إلى قيم الحرية والعدالة والكرامة، ولا يمكن أن يدافعوا إلا عن الضحايا من المقهورين والمظلومين، مهما كان الوضع. فما هي هذه الثقافة التي تدافع عن سلطة الاستبداد والفساد؟ وعن أي شيء تدافع حقا؟

التعليقات