21/05/2011 - 10:33

خطاب أوباما: افتقد نزاهة الأكاديمي وحنكة السياسي../ معن بشور

يبدو أن موهبة الرئيس الأمريكي أوباما الخطابية لم تسعفه في كلمته الموجهة إلى العالم الإسلامي من مقر وزارة الخارجية الأمريكية هذه المرة، فلقد غابت عن الخطاب "التاريخي" نزاهة الأكاديمي وحنكة السياسي فوقع في جملة تناقضات جعلت من كلمته نموذجاً لسياسة المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين، وهي سياسة أفقدت واشنطن وحلفاؤها مصداقيتهم في العالم أجمع، وفي منطقتنا على وجه التحديد، وساهمت في تصعيد الاحتقان الشعبي العربي والإسلامي بما يؤدي إلى الجنوح نحو التشدد والتطرف والغلو، ولعل ما نشر مؤخراً من استطلاع لشعبية الولايات المتحدة في الدول العربية والاسلامية قامت به جامعة امريكية ما يؤكد أتساع حجم الهوة بين واشنطن من جهة وبين العرب والمسلمين وأحرار العالم من جهة ثانية

خطاب أوباما: افتقد نزاهة الأكاديمي وحنكة السياسي../ معن بشور
يبدو أن موهبة الرئيس الأمريكي أوباما الخطابية لم تسعفه في كلمته الموجهة إلى العالم الإسلامي من مقر وزارة الخارجية الأمريكية هذه المرة، فلقد غابت عن الخطاب "التاريخي" نزاهة الأكاديمي وحنكة السياسي فوقع في جملة تناقضات جعلت من كلمته نموذجاً لسياسة المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين، وهي سياسة أفقدت واشنطن وحلفاؤها مصداقيتهم في العالم أجمع، وفي منطقتنا على وجه التحديد، وساهمت في تصعيد الاحتقان الشعبي العربي والإسلامي بما يؤدي إلى الجنوح نحو التشدد والتطرف والغلو، ولعل ما نشر مؤخراً من استطلاع لشعبية الولايات المتحدة  في الدول العربية والاسلامية قامت به جامعة امريكية ما يؤكد أتساعحجم الهوة بين واشنطن من جهة وبين العرب والمسلمين وأحرار العالم من جهة ثانية.
 
ولم يكن صعباً لأي مراقب أن يلاحظ أن باراك اوباما قد استعاد خطاب "المحافظين الجدد"، الذي بنى شعبيته، وخاض انتخاباته الرئاسية، في مواجهته، فإذا هو يردد مفردات وأولويات استراتيجية بوش، ويخاطب العرب والمسلمين والعالم بلهجة فوقية إملائية تحدد لكل شعب ودولة سياساتها وقراراتها، بل تحدد "للمجتمع الدولي" نفسه ما ينبغي وما لا ينبغي أن يقوم به لا سيّما بالنسبة لقرار هيئة الأمم المتحدة حول الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول / سبتمبر القادم حيث أسقط أوباما من حسابه مواقف الأغلبية الكاسحة في الجمعية العامة، وكأنه يريد القول إن إدارته تملك أيضاً حق الفيتو في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد مجلس الأمن، وهو ما يخالف الميثاق الأممي، وأعراف المنظمة الدولية وتاريخها.
 
لقد فرض المنطق الذي اعتمده في خطابه الجديد على المحللين والمتابعين جملة أسئلة وتساؤلات تفضح ازدواجية الخطاب وانتقائيته واستنسابيته.
 
1-          في غمرة تودده إلى الثورة الشعبية في مصر وتونس، والتي بقي مسانداً لأنظمتها السابقة حتى اللحظة الأخيرة، اعترف أوباما بخطأ دعمه للأنظمة الدكتاتورية التي سقطت، فهل يشمل هذا الاعتراف أيضاً خطأ دعم أنظمة صديقة لواشنطن، ما زالت قائمة، وهي تفتقر لأبسط المعايير الديمقراطية من انتخابات وتداول سلطة وإصلاحات ومكافحة فساد واحترام حقوق المرأة.
 
2-          لقد ذرف الرئيس أوباما دموعاً غزيرة على الدماء التي أريقت في غير بلد عربي، ونحن معه في الأسى على كل نقطة دم تراق في مواجهات داخلية، ولكن الرئيس نسي مثلاً أكثر من مليوني شهيد عراقي سقطوا، وما زالوا، بفضل حصار إدارته وحروبها واحتلالها المتواصل منذ أكثر من عقدين، ناهيك عن عشرات الشهداء من مدنيين وأبرياء تحصدهم طائرات الأطلسي في أفغانستان وصولا إلى ليبيا.
فهل دماء البشر عند أوباما فئات، نتذكر بعضه إذا أردنا استغلاله وتوظيفه، ونتجاهل أكثره صامتين عنه صمت القبور.
 
3-          حاول أوباما رشوة الشعب الثائر في مصر حين تحدث عن إعفائه مليار دولار من الديون، وهو بالطبع مبلغ تافه بالنسبة لحاجات مصر، وبالتأكيد أقل بكثير من عشرات المليارات التي سرقها حكام مصر السابقين وأودعوها مصارف أمريكا وأوروبا.
 
4-          وإذا ساء الرئيس أوباما الاعتقالات العشوائية وعمليات التعذيب، ونحن نستنكر معه الاعتقال السياسي أياً كانت مبرراته، ولكن نسأل الرئيس أوباما هل نسي المعتقلين منذ عشر سنوات دون محاكمة في معتقل غوانتانامو وفي المعتقلات الأمريكية السرية والعلنية، ونسي التعذيب في معسكر أبو غريب، كما في سجون الأنظمة الصديقة له، بل نسي بشكل خاص وعده يوم تسلّمه رئاسة أمريكا بأنه سيعمد إلى إقفال معتقل غوانتانامو فوراً، فأين وعده ذاك، أم أنه تبخر، كما تبخرت العديد من وعود أوباما في السياستين الداخلية والخارجية، وكما تبخر وعده بوقف الاستيطان الصهيوني، وقد قفز فوقه أوباما في خطابه دون أن يوجه لحليفه الصهيوني ولو كلمة عتاب بسيط.
 
5-          لقد قدم أوباما بلاده كمصدّر للديمقراطية، كما يصّدر غيره الثورات حسب زعمه، ونسي ما قاله في خطابه الأول في القاهرة عن ترك هذا الأمر لشعوب المنطقة (وفي نقد مباشر آنذاك لاستراتيجية بوش وزمرته)، فإذا كانت الثورات الشعبية قد دفعته إلى العودة إلى استراتيجية بوش، فهل يشكل النموذج الديمقراطي الذي قدمه الاحتلال الأمريكي في العراق نموذجاً يحتذى به، وهو نموذج أطلق العنان للعصبيات العرقية والطائفية والمذهبية على أنواعها، كما وفر الرعاية الأمريكية لكل أنواع القتل والقمع والبطش والتي وصلت اخيراً إلى مستوى القمع الدموي للتحركات الشعبية من شمال العراق إلى جنوبه، وهو بالمناسبة قمع سكت عنه أوباما في خطابه التاريخي.
وما يقال عن النموذج الديمقراطي في العراق، يقال كذلك عن نموذج مماثل في أفغانستان حيث الفساد في ذروته، والقمع في أوجه، كما يقال عن "نماذج" من احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة التي نراها تسود  بين أصدقاء واشنطن من المحيط إلى الخليج.
 
اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فلم تكن ازدواجية المعايير، والانقلاب في المواقف، والتلاعب بالكلمات، بأقل منها في تعامله مع القضية الديمقراطية.
 
فالجديد الذي حمله الخطاب ليس واضحاً، والواضح في الخطاب ليس جديداً، لا سيّما لجهة الانحياز الكامل للموقف الصهيوني في كل القضايا المطروحة، حتى يمكن التساؤل، وباستغراب: "إذا كان الخطاب الموجّه للعالم الإسلامي يتضمن كل هذا الانحياز لتل أبيب، فكيف سيكون خطابه الموجه بعد أيام إلى (الايباك)"، أقوى مجموعات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وبحضور نتنياهو نفسه الذي استقبله أوباما باصدار العقوبات ضد الرئيس الأسد واخوانه والتهديدات ضد سوريا والمنطقة.
 
وهنا لا بد من طرح جملة أسئلة وتساؤلات أيضاً، لا تكشف فقط درجة عالية من الانحياز للعدوان الصهيوني، بل تكشف درجة  أعلى من الجهل بحقائق المنطقة ومشاعر أبنائها لا سيّما الارتباط الوثيق بين ما هو وطني وما هو قومي وما هو إسلامي، ولا سيّما بين فلسطين والقدس وبين كل هموم المنطقة واهتمامات أبنائها.
 
1-          ألا يعتقد أوباما أنه من الخطأ السياسي البالغ أن يعلن في خطاب موجه للعالم الإسلامي عن تأجيل البحث في قضية القدس واللاجئين، وهما القضيتان الأكثر قدسية عند الناس والأكثر إثارة للمشاعر في هذه المنطقة.
ثم ألا يرى أوباما تناقضاً في حديثه عن مفاوضات حول دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة والاتفاق على حدودها، وبين تأجيل البحث حول مصير القدس وهي عاصمة هذه الدولة، بل هي مركز مقدسات المسلمين والمسيحيين في العالم. فأي حدود يمكن التفاوض عليها اذا كان موضوع القدس مؤجلاً.
 
2-          أما بالنسبة لحق العودة فلم يخف الرئيس الأمريكي تبنيه الكامل والقاطع للموقف الصهيوني منه، والذي لن يحرم ملايين الفلسطينيين من حق تكفله لهم شرائع السماء وقوانين الأرض والمواثيق والقرارات الدولية فحسب، بل إنه يريد من خلال إنكارها تصدير مشكلة أوجدها الاغتصاب الصهيوني لنفسه منذ 63 سنة حين شرد شعباً بأكمله من أرضه، لكي تصبح مشكلة في الأقطار المضيفة من خلال مشاريع "التوطين" أو "الوطن البديل".
 
ولعل من المفارقات الكاشفة هي أن الإنكار المبدئي لحق العودة قد ترافق مع التبني الرسمي الأمريكي للجريمة الصهيونية بحق مئات الآلاف من أبناء فلسطين في الداخل والخارج في مسيرة العودة والتي أدت إلى سفك دماء أطفال ونساء ومسنين مسالمين كل ذنبهم أنهم خرجوا داخل بلدهم في جنوب لبنان والجولان  يطالبون بالعودة إلى بلادهم.
فكيف يستوي الادعاء بالحرص على الدماء في هذا البلد أو ذلك ثم تبرير قتل العشرات وجرح المئات في 15 ايار.
وكيف يسمح أوباما لنفسه أن يشن حروباً ويصدر عقوبات بذريعة وقف سفك الدماء، فيما إدارته عرقلت، وما تزال، إحالة تقرير غولدستون حول جرائم حرب غزة، وتقرير آخر حول جريمة أسطول الحرية، وهما تقريران أصدرهما مجلس حقوق الإنسان  التابع للأمم المتحدة.
 
3-          ثم كيف يستقيم حديث أوباما عن "يهودية" دولة إسرائيل بكل ما ينطوي عليه من محتوى عنصري إقصاّئي يقود إلى تطهير عرقي، مع حديثه عن الديمقراطية وحقوق الانسان والقيم والمثل التي قامت أساساً لمواجهة كل أشكال العنصرية وصنوفها، خصوصاً وأن أوباما قد  خرج أصلاً من أكناف جماعة سوداء دفعت غالياً ثمنا لعنصرية النظام الأمريكي ورفض أوساط واسعة فيه أبسط الحقوق المدنية للسود، ناهيك عن اضطهاد لكل الملونين في الولايات المتحدة.
 
4-          وحين يكون الأمر متعلقاً بالكيان الصهيوني فإن خطاب الرئيس الأمريكي يأتي  قاطعاً حاسماً في دعمه لأمن هذا الكيان ولكل مواقفه، أما بالنسبة للحقوق الفلسطينية المكرّسة دولياً فالخطاب يقوم على الإنكار المطلق حيناً، والغموض المتعّمد حيناً آخر والتسويف والتأجيل دائماً، فكيف يمكن لخطاب يقوم على انتقائية فظة أن يقنع الفلسطيني والعرب والمسلمين وأحرار العالم بصوابيته.
 
 
5-          كيف يمكن أن يكون خطاب أوباما نزيهاً ومتوازناً ومقبولاً وهو الذي لم يكلف نفسه عناء توضيح أسباب استقالة مبعوثه إلى فلسطين جورج ميتشيل بعد عامين ونصف على تكليفه، (وهي ليست الاستقالة الأولى لهذا المبعوث الرئاسي الذي طالما اصطدم بالحائط المسدود في تل أبيب)، ولماذا لا يقدم أوباما أيضاً تفسيراً لتراجعه عن مطلبه الشهير الذي أعلنه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عامين حول لا شرعية الاستيطان ولا قانونيته، وهي الجمعية التي ينكر عليها أوباما اليوم التصويت على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة. بل كيف يدعو العالم كله للانصياع لقرارات المجتمع الدولي، إذا جاءت وفق املاءاته، ثم ينكر على المؤسسة الدولية نفسها أن تتخذ قراراً ينسجم مع قرارات دولية سابقة بدءاً من عام 1948، ومع ميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان.
 
وفي الختام ماذا يبقى من شعار "التغيير" الذي أطلقه أوباما عشية حملته الانتخابية، وكيف يمكن لسياسة تقوم على هذا الكم من التناقضات والانتقائية وازدواجية المعايير أن تسهم في صون الأمن والسلم العالميين وفي الدفاع عن حقوق الشعوب وحرياتهم.
 
          إن  خطاب أوباما الأخير لا يكشف فقط عن حجم التراجعات في سياساته، وهي تراجعات تشمل السياسات الداخلية والخارجية، بل يكشف مرة أخرى حجم الوهن الذي أخذ يصيب الدولة الأقوى في العالم، وحجم الارتباك الذي يلف سياستها، وحجم التناقض الذي يسود خطابها، بل يكشف كذلك الفرص المتاحة أمام شعوب العالم، وفي مقدمها أبناء أمتنا العربية والإسلامية، لتعزيز مقاومتها وصمودها، وتوطيد دعائم كفاحها، على طريق التحرر والحرية وطريق العدالة والتقدم.
                    

التعليقات