16/06/2011 - 12:32

"دولة المواطنين" والجيتو الإسرائيلي../ عوض عبد الفتاح

إن مشروع التجمع هو مشروع العمر بالنسبة لعرب الداخل

ليس أمرًا سهلاً أن يعقد حزب عربي داخل الخط الأخضر، ستة مؤتمرات في غضون خمسة عشر عامًا ونيف، هي الفترة الزمنية التي جعلها مختلفة وأغدق عليها لونًا خاصًا.
 
خاض هذا الحزب معركة تلو الأخرى، بعضها بمبادرته، كالمعركة الفكرية في مواجهة الطابع الصهيوني للدولة العبرية بعنوان "دولة المواطنين"، والمعركة الموازية أو المهمة والمتصلة بمواجهة البنى الاجتماعية-السياسية للمجتمع العربي عبر إعادة تنظيمه وإعلاء الوجه والجوهر الجماعيين لهذا الجزء من شعبنا، ويتم ذلك عبر انتخاب لجنة المتابعة وبناء مؤسساتها. وفي خضم هاتين المعركتين واجه تحديات فرعية عديدة تغلب على معظمها، وواصل الطريق بثبات، ولا تزال أمامه الكثير من المهام التي لم يتمكن من إنجازها بعد.
 
لا تزال هاتان المعركتان (والمهمتان) محتدمتين. ففي الأولى اختارت الدولة العبرية أن تجعلها مفتوحة وضارية – سياسيًا وأيدلوجيًا وإعلاميًا. وتجلت ضراوتها في التحريض على رئيس الحزب عزمي بشارة منذ عام 2000، وتقديمه للمحاكمة أكثر من مرة، وتتويج الملاحقة بالمؤامرة التي أدت به الى المنفى القسري، كما تجلت في محاولات شطب الحزب المتكررة عشية كل انتخابات للكنيست، والملاحقات السياسية لقيادات وكوادر الحزب والتحريض الأرعن والمتزايد وفي ممارسات كثيرة أخرى. ولكن الدولة لم تنجح ولن تنجح في تصفية دور هذا الحزب أو في قمع هويته ورايته، فقد تحول في عقد ونصف الى جزء مُميّز وفاعل في النسيج الاجتماعي، ومن صُلب البنية الثقافية السياسية لعرب الداخل. ومن بين ما يجعله محصنًا نسبيًا ضد الشطب هو الوجه المدني والديمقراطي لبرنامجه السياسي والفكري.
 
فالتجمع، التيار القومي الديمقراطي، قدم برنامجًا ديمقراطيًا، وإنسانيًا، للعيش المشترك بين العرب الفلسطينيين والإسرائيليين، في دولة المواطنين، وفتح الباب نظريًا أمامهم للخروج من الإسار القبلي – إسار القبيلة العبرية التي أعادت إنتاج الجيتو اليهودي بحجم لم يعرفه تاريخ اليهود، وسط بيئة بشرية أصيلة قاومت ولا تزال السطو والهيمنة عليها.
 
قامت فرضية الحزب في بداياته على الأمل بإمكانية تطوير حوار من منطلق الندية مع المجتمع الاسرائيلي وبالتحديد مع نخبه المدعية الليبرالية والقادرة على الإصغاء. أي لم يكن لدى الحزب وهم بأن برنامجه، دولة المواطنين، قابل للتحقيق في المدى المنظور أو المتوسط. بل لم يكن لديه أي وهم بإمكانية تحقيق ذلك دون إلغاء وتفكيك منظومة الأفكار الصهيونية – أي منظومة السيطرة.
 
وبدل تحقق الانفتاح والسجال الفكري مع المجتمع الاسرائيلي، أمعن هذا المجتمع وفي مقدمته النخب الأكاديمية والإعلامية والسياسية، في الاستقطاب والتمترس في عنصريته وثم حشده بدرجات جديدة من العداء ضد العرب وضد حزب التجمع.
 
لم تكن الانتفاضة الثانية وسقوط أوهام أوسلو وراء ازدياد هذا العداء، بل لأن جوهر الصهيونية –  أي السيطرة والتمسك بالامتيازات اليهودية، يشكلان حزامًا حديديًا قويًا حول القبيلة. وتفاقم العداء مع تقدم هذا الخطاب الديمقراطي الحديث وتغلغله في أوساط النخبة السياسية والأكاديمية العربية في الداخل. كل ذلك أدى إلى تعزيز التمسك بالهوية الوطنية في صفوف المواطنين العرب، وفي قواعد وجمهور حزب التجمع.
 
وللأسف "جاهد" بعض ممثلي الجمهور العربي، للظهور بمظهر المعتدل أمام المؤسسة لتمييزه عن هذا الحزب وبرنامجه وخطه. لم يكن لهؤلاء قدرة على الصمود والتماسك في وجه هذه الحملة المتصاعدة منذ عشر سنوات، حتى لو تباهوا بهذا التماسك أمام الجمهور العربي فهم في الخفاء ومع أسيادهم يتحدثون بلسان مختلف. وظهرت في هذه الآونة ظواهر سياسية مشوهة ومعيبة؛ كالتعاقد مع المؤسسة الاسرائيلية أو التآمر على الحركة الوطنية.
 
حزب التجمع، حزب ثورة، ثورة فكرية سياسية، أعاد توضيح معطيات الساحة السياسية في إسرائيل وحدد الموقف الوطني والديمقراطي منها. وأبقى الباب مفتوحًا للنقاش والتداول في مواقف أساسية وتطويرها إن أمكن، ولكن دون التنازل عن الانتماء القومي وما يترتب عليه من واجبات ومواقف وممارسات، ودون التنازل عن الموقف الديمقراطي الإنساني مهما بلغ العداء من جانب المؤسسة الإسرائيلية. فهذه المؤسسة أو هذا النظام يدفع غالبية المجتمع الإسرائيلي إلى العداء المريض لكل ما هو عربي، ولكن حزب التجمع لا يتصرف بثأر قبلي متخلف، فلا يسمح لنفسه بكراهية اليهود، فجلّ نضاله وعمله ضد الاحتلال والعنصرية الصهيونية ومن أجل بناء المجتمع العربي. وهو يعرف ويدرك أن التغيير الحقيقي لن يأتي بضربة واحدة، بل عبر نضال طويل وشاق، يخوضه شعب فلسطين في الأرض المحتلة عام 67، واللاجئون من الخارج، والفلسطينيون مواطنو دولة اسرائيل ومعهم اليهود والديمقراطيون وأحرار العالم من أجل دحر نظام القهر العنصري. وهذا التفاعل الآخذ في التزايد بين كافة تجمعات الشعب الفلسطيني مرشح أن يتوج في مرحلة تاريخية قادمة تحت سقف سياسي موحد. وهذا ما أشار إليه برنامج مؤتمر الحزب الرابع إذ أبقى الباب مفتوحًا لحل سياسي أكثر عدلاً من الدولتين.
 
إن نزعة الانعزال العنصري والإثني التي تميّز الصهيونية والدولة العبرية تجلت أكثر وأكثر ليس فقط مع بناء الجدران العنصرية في الضفة والقدس وإحاطة القرى والمدن العربية داخل الخط الأخضر بالمستوطنات، ومحاصرة الأحياء العربية في المدن الفلسطينية الساحلية، بل أيضًا أفصحت عن نفسها في الموقف من الثورات العربية. فقادة إسرائيل اعتبروا هذه الثورات تهديدًا لإسرائيل وبسقوط نظريتهم بالنسبة للشعوب العربية سقطت نهائيًا بدعة أن إسرائيل "فيلا في غابة".
 
لقد كان التجمع أواسط التسعينيات من القرن الماضي قد حدد معالم وهوية أي تيار قومي يطمح لأن يعيد بناء الدولة. كان العالم العربي يموج بالاجتهادات والجهود الفكرية لإعادة صياغة مفاهيم الدولة الحديثة، وبأن يكون هناك تنظيم يقود المشروع القومي الديمقراطي. وتحولت كتابات عزمي بشارة في هذا المجال إلى مرجعية رئيسية للنخب العربية المعنية بالتجديد والتغيير. وليس صدفة أنه أصبح مرجعًا للثوار العرب وتحول حزب التجمع إلى مثار إعجاب لدى أوساط واسعة من القوميين والديمقراطيين والوطنيين في الوطن العربي والشتات الفلسطيني.
 
ما ميّز مشروع التجمع هو إقلاعه من واقع العيش في دولة ليست دولته، ومن واقع جزء من شعب وجد نفسه يُدير معاركه بنفسه منذ عام 48، تارة برفع لواء الوطنية الإسرائيلية وأخرى براية الهوية القومية العربية وأخرى الهوية الوطنية الفلسطينية وأخرى الهوية الإسلامية، إلى أن تمخضت هذه التجربة الحزبية والحركية السياسية العربية في الداخل عن زبدة تحولت إلى مشروع كفاحي مُجسّد بحزب التجمع هدفه الدفاع عن الوجود وعن الهوية القومية وبوسائل فكرية جديدة ذات بعد إنساني وتنويري.
 
وقد يُسأل السؤال، ما هو مصير هذا المشروع بعد أن أغلق الجيتو اليهودي في بلادنا الأبواب، وانطوى على نفسه وصمت أذناه، وانسدّت مسامات عقله؟ بل ماذا بعد أن راحت نخبته الحاكمة تعيد تأكيد القوة، وزيادة التسلح رغم الإخفاقات العسكرية الكبيرة التي أصيبت بها؟ ليس لدى أقطاب الدولة العبرية إجابة أخلاقية أمام استعداد العالم العربي عقد مصالحة تاريخية مع اليهود الاسرائيليين، فجوابهم هو مواصلة تحسس مسدساتهم، وتحضير المدافع والطائرات ولكن وسط ارتباك وقلق وخوف من المجهول. وليس لديهم إجابة أخلاقية وإنسانية على مطالب عرب الداخل بالمساواة الكاملة وهنا أزمتهم الكبرى. فالحل الأمني، واعتماد الحرب غير مقبول قانونيًا ودوليًا في التعامل مع 20% من المواطنين، وبالذات التعامل مع مطالب تنسجم مع ما تعلنه اسرائيل من ديمقراطية ومبادئ المساواة. هي تستعمل الآلة العسكرية خارج حدود الـ67، ولكن داخلها تبقى أيدي هذه الآلة الوحشية مغلولة نسبيًا، ولم تعد سياساتها القهرية-العنصرية المنفذة بطريقة ناعمة نسبيًا غير مرئية للعالم. مع ذلك لا يجوز للتيار القومي الديمقراطي في الداخل التراجع عن هويته المدنية والديمقراطية وتطوير التحاور مع الأوساط اليهودية المعادية للاحتلال والعنصرية مهما كان حجمها ووزنها، وذلك بالتوازي مع تعزيز الهوية القومية المنفتحة. ليس هذا ما سيؤدي الى تصدع جدران الجيتو الاسرائيلي، فالنضال الوطني الشامل هو الكفيل بذلك، ولكن هذا الحوار والتواصل يبقي الباب مفتوحًا أمام مستقبل لحياة مشتركة قائمة على العدل والمساواة.
 
مشروع العمر
 
ليس مشروع التجمع مشروعًا فكريًا خالصًا، بل هو مشروع ثقافي وحضاري، ويقوم الحزب بترجمة تفاصيل هذا المشروع على الأرض بوتائر ثابتة. حتى الآن قامت قيادات الحزب وقواعده ببناء الأداة التنظيمية المكلفة بالمضيّ قدمًا في ربط الناس بهذا المشروع؛ تعزيز قناعاتهم، وتجنيدهم في النضال، وتهيئة الأجيال الشابة لتبوّؤ المسؤولية التاريخية. ولا تزال هذه الأداة تحتاج إلى تقوية وشحذ لتكون قادرة على التوسع بين الناس وحماية هويتهم وتمكينهم من النضال من أجل إسقاط العنصرية وترسيخ جذورهم في الأرض وتحصين بنيتهم الاجتماعية وكيانهم القومي. عبر بناء المؤسسات التمثيلية والمهنية.
 
إن مشروع التجمع هو مشروع العمر بالنسبة لعرب الداخل.

التعليقات