18/06/2011 - 11:19

أحداث مخيم اليرموك: "موت" الفصائل الفلسطينية../ ماجد كيالي

ولنكن واضحين فإن الفصائل ذاتها، هي التي أشاعت ثقافة وسلوكات العنف في المجتمع الفلسطيني، أولا، باختزالها بناها إلى مجرد بنى ميليشيوية وأمنية، على حساب البنى الحزبية والجماهيرية. وثانيا، باتجاهها مرارا لحسم الخلافات الداخلية، والبينية، من طريق العنف المسلح، في تجارب عديدة (من الأردن إلى لبنان وسورية والضفة وقطاع غزة). وثالثا، بتغييبها العلاقات الديمقراطية، وتهميشها الهيئات الشرعية، واعتمادها لغة التخوين والاستئصال وعدم قبول الآخر. ورابعا، باستعلائها على شعبها، وعدم إشراكه بالتقرير بشأن مصيره ومستقبله

أحداث مخيم اليرموك:
ما جرى في مخيم اليرموك يمثل ربما إرهاصات مرحلة يجري فيها القطع مع النظام السياسي الفلسطيني الفصائلي، ويمهد لمرحلة محمولة على رياح الثورات العربية...
 
لم تكن الأحداث المؤسفة والمروعة التي شهدها مخيم اليرموك (يوم 6/6)، بعيد تشييع جثامين الشباب الشهداء الذين قضوا في ما سمي "انتفاضة العودة"، وليدة ظرفها أو لحظتها. ففي هذا اليوم شيّع المخيم شهداءه، في حالة غضب وأسى شديدين، على خلاف حالة الفخار والعزة التي دفن فيها شهداءه الثلاثة، قبل ثلاثة أسابيع، والذين كانوا قضوا في محاولة العودة الأولى (في يوم النكبة 15/5).
 
معلوم أن هذا المخيم، شهد يومها، نوعا من انتفاضة شعبية عارمة، كان شعارها الأبرز، بين شعارات اخرى، "الشعب يريد إسقاط الفصائل". وما أثار غضب الناس ظهور بعض القياديين بسياراتهم الفارهة، مع مرافقيهم المسلحين، ومحاولاتهم إلقاء كلمات، في هذه المناخات غير المواتية، ما استفزّ المشيعين، الذين عبروا عن مشاعرهم بقذف القياديين بالحجارة، وتوجيه عبارات لاذعة لهم. وقد تفاقم الأمر مع اطلاق بعض المرافقين الرصاص في الهواء، ما زاد النار اشتعالا، وأخرج المتظاهرين عن طورهم، وهو ما تجلى بتوجههم في تظاهرة حاشدة إلى مجمع الخالصة (التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة)، للتنفيس عن غضبهم هناك.
 
المشكلة أن هؤلاء قوبلوا، من قبل حراسات المجمع، بالرصاص (بداية في الهواء وعلى الأرض)، ما أدى إلى وقوع إصابات، أجّجت بدورها مشاعر الغضب ضد "المجمع" ومن فيه، ما أدى الى اقتحامه وحرقه، ومصرع عدد من المهاجمين والمحاصرين (من الفصيل المعني)، في مشهد مؤسف استمر ساعات عديدة، وكان يمكن تفاديه، لو تم تفريغ المجمع من العناصر البشرية، ولو تحلى قياديو الجبهة بالحكمة والصبر والتفهم، لامتصاص غضب الثائرين.
 
الآن، وبغض النظر عن التفاصيل، ربما من المفيد، والأجدى، النظر إلى ماجرى من زاوية أشمل وأبعد وأعمق، وعدم حصر الأمر بما تمثله الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، من انحيازات سياسية في الساحة الفلسطينية، لاسيما في الظروف السورية الراهنة، على أهمية ذلك، في الوجدان والوعي الشعبيين عند الفلسطينيين.
 
 ففي حقيقة الأمر فقد حصل ما حصل بسبب غضب الناس من هيمنة الفصائل على الحياة السياسية، ووصايتها على الشعب، وتقييدها للحراكات الشبابية. وحصل ما حصل بسبب حال الضياع، والفراغ، وانعدم الأمل، التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون بعد انسداد الحلول السياسية، ولا سيما بعد أن تهمشت منظمة التحرير (كيانهم السياسي والمعبر عن قضيتهم)، وبعد أن تلاشت أطرهم الجمعية (كالاتحادات والمنظمات الشعبية) وغيرها من الهيئات والأجهزة المركزية للمنظمة.
 
وحصل ما حصل بسبب الغربة عن الفصائل، وغربة الفصائل عن شعبها، لاسيما أن هذه الفصائل لا تعتمد في مواردها، ولا حتى في تعيين مكانتها، على شعبها، بقدر ما تعتمد الخارج. ومعلوم أن توزّعات المكانة وتوازنات القوى في النظام الفلسطيني السائد، ترتكز على حيازة الفصائل موارد مالية وأجهزة عسكرية ونفوذاً إقليمياً، أكثر مما ترتكز على مكانتها التمثيلية، في المجتمع الفلسطيني.
 
وما يزيد من حال الغضب عند الفلسطينيين على كياناتهم السياسية شيوع علاقات الفساد والمحسوبية والزبائنية فيها، ما ينطبق على المنظمة والسلطة والفصائل (على تفاوت ذلك بسبب الحجوم المتفاوتة)، لا سيما في ظل غياب أية مراجعة أو مساءلة أو محاسبة، لحال التدهور في القيم الوطنية والسياسية والأخلاقية، في هذه الكيانات.
 
ومشكلة الفلسطينيين مع فصائلهم، أن هذه الفصائل باتت تعيش منذ أكثر من عقدين من الزمن على رصيدها الوطني السابق، بمعنى أنها لم تعد تراكم إنجازات جديدة، بل إن هذه الفصائل المجدبة، باتت تأكل من الانجازات المتحققة في السبعينيات والثمانينيات، بعد أن تراجعت مكانتها عند شعبها، وبعد أن ضمر حجمها، وأفل دورها في مواجهة عدوها، وفي مجال البناء الوطني.
 
وفي حقيقة الأمر فإن هذه الفصائل شاخت حقا، وترهلت بناها، وأفلت روحها النضالية، وتبددت قيمها السياسية والأخلاقية، والأنكى أنها لم تعد قادرة حتى على استيعاب الأجيال الجديدة من الشباب، إن بسبب ضعف الحراكات الديموقراطية فيها، أو بسبب هيمنة طبقة سياسية على مقدراتها وعلى التطورات في داخلها.
 
فوق كل ما تقدم فإن هذه الفصائل حافظت على سلوكات مهينة ومؤذية للمجتمع الفلسطيني، الذي لا يرى قياداته (في أغلب الأحوال) إلا في نهاية تشييع جنازات الشهداء (لا في أولها!)، وفي مهرجانات الانطلاقة السنوية لكل فصيل، ولغرض الاستعراض، وتوجيه الاتهامات، من قياديين أغلبهم يكرّر معزوفته، التي باتت ممجوجة، في كل عام، وفي واقع فلسطيني يسير نحو التدهور والضياع. والأنكى أن هؤلاء القيادات يحضرون إلى المخيمات (كون بيوتهم ومكاتبهم خارجها)، والتي يعيش أغلبية سكانها في حال من الإحباط والبؤس والفقر، بكامل أبهتهم، وبسياراتهم الفارهة، محاطين بعديد من المرافقين الأقوياء والمسلحين جيدا، والمجهزين حتى بوسائل اتصالات حديثة (على طريقة رامبو)، لكأنهم هابطون من كوكب آخر، أو لكأنهم ذاهبون إلى منطقة معادية.
 
تبقى كلمة أخيرة، بخصوص مشهد العنف، في اليوم المذكور، فبديهي أن العنف مرفوض ومدان، من أي جهة جاء، ومع ذلك يجدر التمييز بين العنف المنظم، والعفوي، الذي ينجم عن ردة فعل، آنية وظرفية. فمهما كان الأمر، لا يمكن تبرير إطلاق النار، من بنادق يفترض أنها بنادق مقاومة، ضد الشعب.
 
ولنكن واضحين فإن الفصائل ذاتها، هي التي أشاعت ثقافة وسلوكات العنف في المجتمع الفلسطيني، أولا، باختزالها بناها إلى مجرد بنى ميليشيوية وأمنية، على حساب البنى الحزبية والجماهيرية. وثانيا، باتجاهها مرارا لحسم الخلافات الداخلية، والبينية، من طريق العنف المسلح، في تجارب عديدة (من الأردن إلى لبنان وسورية والضفة وقطاع غزة). وثالثا، بتغييبها العلاقات الديمقراطية، وتهميشها الهيئات الشرعية، واعتمادها لغة التخوين والاستئصال وعدم قبول الآخر. ورابعا، باستعلائها على شعبها، وعدم إشراكه بالتقرير بشأن مصيره ومستقبله.
 
اللافت أن القوى المعنية، والمختلفة، لم تستوعب جيدا ما حصل، ولم تستنتج العبر المناسبة منه، وهذا ما بدا من البيانات والتصريحات الصادرة في رام الله، وكذا من البيانات التي أصدرتها بعض الفصائل من دمشق، فكل طرف فسر ما يجري بطريقة تخدمه. أما البيان الذي أصدرته الجبهة الشعبية (القيادة العامة)، فكان بمثابة غلطة مكررة، بيّنت فيها أنها لم تستوعب ما جرى، ولم تستنتج الدروس المتوخاة منه، وإنها بدلا من النقد الذاتي، والاعتذار للشعب، ذهبت إلى حد التهرب من مسؤوليتها عما حصل (لجهة عدم تفريغ المجمع لتلافي الاصطدام وتنفيس غضب الناس، أو لجهة إطلاق النار على المتظاهرين). بل إن هذه الجبهة وصلت حد توجيه اتهامات العمالة والتخوين للجماهير الثائرة، والأنكى أنها ذهبت حد إقحام سوريا في مشكلة داخلية فلسطينية (في ظروف جد حرجة ودقيقة)؛ في كلام ينم عن خفة، وعدم مسؤولية من الناحيتين السياسية والأخلاقية.
 
والخلاصة فإن ما جرى هو رسالة ذات مغزى وعلى جميع قيادات الفصائل، في رام الله وفي دمشق، استيعابها واستنباط العبر منها، بدلا من العناد والمزايدات والتوظيفات. فما جرى ربما يمثل إرهاصات مرحلة يجري فيها القطع مع النظام السياسي الفلسطيني الفصائلي، الذي انتهى دوره من الناحية العملية، وربما يمهد لمرحلة سياسية جديدة، محمولة على رياح الثورات الشعبية العربية، وآتية مع صعود قطاعات جديدة من الشباب تريد أن تسمع صوتها؛ هذا ما حصل في ميادين وشوارع المدن العربية، وهو ربما ما يحصل في الشارع الفلسطيني.

التعليقات