25/06/2011 - 15:33

قرار تقسيم فلسطين عام 1947../ عادل مناع*

* د. عادل مناع هو مؤرخ ومختص بتاريخ فلسطين والفلسطينيين في العهد الحديث ومنذ العهد العثماني. أنهى مؤخراً بمشاركة بروفيسور موطي جولاني كتاب "الاستقلال والنكبة – سرديتان حول حرب 1948". يصدر قريبا عن IHJR & Republic of Letters Publishing, The Netherlands

قرار تقسيم فلسطين عام 1947../ عادل مناع*
بلغ عدد سكّان فلسطين في تشرين الثاني عام 1947 نحو مليوني نسمة، أكثر من ثلثيهم عرب (1.3 مليون) وأقلّ من الثلث (630 ألفًا) من اليهود. ورغم أنّ عرب فلسطين شكّلوا غالبيّة أهالي البلاد، قرّرت الأمم المتّحدة، بغالبيّة أعضائها حينذاك، تقسيم البلاد خلافًا لرغبة سكّان البلاد الأصلانيّين. كما أنّها في قرارها ذي الرقم 181 في 29.11.1947 قرّرت تخصيص نحو 55% من أراضي فلسطين لإقامة دولة اليهود الذين لم يملكوا حتّى ذلك الحين إلاّ 7% من أراضي فلسطين. أمّا الفلسطينيّون، أصحاب البلاد الأصليّون وغالبيّة السكان حتّى ذلك الحين، فلم يخصّص قرار التقسيم لهم سوى 45% من أراضي البلاد.
 
كذلك إنّ هذا القرار قطع أوصال الشعب الفلسطينيّ وجعل نحو نصف مليون من أفراده أقلّيّة في الدولة اليهوديّة. لذا، لم يكن من الغريب قَطّ أن يقابّل هذا القرار بمعارضة الفلسطينيّين بخاصّة، والعرب بعامّة. وفي المقابل، إنّ قرار الأمم المتّحدة لقي ترحيبًا كبيرًا في أوساط "الييشوف" اليهوديّ لأنّه سمح بإقامة دولة إسرائيل على أنقاض وطن الفلسطينيّين وخراب بيوتهم.
 
لقد عرف الفلسطينيّون أنّ إقامة دولة اليهود في فلسطين لن تكون إلاّ على حساب خراب بيوتهم وضياع وطنهم، فعارضوا الصهيونيّة ومشروعها. ولمّا عارض الفلسطينيّون قرار التقسيم عام 1947، صارت هذه المعارضة الطبيعيّة ورقة رابحة في يد إسرائيل وحلفائها لتبرير كلّ الجرائم التي ارتُكبت بحقّهم منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا. واليوم، بعد مرور 63 عامًا على إقامة دولة اليهود، ومرور 44 عامًا على احتلال غزّة والضفّة الغربيّة، يعيش في فلسطين التاريخيّة نحو 11 مليون نسمة منهم 5.8 مليون يهوديّ ونحو 5.5 مليون فلسطينيّ. ورغم ذلك، ترفض إسرائيل رفضًا شديدًا إنهاءَ الاحتلال، والعودةَ إلى حدود عام 1967 كي يقيم الفلسطينيّون دولتهم المستقلّة على 22% فقط من فلسطين التاريخيّة. على خلفيّة هذا الواقع، يجدر بنا هذه الأيّام قراءة قرار التقسيم عام 1947 وتبعاته، لاستخلاص العبر التاريخيّة والسياسيّة المتعلّقة بفكرة تقسيم البلاد كحلّ أمثل للصراع الصهيونيّ- الفلسطينيّ.
 
كان قرار الأمم المتّحدة ذو الرقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947-دون الأخذ برأي سكّانها الأصليّين، المعارضين لتقسيم بلادهم- كان فاتحةً للحرب والنكبة التي حلّت عام 1948 بالعرب عامّة والفلسطينيّين خاصة. ومن الطرف الآخر، إنّ هذا القرار كان تتويجًا لنجاحات الحركة الصهيونيّة بشرعنة مشروعها في إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على حساب أهلها الأصلانيّين. وكان وعد بلفور في بداية نوفمبر عام 1917 الخطوةَ الأولى على الطريق الطويل الذي قاد إلى قرار التقسيم في أعقاب الحرب العالميّة الثانية.
 
 أمّا الخطوة الثانية والأهمّ، فكانت نجاح الحركة الصهيونيّة في جعل وعد بلفور جزءًا لا يتجزّأ من صكّ الانتداب البريطانيّ وسياسته منذ عام 1922. ورغم أنّ اليهود لم يشكّلوا آنذاك سوى 10% من سكّان فلسطين، فإنّ وعدَ بلفور، وسياسةَ الانتداب البريطانيّ المدعومة من عصبة الأمم، أعطيا لليهود حقوقًا قوميّة في فلسطين لا تقلّ عن حقوق أهلها الأصليّين. ثمّ جاء اقتراح لجنة بيل عام 1937، ليكشف جانبًا خطيرًا من سياسة بريطانيا المتجاهلة لحقوق الفلسطينيّين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلّة. فقد تضمّن اقتراح التقسيم عام 1937 إقامةَ دولة يهوديّة من جهة، وضمّ بقيّة أراضي فلسطين تحت حكم أمير شرق الأردن، عبد الله ابن الحسين. هذا الاقتراح أشعل فتيل الثورة مجدَّدًا، فتراجعت بريطانيا بعضَ تراجُعٍ عن سياستها الداعمة للمشروع الصهيونيّ في الكتاب الأبيض الذي أصدرته في أيّار 1939.
 
ثمّ جاءت الحرب العالميّة الثانية بويلاتها الكثيرة التي شملت الكارثة التي حلّت باليهود في أوروبا، فأفرزت مستجدّات سياسيّة دوليّة ساهمت في اتّخاذ قرار التقسيم عام 1947. كان أوّل تلك المستجدّات تأخُّر مكانة دول الاستعمار القديم (وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا)، وصعود دَوْر الدولتين العظميين الجديدتين: الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتيّ. هاتان الدولتان سارعتا إلى التنافس في ما بينهما على سدّ الفراغ الذي تركه الزوال التدريجيّ للاستعمار القديم، فكانت الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسماليّ والاشتراكيّ بقيادة كلّ من الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتيّ. لقد كسبت الصهيونيّة، بعد الحرب العالميّة الثانية، عطفًا أكبر من ذي قبل على مشروعها بإقامة دولة يهوديّة في فلسطين. فالكارثة التي حلّت بيهود أوروبا، ومناظر الناجين من معسكرات النازيّة، أثارت كذلك عقدة الذنب عند الكثيرين في الغرب فسارعوا بعد سنة 1945 إلى تأييد مشروع الدولة اليهوديّة. هكذا تسارعت الأحداث على الساحة الدوليّة -من جهة-، والمحلّـيّة في فلسطين -من جهة أخرى-، فأدّت إلى اتّخاذ قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين.
 
أدّى انتهاء الحرب العالميّة الثانية إلى تجدُّد الصراع بين العرب واليهود في فلسطين. وبينما طالب العرب بريطانيا باستمرار تطبيق الكتاب الأبيض الذي يحدّد الهجرة اليهوديّة ويضع قيودًا على شراء الأراضي، فإنّ اليهود هم الذين قرّروا هذه المرّة محاربة السياسة البريطانيّة بالعنف والإرهاب. وفي تمّوز عام 1946، نجح تنظيم "إيتسل" في تفجير فندق الملك داوود في القدس (الفندق الذي ضمّ مكاتب إدارة حكومة الانتداب)، وأسفرت هذه العمليّة الإرهابيّة عن مصرع عشرات البريطانيّين والعرب واليهود، وجَرْح آخرين.
 
هذه العمليّة، وغيرها من الأعمال ضدّ بريطانيا وجنودها في المنطقة، أدّت إلى طرح فكرة إنهاء الانتداب ونقل قضيّة مستقبل فلسطين إلى الأمم المتّحدة. ففي أيّار عام 1947، عقدت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة جلسة خاصّة في نيويورك، ابتغاء مناقشة مستقبل الانتداب البريطانيّ في فلسطين. وكانت مفاجأة هذه الجلسة قيام المندوب السوفييتيّ أندريه غروميكو بإعلان تأييد حقّ اليهود في دولة خاصّة بهم في فلسطين. هذا الموقف السوفييتيّ المفاجئ ساهم مساهمة فائقة في اتّخاذ قرار تعيين لجنة خاصّة من الأمم المتّحدة لتقصّي الحقائق (unscop).
 
قاطع الفلسطينيّون بصورة عامّة عمل هذه اللجنة التي حضرت إلى البلاد في الشهرين حزيران وتمّوز عام 1947، بينما تعاون معها الطرف اليهوديّ وساهم كثيرًا في بلورة التقرير الذي جرت صياغته في جنيف. وقد أوصى تقرير اللجنة الذي نُشر في آب عام 1947 بإنهاء الانتداب الذي كان لبريطانيا في فلسطين منذ عام 1922. كما أوصت اللجنة بغالبيّة أعضائها بتقسيم فلسطين وإقامة دولتين: واحدة عربيّة وأخرى يهوديّة، وإبقاء منطقة القدس تحت الإشراف الدوليّ. هكذا بدأت عمليّة العدّ التنازليّ لإنهاء الحكم البريطانيّ في فلسطين والانحدار نحو نشوب صراع دمويّ بين العرب واليهود في البلاد. لقد نجحت قيادة الصهيونيّة باستغلال عقدة الذنب من جهة، والحرب الباردة التي نشأت بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتيّ من جهة أخرى لصالحها. أمّا القيادة الفلسطينيّة، فقد تمسّكت بحقّ الفلسطينيّين الطبيعيّ على بلادهم، ورفضت التعامل مع الواقع السياسيّ المستجدّ في أعقاب المحرقة خاصّة، ونتائج الحرب العالميّة الثانية عامّة. هكذا وجد الفلسطينيّون أنفسهم يدفعون ثمن ما عاناه اليهود في أوروبا منذ انتشار اللا ساميّة في أواخر القرن التاسع عشر حتّى جرائم النازيّة في الحرب العالميّة الثانية.
 
حاول الفلسطينيّون، ومؤيّدوهم من العرب والمسلمين، إقناعَ العالم بعدالة قضيّتهم وحقّهم الطبيعيّ في عدم تقطيع أوصال وطنهم حسب قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتّحدة في 29.11.1947. كان عدم نجاح الفلسطينيّين في إقناع العالم هو بداية النكبة التي حلّت بهم منذ عام 1948. المنطق نفسه الذي دفع معظم دول الأمم المتّحدة إلى قبول تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديّة في فلسطين هو الذي حمل دولاً كثيرة ألاّ ترى إلاّ اليهودَ ضحيّةً بعد الحرب العالميّة الثانية. هكذا اجتمع المعسكران الشرقيّ (الاشتراكيّ) والغربيّ (الرأسماليّ) في دعمهما السياسيّ (ثمّ العسكريّ لاحقًا) لإقامة الدولة اليهوديّة وإزالة فلسطين عن خارطة العالم. فقرار التقسيم كان فاتحة النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطينيّ الذي فقد وطنه، وأضحى معظم أفراده لاجئين. فهل بعد 44 عامًا من احتلال إسرائيل لبقيّة أجزاء فلسطين في حزيران 1967، سوف تعوِّض الأمم المتّحدة الشعبَ الفلسطينيّ بالاعتراف بدولته المستقلّة في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة إلى جانب دولة إسرائيل التي قامت على 78% من أراضي فلسطين؟ 
 
 
* د. عادل مناع هو مؤرخ ومختص بتاريخ فلسطين والفلسطينيين في العهد الحديث ومنذ العهد العثماني. أنهى مؤخراً بمشاركة بروفيسور موطي جولاني كتاب "الاستقلال والنكبة – سرديتان حول حرب 1948". يصدر قريبا  عن IHJR & Republic of Letters Publishing, The Netherlands
 
 
عن مجلة جدل، العدد العاشر، مدى الكرمل

التعليقات