19/07/2011 - 14:53

التدخل الأجنبي ليس تفصيلاً عابراً../ معن بشور

لم يعد التدخل الأجنبي، بشتى أشكاله وأصنافه، مجرد تفصيل عابر في مسار الحراك الشعبي العربي، بل بات محوراً رئيسياً من محاور الفعل والتأثير والالتفاف على هذا الحراك

التدخل الأجنبي ليس تفصيلاً عابراً../ معن بشور
لم يعد التدخل الأجنبي، بشتى أشكاله وأصنافه، مجرد تفصيل عابر في مسار الحراك الشعبي العربي، بل بات محوراً رئيسياً من محاور الفعل والتأثير والالتفاف على هذا الحراك.
 
وبدون شك  إن سرعة رياح الثورة التونسية الرائدة، والثورة المصرية المجيدة، قد فاجأت مهندسي السياسات الغربية والإسرائيلية الذين ظنوا أن أمر المنطقة العربية الإسلامية قد استتب لهم، وأن الأنظمة التي قامت على ثلاثية الفساد والاستبداد والتبعية قد باتت منيعة إلى الحد الذي يسمح لها أن توغل في تحدي مصالح مواطنيها ومشاعرهم إلى أبعد الحدود، دون أن يهددها أي انفجار شعبي أو حراك ثوري، لا بل كان مهندسو هذه السياسات يرون في حركات وقوى المقاومة والممانعة في الأمة مجرد بقايا من مرحلة مضت وانقضت ولن يطول بقاؤها.
 
لكن القدرة على  التكيّف الاستعماري مع المستجدات، وهي بالأصل سمة براغماتية أصيلة تحرك عادة العقل الرأسمالي الاحتكاري الريعي، مكّنت قوى التدخل الأجنبي من الانتقال من حال ارتباك في اللحظات الأولى في تونس ومصر، إلى خطط هجومية ترمي إلى الالتفاف على ما تم انجازه في الثورتين الرائدتين، وإلى مصادرة مسارها كما في ليبيا، والى التهوين من حقيقة الحراك الشعبي وطمس جوهره  كما في  البحرين والى المناورة لتعطيل انتصار الثورة كما في اليمن وصولاً إلى ما يمكن تسميته بإشعال الفتنة وإثارة الفوضى عبر استخدام مطالب شعبية مشروعة لخدمة أجندات استعمارية مشبوهة كما في سوريا، ناهيك عن إيقاظ مستمر للغرائز والعصبيات في المختبر الدائم لها كما في لبنان.
 
ولقد تجلّت الصورة الأشد وضوحاً لهذا التدخل من خلال الاحتلال المباشر وما يرافقه من جرائم وانتهاكات، كما نرى في فلسطين منذ عقود، وكما نرى في العراق بعد حرب 2003 التي سبقها حصار غير مسبوق ذهب ضحيتهما معاً ( الحصار والحرب) أكثر من مليوني عراقي أكثرهم من الأطفال والنساء في ما أعتبر من أقسى  جرائم الإبادة جماعية وجرائم الحرب  والجرائم ضد الإنسانية، والتي لم يتحرك حتى الآن ما يسمى بالمجتمع الدولي لإدانتها أو لمحاكمة المسؤولين عنها من ضمن مبدأ "عدم الإفلات من العقاب" الذي يتردد صداه كثيراً هذه الأحيان. لولا مبادرة لافتة قادها في بيروت منذ عام ونيّف وزير العدل الأمريكي السابق  رمزي كلارك، والمحامي المغربي خالد السفياني، والناشط المصري د. أشرف البيومي، ورهط من القانونيين العرب والأجانب الشجعان لبقيت جريمة العصر في العراق وافغانستان دون اعتراض يذكر أو مقاضاة ولو شكلية أمام العدالة الدولية.
 
لذلك ينبغي أن يتحّول رفض التدخل الأجنبي بكل عناوينه ومضامينه إلى مبدأ رئيسي في حياة أمتنا لا نقايضه بأمر آخر، أو نساوم عليه، أو نصمت على مفاعيله، أو نتذاكى في استغلال له أو التقاطع معه، أو نميّز بين أشكاله وعناوينه، خصوصاً بعد أن أثبتت تجاربنا على مدى العقود، بل القرون، أن ما من تدخل أجنبي، تسلل إلى بنانا، بالسياسة أو الحرب أو بالإعلام أو بالثقافة أو بالتربية أو بالقضاء أو بالاقتصاد (وخصوصاً الاقتصاد) إلا وحمل معه كل عناصر الخراب لأمتنا ودولها.
 
ومبدأ رفض التدخل الأجنبي لا ينحصر برفض التدخل العسكري، كما يظن البعض، خصوصاً أن هذا التدخل لم يعد ممكناً بعد الذي رأيناه في العراق وجنوب لبنان وغزة وأفغانستان وباكستان وصولاً إلى مغامرة "الناتو" الفاشلة التي ظلمت  تطلعات الشعب الليبي العظيم وانتفاضته دون أن تطيح بالنظام.
 
ورفض التدخل الأجنبي، دولياً كان أم إقليمياً، لا ينطلق من تمسك الشعوب بحريتها واستقلالها فحسب، بل يصدر كذلك عن قراءة واقعية لأهداف هذا التدخل وآليات عمله ومنظومة علاقاته حيث كانت كلها تصب فيما اصطلح على تسميته "بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ"... خصوصاً بعد أن جرى استبدال منظومات هذا التدخل القديمة، المعروفة بسايكس- بيكو، ومشروع الدفاع المشترك وحلف بغداد  ومبدأ إيزنهاور، بمنظومة الشرق الأوسط الجديد وآليتها الشهيرة "الفوضى الخلاقة".
 
من هنا فرفض التدخل الأجنبي هو مقاومة لكل أشكاله وصيغه السياسية فيها ( وما أكثر تصريحات أركانه "ومبادراتهم")، أو الإعلامية (وما أضخم أدواته ووسائله الإعلامية وأوسع تأثيرها) والاقتصادية (وما أبرع وصفاته المالية والنقدية في هيكلة الاقتصاد وإفقار الشعوب) أو الثقافية ( وما أدهى وسائل تدميره لمكونات هويتنا القومية والحضارية) أو القضائية ( وما أقدر محاكمه الدولية على تسييس العدالة والكيل بمكيالين في جرائمها) أو التربوية (وما أذكى أنظمة الاستلاب التعليمية ومناهجه المعتمدة)، أو الاجتماعية ( وما أسخى عطاءاته لشبكات المجتمع المدني التي تلتصق برزناماته  وخططه).
 
والذي يحاول اليوم أن يهوّن من مخاطر التدخل الأجنبي أمام مخاطر الفساد والاستبداد ينسى أو يتناسى أن أنظمة الفساد والاستبداد لم يكن لها أن تعمّر كل هذه العقود لولا "رعاية" خاصة من قوى الاستعمار والصهيونية، وهي "رعاية" لا يعادلها في خطورتها  إلا "الشراسة" التي كانت تواجه بها هذه القوى الخارجية كل حركة أو جماعة أو قوة لا ترتضي الخنوع والخضوع والانصياع لمشيئتها.
 
قد يبدو التذكير بمخاطر التدخل الأجنبي في غمرة الانشغال باحتجاجات وانتفاضات وثورات، بل في غمرة الاستغراق في عنف وعنف مضاد، وكأنه دعوة للانصراف عن أولويات ملحة، فيما هي في الحقيقة دعوة لتحصين مطالب محقة من أعاصير لا تهدد هذه المطالب وحدها، بل تهدد مصير الوطن، ووحدته واستقراره، فحين تنهار الأوطان تتبدد كل المطالب والحقوق. فهل يعقل أن يصبح جلادو شعوبنا على مدى الأزمان منقذين لنا، منافحين عن حقوقنا، في آخر الأزمان.

التعليقات